لقد كان اختياراً بالغ الأهمية. قبل ثلاثة عقود، انتهت الحرب الباردة، وانتصرت الولايات المتحدة، فأصبحت القوة العظمى الوحيدة على وجه الكوكب. وعند استكشافهم الآفاق والاحتمالات رصداً للتهديدات، بدا أن صانعي السياسة الأميركيين لم يجدوا ما يدعو للقلق - ولا سيما بشأن الصين، باعتبارها دولة ضعيفة وفقيرة كانت متحالفة مع الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفياتي لأكثر من عقد من الزمان، لكن كانت هناك مؤشرات تنذر بالشؤم، وهي أن عدد سكان الصين يبلغ نحو خمسة أضعاف عدد سكان الولايات المتحدة، وقد تبنى قادتها الإصلاح الاقتصادي. ولأن حجم السكان والثروة هما اللبنات الأساسية للقوة العسكرية، كان هناك احتمال جدي بأن تصبح الصين أقوى بشكل كبير في العقود القادمة. ونظراً لأن الصين ستتحدى بالتأكيد موقف الولايات المتحدة في آسيا وربما خارجها إذا ازدادت قوة، كان إبطاء صعود الصين الخيار المنطقي الواضح الذي كان ينبغي أن تتبناه الولايات المتحدة.
لكن بدلاً من ذلك، دعمت الولايات المتحدة هذا الصعود. ولقد انخدعت الإدارات الديمقراطية والجمهورية، على حد سواء، بنظريات لم تكن مصيبة حول انتصار الليبرالية الحتمي وتقادم صراع القوى العظمى، فالتزمت سياسة الانخراط [التزام تبادل المصالح]، التي كان الهدف منها مساعدة الصين على الازدياد ثراءً. وفي هذا الصدد، شجعت واشنطن الاستثمار في الصين ورحبت بها في نظام التجارة العالمي، معتقدة أنها ستصبح ديمقراطية محبة للسلام وشريكة مسؤولة في نظام دولي بقيادة الولايات المتحدة.
لقد كان هذا، بطبيعة الحال، محض خيال، لذا لم يتحقق أبداً. وبعيداً من اعتناق القيم الليبرالية في الداخل والوضع القائم في الخارج، أصبحت الصين أكثر قمعية وطموحاً مع صعودها وتعاظم قوتها. وبدلاً من تعزيز الانسجام بين بكين وواشنطن، فشل الانفتاح على الصين في الحيلولة دون اندلاع التنافس وعجل بنهاية ما يسمى بالعالم الأحادي القطبية. نتيجة لذلك، وجدت كل من الصين والولايات المتحدة نفسها اليوم في ما يمكن وصفه فقط بحرب باردة جديدة، وهي منافسة أمنية محتدمة تشمل كل أبعاد العلاقة بينهما. وسيختبر هذا التنافس صانعي السياسة الأميركيين أكثر مما فعلت الحرب الباردة الأصلية، لأن الصين من المرجح أن تكون منافساً أقوى مما كان الاتحاد السوفياتي في ذروته. ومن المرجح أيضاً أن تتحول هذه الحرب الباردة إلى حرب ساخنة.
لا شيء من هذا ينبغي أن يكون مفاجئاً، لأن الصين تتصرف تماماً كما تقتضي الواقعية. من يستطيع أن يلوم القادة الصينيين على سعيهم للسيطرة على آسيا وجعل بلدهم أقوى دولة على هذا الكوكب؟ بالتأكيد ليست الولايات المتحدة، التي سعت وراء أجندة مماثلة وصعدت لتصبح قوة مهيمنة في منطقتها، وفي النهاية الدولة الأكثر أماناً وتأثيراً في العالم. كما أن أميركا تتصرف أيضاً اليوم تماماً كما يقتضي المنطق الواقعي. وكما وقفت منذ فترة طويلة ضد ظهور دول أخرى مهيمنة إقليمياً، ترى الآن أن طموحات الصين تمثل تهديداً مباشراً لها وهي مصممة على كبح صعودها المستمر. لذا فإن النتيجة الحتمية هي المنافسة والصراع، وتلك هي مأساة سياسات القوى العظمى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن ما كان يمكن تفاديه هو سرعة ومدى الصعود الخارق للصين. فلو كان صانعو السياسة في الولايات المتحدة في عصر القطب الواحد يفكرون فيما يتعلق بسياسات توازن القوى، لكانوا حاولوا إبطاء الصعود الصيني وزيادة فجوة القوة بين بكين وواشنطن إلى أقصى حد، لكن بمجرد أن أصبحت بكين ثرية، كانت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين أمراً حتمياً. ربما كان الانخراط هو أسوأ خطأ استراتيجي ارتكبته أي دولة في التاريخ الحديث: لا سابقة مشابهة من هذا النوع أي لم يسبق أن سعت قوة عظمى سعياً حثيثاً إلى تعزيز صعود منافس لها، والآن فات الأوان للقيام بشيء يذكر يعالج الأمر.
مبادئ الواقعية
بعد فترة وجيزة من الشقاق الصيني - السوفياتي في الستينيات، عمل القادة الأميركيون - بحكمة - على دمج الصين في النظام الغربي ومساعدتها على النمو اقتصادياً، معتبرين أنها إذا صارت أكثر قوة ستكون قادرة بشكل أفضل على المساعدة في احتواء الاتحاد السوفياتي، لكن بعد ذلك انتهت الحرب الباردة، مما أثار هذا التساؤل: كيف ينبغي على صانعي السياسة الأميركيين التعامل مع الصين الآن بعد انتفاء الحاجة إليها لضبط التوازن مع موسكو؟ كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الصين واحداً من 75 حجم نظيره في الولايات المتحدة، ولكن بالنظر إلى الميزة [الناجم عن التفوق] السكانية للصين، إذا نما اقتصادها بسرعة في العقود المقبلة، فيمكن أن تتفوق على الولايات المتحدة على مستوى القوة الاقتصادية المطلقة. وببساطة، كانت عواقب زيادة ثراء الصين على توازن القوى العالمي هائلة.
من منظور واقعي، كان احتمال تحول الصين إلى عملاق اقتصادي بمثابة كابوس. ولن يعني ذلك فقط نهاية القطبية الأحادية، بل من المؤكد أن الصين الثرية ستبني أيضاً جيشاً هائلاً، حيث تعمل الدول الغنية والمكتظة بالسكان بتحويل قوتها الاقتصادية دائماً إلى قوة عسكرية. ومن شبه المؤكد أن تستخدم الصين هذا الجيش للسعي وراء الهيمنة في آسيا وإبراز قوتها في مناطق أخرى من العالم. وبمجرد أن تفعل ذلك، لن يكون أمام الولايات المتحدة خيار سوى احتواء القوة الصينية، إن لم تحاول دحرها، ما سيثير منافسة أمنية خطيرة.
لكن، لماذا القوى العظمى محكوم عليها بالتنافس؟ لا يخفى على المبتدئين غياب سلطة أعلى للفصل في النزاعات بين الدول أو حمايتها عندما تتعرض للتهديد. كما أنه لا يمكن لأي دولة أن تتيقن من أن منافساً - بخاصة إذا كان ذا قوة عسكرية كبيرة - لن يهاجمها، لأنه من الصعب التكهن بنوايا المنافسين. لذا ترى الدول أن أفضل طريقة للحفاظ على بقائها في عالم تسوده الفوضى هي أن تكون أقوى فاعل على الإطلاق، وهو ما يعني عملياً أن تكون قوة مهيمنة، في منطقتها وأن تحرص على عدم سيطرة أي قوى عظمى أخرى على مناطقها.
كان تحويل الصين إلى قوة عظمى وصفة للمشاكل
كان هذا المنطق الواقعي مصدر إلهام للسياسة الخارجية للولايات المتحدة منذ البداية. لقد عمل الرؤساء الأوائل وخلفاؤهم بجد لجعل الولايات المتحدة أقوى دولة في النصف الغربي من الكرة الأرضية. وبعد تحقيق الهيمنة الإقليمية في بداية القرن العشرين، لعبت الدولة دوراً رئيساً في منع أربع قوى عظمى من الهيمنة على آسيا أو أوروبا: فقد ساعدت على هزيمة ألمانيا الإمبراطورية في الحرب العالمية الأولى وكل من الإمبراطورية اليابانية وألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، واحتوت الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة. كانت الولايات المتحدة تخشى هؤلاء المهيمنين المحتملين ليس فقط لأنهم قد يصبحون أقوياء بما يكفي ليصولوا ويجولوا في الشطر الغربي من المعمورة، ولكن أيضاً لأن ذلك سيصعب على واشنطن فرض قوتها عالمياً.
تتصرف الصين وفقاً لنظير هذا منطق الواقعي، بل في الواقع تقلد الولايات المتحدة. إنها تريد أن تكون أقوى دولة في حديقتها الخلفية وفي العالم، في نهاية المطاف. إنها تريد بناء قوة بحرية في المياه العميقة لحماية وصولها إلى نفط الخليج. كما تريد أن تصبح أكبر منتج للتكنولوجيا المتقدمة وإنشاء نظام دولي أكثر ملاءمة لمصالحها. سيكون من الحماقة أن تفوت الصين القوية فرصة السعي وراء هذه الأهداف.
لا يدرك معظم الأميركيين أن بكين وواشنطن تتبعان نفس قواعد اللعبة، لأنهم يعتقدون أن الولايات المتحدة ديمقراطية نبيلة تتصرف بشكل مختلف عن الدول الاستبدادية والقاسية مثل الصين، لكن السياسة الدولية لا تدور على هذا المنوال. إن جميع القوى العظمى، سواء أكانت ديمقراطية أم لا، لا تملك خياراً سوى التنافس على السلطة فيما هو في الأصل لعبة محصلتها صفر. هذه الحتمية هي التي كانت تحفز كلتا القوتين العظميين خلال الحرب الباردة، وهي تحفز الصين اليوم وكانت ستحفز قادتها حتى لو كانت ديمقراطية. كما تحفز القادة الأميركيين أيضاً، ما يجعلهم مصممين على احتواء الصين.
وحتى لو رفض المرء هذا التفسير الواقعي، الذي يؤكد دور القوى البنيوية المحركة للمنافسة بين القوى العظمى، حري بقادة الولايات المتحدة أن يدركوا أن تحويل الصين، من بين جميع البلدان، إلى قوة عظمى كان وصفة للمتاعب. ففي النهاية، سعت منذ فترة طويلة لتسوية نزاعها الحدودي مع الهند بشروط مواتية لها، كما أن لديها أهدافاً تنقيحية واسعة في شرق آسيا. فقد أعرب صانعو السياسة الصينيون باستمرار عن رغبتهم في إعادة دمج تايوان، واستعادة جزر دياويو (المعروفة في اليابان باسم جزر سينكاكو) من اليابان، والسيطرة على معظم بحر الصين الجنوبي - وكلها أهداف سيقاومها بشدة لا محالة جيران الصين، بالإضافة إلى الولايات المتحدة. لطالما كانت لدى الصين أهداف مراجعة [تصبو إلى إعادة النظر في النظام العالمي الحالي]. كان الخطأ هو السماح لها بأن تصبح قوية بما يكفي لتتجرأ علي السعي لتحقيقها.
الطريق الذي لم يسلك
لو تقبل صانعو السياسة في الولايات المتحدة منطق الواقعية، لكان في متناولهم التزام مجموعة واضحة من السياسات لإبطاء النمو الاقتصادي الصيني والحفاظ على فجوة الثروة بينها وبين الولايات المتحدة. ففي أوائل التسعينيات، كان الاقتصاد الصيني متخلفاً إلى حد كبير، وكان نموها المستقبلي يعتمد بشدة على الوصول إلى الأسواق والتكنولوجيا ورأس المال الأميركي. وباعتبارها عملاقاً اقتصادياً وسياسياً في ذلك الوقت، كانت الولايات المتحدة في وضع مثالي لعرقلة صعود الصين.
اعتباراً من عام 1980، منح رؤساء الولايات المتحدة الصين وضع "الدولة الأكثر تفضيلاً"، وهو تصنيف أعطى البلاد أفضل شروط تجارية ممكنة مع الولايات المتحدة. كان ينبغي أن تنتهي تلك المعاملة التفضيلية مع الحرب الباردة، وكان حرياً بقادة الولايات المتحدة التفاوض على استبدالها باتفاقية تجارية ثنائية جديدة تفرض شروطاً أشد صرامة على الصين. كان ينبغي عليهم فعل ذلك حتى لو كانت الاتفاقية أقل ملاءمة للولايات المتحدة، لأن الاقتصاد الصيني، نظراً لصغر حجمه، كان سيتلقى على الأرجح ضربة أقوى بكثير من الاقتصاد الأميركي. وبدلاً من ذلك، ظل رؤساء الولايات المتحدة بشكل يخلو من الحكمة يمنحون الصين سنوياً تسهيلات وضع الدولة الأكثر تفضيلاً. في عام 2000، ازداد الأمر سوءاً بتحويل هذا الوضع إلى وضع دائم، ما قلل بشكل ملحوظ من نفوذ واشنطن على بكين. في العام التالي، أخطأت الولايات المتحدة مرة أخرى عندما سمحت للصين بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية. ومع افتتاح الأسواق العالمية أمامها، توسعت الشركات الصينية وأصبحت منتجاتها أكثر قدرة على المنافسة، وازدادت الصين قوة.
إلى جانب تقييد وصول الصين إلى نظام التجارة الدولي، كان على الولايات المتحدة أن تقيد بصرامة تصدير التقنيات الأميركية المتطورة. كانت ضوابط التصدير فعالة بشكل خاص في التسعينيات والسنوات الأولى من العقد التالي، عندما كانت الشركات الصينية تنسخ بشكل أساسي التكنولوجيا الغربية، ولا تبتكر من تلقاء نفسها، وكان من شبه المؤكد أن يؤدي حرمان الصين من التقنيات المتقدمة في مجالات الفضاء والإلكترونيات إلى إبطاء تنميتها الاقتصادية، لكن واشنطن سمحت للتكنولوجيا بالتدفق بضوابط قليلة، ما مكن الصين من تحدي الهيمنة الأميركية في مجال الابتكار الحيوي والحاسم. كما ارتكب صانعو السياسة الأميركيون خطأ خفض الحواجز والقيود أمام الاستثمار الأميركي المباشر في الصين، والذي كان ضئيلاً في عام 1990، ولكنه ازدهر على مدار العقود الثلاثة التالية.
لو تعاملت الولايات المتحدة بشدة مع الصين في التجارة والاستثمار، لكانت بكين لجأت بالتأكيد إلى دول أخرى للحصول على المساعدة، لكن كانت هناك حدود لقدرتها في التسعينيات، لأن الولايات المتحدة لم تكن تنتج فقط معظم التقنيات الأكثر تطوراً في العالم، ولكن كانت تمتلك أيضاً العديد من الأدوات - بما في ذلك العقوبات والضمانات الأمنية - التي كان من الممكن استخدامها لإقناع الدول الأخرى باتخاذ موقف أكثر تشدداً تجاه الصين. وكجزء من محاولة تقييد دور الصين في التجارة العالمية، كان بإمكان واشنطن حشد حلفائها مثل اليابان وتايوان، لتذكيرهم بأن تعاظم قوة بكين سيشكل مصدر تهديد وجودياً عليهم.
لكن، بالنظر إلى إصلاحات السوق التي قامت بها وإمكانات القوة الكامنة لديها، كانت الصين ستصعد على الرغم من هذه السياسات. إلا أنها كانت ستصبح قوة عظمى في وقت متأخر جداً، وعندما يحدث ذلك، كانت ستظل أضعف بكثير من الولايات المتحدة، بالتالي لن تكون في وضع يسمح لها بالسعي إلى الهيمنة الإقليمية.
وباعتبار أن القوة النسبية، لا المطلقة، هي ما يعد به في نهاية المطاف في السياسة الدولية، فإن المنطق الواقعي يشير إلى أن صانعي السياسة في الولايات المتحدة كان عليهم أن يواكبوا جهود إبطاء النمو الاقتصادي للصين عن طريق حملة للحفاظ على - إن لم يكن زيادة - تفوق بلادهم على الصين. مثلاً، كان بإمكان حكومة الولايات المتحدة أن تستثمر بكثافة في البحث والتطوير، وتمويل الابتكار الدؤوب المطلوب للحفاظ على السيطرة الأميركية على التقنيات المتطورة. وكان بإمكانها أيضاً العمل بشكل نشط على ثني الشركات المصنعة عن الانتقال إلى الخارج، من أجل تعزيز قاعدة التصنيع في الولايات المتحدة وحماية اقتصادها من سلاسل التوريد العالمية الضعيفة، لكن لم يتم اتخاذ أي من هذه الإجراءات الحكيمة.
رؤية ضالة
بالنظر إلى نزوة الانتصار الليبرالي التي اجتاحت المؤسسات في واشنطن خلال التسعينيات، كانت هناك فرصة ضئيلة لأن يكون التفكير الواقعي مصدر إلهام للسياسة الخارجية الأميركية. بدلاً من ذلك، افترض صانعو القرار في الولايات المتحدة أن يتم تعزيز السلام والازدهار العالميين من طريق نشر الديمقراطية وتشجيع اقتصاد دولي مفتوح وتقوية المؤسسات الدولية. وعند تطبيقه على الصين، اقتضى هذا المنطق اتباع سياسة الانخراط، التي ستلتزمها الولايات المتحدة ساعيةً إلى دمج الصين في الاقتصاد العالمي على أمل أن تصبح بكين أكثر ازدهاراً. وكان الحسبان أن الصين ستنضج، في نهاية المطاف، لتصبح ديمقراطية تحترم الحقوق، ولاعباً عالمياً مسؤولاً. وعلى خلاف الواقعية، التي كانت تخشى النمو الصيني وتبدي الحذر منه، كانت سياسة الانخراط ترحب بهذا النمو.
لقد كان مدى دعم التعاون مع الصين كبيراً بالنظر إلى كون هذه السياسة محفوفة بالمخاطر، وامتد طوال أربع إدارات. كان الرئيس الأميركي جورج بوش الأب ملتزماً بالانخراط مع الصين حتى قبل نهاية الحرب الباردة. ففي مؤتمر بعد مجزرة ساحة تيانانمين عام 1989، برر بوش استمرار الانخراط الاقتصادي مع الصين بالقول إن "الاتصالات التجارية بين الولايات المتحدة والصين هي التي أدت، في الأساس إلى هذا النوع من المطالبة بمزيد من الحرية"، وأن الحوافز الاقتصادية جعلت التحول الديمقراطي أمراً "لا مناص منه". بعد ذلك بعامين، عندما وجهت إليه الانتقادات بسبب تجديده إدراج الصين في خانة الدولة الأجنبية الأكثر تفضيلاً [التي تحظى بمعاملة تفضيلية]، دافع عن التعاون معها مدعياً أن ذلك "سيساعد في خلق مناخ للتغيير الديمقراطي".
من ناحيته، انتقد بيل كلينتون خلال حملته الرئاسية لعام 1992 بوش بسبب "تدليله" للصين، وحاول أن يلعب دور القوي مع بكين بعد انتقاله إلى البيت الأبيض، لكنه سرعان ما تراجع، معلناً في عام 1994 أن الولايات المتحدة يجب أن "تكثف وتوسع انخراطها" مع الصين، مما سيساعدها على "التطور كقوة مسؤولة، تنمو باستمرار ليس فقط اقتصادياً، بل أيضاً في النضج السياسي بحيث يمكنها احترام حقوق الإنسان". هكذا لعب كلينتون دوراً ريادياً في إقناع الكونغرس بمنح الصين وضعية الدولة الأكثر تفضيلاً بشكل دائم، الأمر الذي أرسى أسس انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية. ففي عام 2000 أكد كلينتون أنه "إذا كنت تؤمن بمستقبل يتسم بمزيد من الانفتاح والحرية لشعب الصين، فيجب أن تكون مؤيداً لهذه الاتفاقية".
سيراً على المنوال نفسه، تبنى جورج دبليو بوش جهود إدخال الصين في الحظيرة الاقتصادية العالمية، ووعد كمرشح رئاسي بأن "التجارة مع الصين ستعزز الحرية". وفي عامه الأول في منصب الرئاسة، وقع إعلاناً يمنح الصين وضعية الدولة الأكثر تفضيلاً بشكل دائم واتخذ الخطوات النهائية لتوجيه الصين إلى منظمة التجارة العالمية.
إقناع الخصوم بتعذر تحقيق انتصارات سريعة وحاسمة يحول دون الحروب
سارت إدارة أوباما على النهج نفسه. ففي عام 2015 قال باراك أوباما، "منذ أن كنت رئيساً، كان هدفي هو التواصل باستمرار مع الصين بطريقة بناءة، وإدارة خلافاتنا وتعظيم فرص التعاون. أعتقد أنه من مصلحة الولايات المتحدة أن ترى الصين تنمو". قد يعتقد المرء أن نهج "الاستدارة نحو آسيا" الذي كشفت عنه وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في عام 2011، يمثل ابتعاداً عن الانخراط وتوجهاً نحو الاحتواء، لكن من الخطأ أن تعتقد هذا، حيث كانت كلينتون ملتزمة بالانخراط، ومقالها في "فورين بوليسي" الذي يعرض قضية الاستدارة نحو آسيا كان مليئاً بالخطاب الليبرالي حول فضائل الأسواق المفتوحة، حيث كتبت، على سبيل المثال، "أن ازدهار الصين يعود بالفائدة على أميركا". علاوة على ذلك، لم تتخذ خطوات مهمة لتنفيذ استراتيجية احتواء جادة، باستثناء نشر 2500 من مشاة البحرية الأميركية في أستراليا.
كان دعم الانخراط مع الصين أيضاً راسخاً وواسع النطاق داخل مجتمع الأعمال الأميركي، الذي نظر إلى الصين كقاعدة تصنيع وسوق عملاقة بأكثر من مليار زبون محتمل. ولقد عملت المجموعات التجارية، مثل غرفة التجارة الأميركية والمائدة المستديرة لرجال الأعمال، والرابطة الوطنية للمصنعين على تنفيذ ما وصفه توماس دونوهو، رئيس غرفة التجارة في ذلك الوقت، بـ"حملة ضغط مستمرة" لمساعدة الصين على الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية. كما تبنت منابر الإعلام الرئيسة سياسة الانخراط، بما في ذلك مجالس التحرير في صحيفة "وول ستريت جورنال" و"نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست". فقد تحدث كاتب العمود توماس فريدمان نيابة عن الكثيرين عندما كتب أنه "بمرور الوقت، لا يمكن لقادة الصين ببساطة التحكم في أسواقهم الحرة المزدهرة ومراقبتها، أو منع تعرض الناس البسطاء للغش، ما سيدفعهم للاحتجاج ضد الحكومة، من دون المؤسسات الأخرى التي يجب أن تواكب الأسواق الحرة - من [لجنة للأوراق المالية والبورصة] فعالة إلى صحافة حرة ومسؤولة مدعومة بسيادة القانون". وعلى القدر نفسه، كان تأييد الانخراط شائعاً في الأوساط الأكاديمية، حيث لم يتساءل الكثيرون من خبراء الشؤون الصينية أو العلاقات الدولية عن الحكمة من مساعدة بكين على كسب مزيد من القوة. إن أفضل مؤشر ربما على الالتزام الساحق لمؤسسة السياسة الخارجية بالانخراط مع الصين هو أن هذه الاستراتيجية حظيت بدعم كل من زبيغنيو بريجنسكي وهنري كيسنجر - على التوالي، وهما أبرز صقور الحرب الباردة الديمقراطيين والجمهوريين.
يجادل المدافعون عن الانخراط بأن سياستهم لم تستبعد إمكانية فشلها. فقد اعترف كلينتون في عام 2000 بالقول، "لا نعرف إلى أين تتجه". وقال جورج دبليو بوش في العام نفسه، "لا توجد ضمانات"، لكن شكوكاً كهذه كانت نادرة. والأهم من ذلك أنه لم يتوقع أي من دعاة الانخراط تداعيات الفشل. كانوا يعتقدون أنه إذا رفضت الصين التحول إلى الديمقراطية، فستكون ببساطة دولة أقل كفاءة. ويبدو أن احتمال زيادة قوتها من دون تراجع طابعها الاستبدادي لم يكن في الحسبان. بالإضافة إلى ذلك، كانوا يعتقدون أن السياسة الواقعية كانت تفكيراً قديماً بالياً.
يؤكد بعض دعاة الانخراط الآن أن الولايات المتحدة كانت حذرة واتبعت سياسة الاحتواء إلى جانب الانخراط، للتحوط ضد فشل ازدهار الصداقة مع الصين. على سبيل المثال، كتب جوزيف ناي، الذي عمل في البنتاغون خلال إدارة كلينتون، في هذه الصفحات في عام 2018، أنه "من باب الاحتياط... وضعنا سياسة تأمين ضد فشل هذا الرهان"، لكن هذا الادعاء يتعارض مع التأكيد المتكرر من أصحاب القرار الأميركيين على أنهم لا يعملون على احتواء للصين. ففي عام 1997، على سبيل المثال، قال كلينتون إن سياسته ليس سياسة "احتواء وصراع"، بل سياسة "تعاون". وحتى لو كان صانعو السياسة الأميركيون يحاولون احتواء الصين بهدوء، فإن الانخراط قوض جهودهم، لأن هذه السياسة حولت في نهاية المطاف ميزان القوى العالمي لصالح الصين ورجحت كفتها، ناهيك على أن تمكين منافس نظير لا يتماشى مع أي عملية احتواء.
تجربة فاشلة
لا أحد يستطيع أن يقول إن المجال لم يفسح على قدر كافٍ أمام الانخراط حتى ينجح، ولا يمكن لأي شخص أن يجادل بأن الصين برزت كتهديد لأن الولايات المتحدة لم تبسط لها ذراعيها بما يكفي. فمع مرور السنين، اتضح فشل الانخراط مع الصين. لقد شهد الاقتصاد الصيني نمواً غير مسبوق، لكن البلاد لم تتحول إلى ديمقراطية ليبرالية أو شريك مسؤول. بل على خلاف ذلك، ينظر القادة الصينيون إلى القيم الليبرالية على أنها تهديد لاستقرار بلادهم، وكما يفعل حكام القوى الصاعدة عادة، فإنهم ينتهجون سياسة خارجية عدوانية بشكل متزايد. من المؤكد أن الانخراط كان خطأ استراتيجياً فادحاً.
وكما كتب كيرت كامبل وإيلي راتنر - المسؤولان السابقان في إدارة أوباما اللذان أدركا فشل الانخراط مع الصين ويعملان حالياً في إدارة بايدن - في عام 2018، "تواجه واشنطن الآن منافسها الأكثر ديناميكية والأكثر قوة في التاريخ الحديث".
تعهد أوباما خلال فترة رئاسته باتخاذ موقف أكثر صرامة ضد بكين، فتحدى مطالباتها البحرية ورفع دعاوى ضدها داخل منظمة التجارة العالمية، لكن هذه الجهود الفاترة كانت قليلة، ولم تتغير السياسة حقاً سوى في عام 2017.
بعد أن أصبح دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة، تخلى بسرعة عن استراتيجية الانخراط مع الصين التي تبنتها الإدارات الأربع السابقة، وانتهج سياسة الاحتواء بدلاً من ذلك. وكما أوضحت وثيقة استراتيجية للبيت الأبيض صدرت في ذلك العام، فقد عادت المنافسة بين القوى العظمى مع سعي الصين الآن إلى "تحدي القوة والنفوذ والمصالح الأميركية، في محاولة لتقويض الأمن والازدهار الأميركي". فعقدت واشنطن العزم على الحيلولة دون نجاح الصين، وأشعل ترمب حرباً تجارية في عام 2018 وحاول تقويض شركة التكنولوجيا العملاقة "هواوي" وغيرها من الشركات الصينية التي تهدد الهيمنة التكنولوجية الأميركية. كما عززت إدارته علاقاتها مع تايوان وتحدت مطالبات بكين في بحر الصين الجنوبي، وبذلك انطلقت الحرب الباردة الثانية.
ربما كان المرء يتوقع أن يتخلى الرئيس جو بايدن عن الاحتواء والعودة إلى الانخراط، بالنظر إلى أنه دعم بقوة تلك السياسة عندما كان رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ و(نائباً للرئيس) في إدارة أوباما، لكن في الواقع، كرئيس، تبنى سياسة الاحتواء والتشدد تجاه الصين كما فعل سلفه، متعهداً بـخوض "منافسة حادة" معها بعد فترة وجيزة من توليه الرئاسة. من ناحيته، تغير موقف الكونغرس أيضاً. ففي يونيو، تم تمرير مشروع قانون الابتكار والمنافسة الأميركي في مجلس الشيوخ بدعم من الحزبين. ويصف مشروع القانون الصين بأنها "أكبر تحدٍ جيوسياسي وجيو - اقتصادي للسياسة الخارجية للولايات المتحدة"، ويدعو على نحو مثير للجدل لمعاملة تايوان كدولة ذات سيادة وذات أهمية استراتيجية "حيوية". ويبدو أن عامة الأميركيين من هذا الرأي، ففي استطلاع للرأي أجراه مركز "بيو" للأبحاث عام 2020، تبين أن تسعة من كل عشرة أميركيين يعتبرون قوة الصين تهديداً. إن التنافس الجديد بين الولايات المتحدة والصين لن ينتهي في أي وقت قريب. وفي الواقع، من المرجح أن يزداد حدة، بغض النظر عمن في سدة البيت الأبيض.
خطر اندلاع حرب حامية الوطيس
يصور من لا يزال يدافع عن الانخراط الآن، دوامة الانحدار في العلاقات الأميركية - الصينية على أنها من عمل أفراد عازمين على خلق مواجهة على نمط المواجهة الأميركية - السوفياتية - أو يتولاها "المحاربون الباردون جدد"، على حد تعبير روبرت زوليك، المسؤول السابق في إدارة جورج دبليو بوش. ومن وجهة نظر دعاة الانخراط، فإن الحوافز أو الفوائد التي تدعو إلى مزيد من التعاون الاقتصادي تفوق الحاجة للتنافس على الهيمنة، والمصالح المتبادلة تضاهي المصالح المتضاربة، لكن للأسف ما يقوله أنصار الانخراط لن يجدي نفعاً، لأن الحرب الباردة الثانية قد بدأت بالفعل، وعندما يقارن المرء بين الحربين الباردتين، يتضح أن التنافس بين الولايات المتحدة والصين من المرجح أن يؤدي إلى حرب نارية أكثر مما كان عليه التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
تتمثل أول نقطة اختلاف بين النزاعين في القدرات، حيث إن الصين باتت بالفعل أقرب إلى الولايات المتحدة من حيث القوة الكامنة مما كان عليه الاتحاد السوفياتي في أي وقت مضى. ففي أوج قوته، في منتصف السبعينيات، كان للاتحاد السوفياتي ميزة صغيرة [تفوق] في عدد السكان (أقل من 1.2 مقابل 1)، وباعتبار الناتج القومي الإجمالي كمؤشر تقريبي للثروة، كانت ثروته تعادل تقريباً 60 في المئة من ثروة الولايات المتحدة. في المقابل، يبلغ عدد سكان الصين الآن أربعة أضعاف عدد سكان الولايات المتحدة وتعادل ثروتها 70 في المئة من ثروة الولايات المتحدة. وإذا استمر الاقتصاد الصيني في النمو بمعدل كبير يبلغ نحو خمسة في المئة سنوياً، فإن قوتها الكامنة ستفوق قوة الولايات المتحدة. بحسب التوقعات، ستتمتع الصين بميزة سكانية تقارب 3.7 مقابل 1 بحلول عام 2050. وإذا حازت الصين نصف الناتج المحلي الإجمالي للفرد الأميركي في عام 2050 – وهو المعدل في كوريا الجنوبية حالياً - فستكون ثروة الصين 1.8 مرة أكبر من ثروة الولايات المتحدة. وإذا حققت الصين أداء أفضل من ذلك ووصل ناتجها الإجمالي للفرد إلى ثلاثة أخماس الناتج الأميركي للفرد مع حلول ذلك الوقت – أي حيث توجد اليابان تقريباً اليوم - فستكون 2.3 مرة أكثر ثراءً من الولايات المتحدة. ومع كل هذه القوة الكامنة، يمكن لبكين بناء جيش أقوى بكثير من جيش الولايات المتحدة، الذي سينافس الصين من على بعد 6000 ميل.
بالمقارنة، لم يكن الاتحاد السوفياتي فقط أفقر من الولايات المتحدة، بل كان أيضاً، خلال ذروة الحرب الباردة، لا يزال يتعافى من الدمار المروع الذي ألحقته به ألمانيا النازية. ففي الحرب العالمية الثانية، فقد الاتحاد السوفياتي 24 مليون نسمة، ناهيك بدمار أكثر من 70 ألف مدينة وقرية، و32 ألف مؤسسة صناعية، و40 ألف ميل من خطوط السكك الحديدية. لذا، لم يكن في وضع يمكنه من محاربة الولايات المتحدة. في المقابل، كانت آخر حرب خاضتها الصين في عام 1979 (ضد فيتنام) وفي العقود التالية أصبحت قوةً اقتصاديةً هائلة.
هناك عامل آخر أعاق القدرات السوفياتية ويغيب في الحالة الصينية، ويتعلق الأمر بالحلفاء المزعجين. فطوال الحرب الباردة، حافظ الاتحاد السوفياتي على وجود عسكري ضخم في أوروبا الشرقية، وكان منخرطاً بعمق في سياسات كل دولة تقريباً في تلك المنطقة. لقد اضطر للتعامل مع التمردات في ألمانيا الشرقية وبولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا، في حين دأبت ألبانيا ورومانيا ويوغوسلافيا على تحدي سياسات موسكو الاقتصادية والأمنية. علاوة على ذلك انشغل السوفيات كثيراً بالصين، التي غيرت ولاءها في منتصف الحرب الباردة. كان هؤلاء الحلفاء عبئاً على كاهل موسكو، ما أدى إلى تشتيت انتباه القادة السوفيات عن خصمهم الرئيس: الولايات المتحدة. بالمقابل، لا تحظى الصين المعاصرة بكثير من الحلفاء. وفيما خلا كوريا الشمالية، فهي أقل ارتباطاً بأصدقائها من ارتباط السوفيات بأصدقائهم. باختصار، تتمتع بكين بقدر أكبر من المرونة لإحداث مشاكل في الخارج.
ماذا عن الدوافع الأيديولوجية؟ كما كان الحال مع الاتحاد السوفياتي، فإن الصين تقودها حكومة شيوعية من حيث الاسم، ولكن مثلما أخطأ الأميركيون أثناء الحرب الباردة في اعتبار موسكو تهديداً شيوعياً في المقام الأول، مصممة على نشر أيديولوجيتها الخبيثة في جميع أنحاء العالم، سيكون من الخطأ اليوم تصوير الصين على أنها تشكل تهديداً أيديولوجياً. لقد كان تأثير الفكر الشيوعي على السياسة الخارجية السوفياتية هامشياً، وكان جوزيف ستالين واقعياً متشدداً، وكذلك كان خلفاؤه. وتعتبر الشيوعية أقل أهمية في الصين المعاصرة، التي من الأفضل النظر إليها كدولة استبدادية حاضنة للرأسمالية. لو كانت الصين دولة شيوعية، كما يتخيل الأميركيون، فإن اقتصادها كان سيكون متخلفاً.
ولكن هناك "أيديولوجية" متضخمة في الصين، والتي من المحتمل أن تفاقم تنافسها مع الولايات المتحدة، وهي القومية. لقد كان للقومية، التي تعتبر عادةً أقوى أيديولوجية سياسية في العالم، تأثير محدود في الاتحاد السوفياتي لأنها كانت على تضاد مع الشيوعية. ومع ذلك، فقد اكتسبت القومية الصينية زخماً منذ أوائل التسعينيات، وما يجعلها خطيرة بشكل خاص هو تركيزها على "قرن الإذلال الوطني" للصين، وهي الفترة التي بدأت مع حرب الأفيون الأولى، والتي وقعت خلالها الصين ضحية القوى العظمى، وخاصة اليابان، ولكن أيضاً، بحسب الرواية الصينية، الولايات المتحدة. لقد ظهرت تأثيرات هذه الرواية القومية القوية بين عامي 2012-2013، عندما اشتبكت الصين واليابان حول جزر دياويو/ سينكاكو، والتي أثارت احتجاجات مناهضة لليابان في جميع أنحاء الصين. ففي السنوات المقبلة، من المؤكد أن المنافسة الأمنية المتزايدة في شرق آسيا ستزيد من العداء الصيني تجاه اليابان والولايات المتحدة، مما سيزيد من احتمالية نشوب حرب ساخنة.
إن ما يزيد من احتمالات نشوب حرب أيضاً هو طموحات الصين الإقليمية. لقد كان القادة السوفيات، المنهمكون في التعافي من الحرب العالمية الثانية وإدارة إمبراطورتيهم في أوروبا الشرقية، راضين إلى حد كبير عن الوضع السائد ذلك الوقت في القارة الأوروبية. بالمقابل، تلتزم الصين اليوم بشدة بأجندة توسعية في شرق آسيا. وعلى الرغم من أن الأهداف الرئيسة التي تثير شهية الصين لها بالتأكيد قيمة استراتيجية بالنسبة لها، إلا أنها تعتبر أيضاً أرضاً مقدسة، ما يعني أن مصيرها مرتبط بالقومية الصينية. ينطبق هذا بشكل خاص على تايوان، والتي يشعر الصينيون تجاهها بارتباط عاطفي لم يشعر بمثله السوفيات أبداً تجاه برلين، على سبيل المثال، وهذ ما يجعل التزام واشنطن بالدفاع عنها أمراً محفوفاً بالمخاطر.
نيران الحرب الباردة الجديدة أكثر قابلية للاشتعال من الحرب القديمة
أخيراً، تعد جغرافية الحرب الباردة الجديدة أكثر قابلية للاشتعال من الحرب القديمة. على الرغم من أن التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي كان عالمياً في نطاقه، فإن مركز ثقله كان الستار الحديدي في أوروبا، حيث كان للجانبين جيوش ضخمة وقوات جوية مجهزة بآلاف الأسلحة النووية. كانت هناك فرصة ضئيلة لنشوب حرب بين القوى العظمى في أوروبا، لأن صانعي السياسة من كلا الجانبين أدركوا المخاطر المخيفة للتصعيد النووي. لم يكن أي زعيم على استعداد لبدء صراع من المحتمل أن يدمر بلده.
في آسيا، لا يوجد هناك خط فاصل واضح مثل الستار الحديدي لترسيخ الاستقرار. بدلاً من ذلك، هناك قليل من النزاعات المحتملة التي قد تكون محدودة وتشمل أسلحة تقليدية، مما يجعل الحرب احتمالاً معقولاً. وتشمل هذه النزاعات معارك من أجل السيطرة على تايوان وبحر الصين الجنوبي وجزر دياويو/ سينكاكو، والطرق البحرية التي تمتد بين الصين والخليج. وسيتم خوض هذه النزاعات بشكل رئيس في المياه المفتوحة بين القوات الجوية والبحرية المتنافسة، وفي حالات الصراع للسيطرة على جزيرة ما، من المحتمل أن تشارك قوات برية صغيرة الحجم. حتى القتال على تايوان، الذي قد يجذب القوات البرمائية الصينية، لن يشمل جيوشاً ضخمة مزودة بمعدات نووية تصطدم ببعضها البعض.
لا يعني أي من هذا أن سيناريوهات الحرب المحدودة هذه مرجحة، لكنها أكثر احتمالاً من حرب كبرى كانت لتنشب بين الناتو وحلف وارسو. ومع ذلك، لا يمكن للمرء أن يستبعد تصعيداً نووياً في حال نشوب قتال بين بكين وواشنطن على تايوان أو بحر الصين الجنوبي. وفي الواقع، إذا لاحظ أحد الأطراف أنه بدأ يخسر بشكل فادح، فإنه سيفكر على الأقل في استخدام الأسلحة النووية لإنقاذ الموقف. وقد يستنتج بعض صانعي القرار أنه يمكن استخدام الأسلحة النووية من دون إثارة خطر تصعيد غير مقبول، شرط أن تكون الهجمات في البحر وتستثني الأراضي الصين والولايات المتحدة وحلفائها. لذا لا يعدو احتمال نشوب حرب بين قوى عظمى في الحرب الباردة الجديدة مرجحاً فحسب، بل قد يشمل استخدام الأسلحة النووية أيضاً.
منافس من صنيعة أميركا
على الرغم من تضاؤل أعدادهم، لا يزال مؤيدو الانخراط مع الصين أحياءً يرزقون، ولا يزالون يعتقدون أن الولايات المتحدة يمكن أن تجد أرضية مشتركة مع الصين. ففي أواخر يوليو 2019، وقع 100 مراقب للشأن الصيني رسالة مفتوحة وجهت إلى ترمب وأعضاء الكونغرس رفضوا فيها فكرة أن بكين تشكل تهديداً. ولقد أشاروا في الرسالة إلى أن "العديد من المسؤولين الصينيين والنخب الأخرى يدركون أن النهج المعتدل والبراغماتي والتعاون الحقيقي مع الغرب يخدم مصالح الصين"، ودعوا واشنطن إلى "العمل مع الحلفاء والشركاء لخلق عالم أكثر انفتاحاً وازدهاراً تمنح فيها للصين فرصة المشاركة".
لكن القوى الكبرى ببساطة غير مستعدة للسماح للقوى الكبرى الأخرى بأن تزداد قوة على حسابها، وتعتبر القوة الدافعة وراء هذا التنافس بين القوى العظمى بنيويةً في طبيعتها، ما يعني استحالة التغلب على المشكلة بسياسة ذكية. إن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يغير الديناميكية الأساسية هو اندلاع أزمة كبيرة توقف صعود الصين - وهو احتمال يبدو غير مرجح بالنظر إلى سجل البلاد الطويل من الاستقرار والكفاءة والنمو الاقتصادي، بالتالي فإن المنافسة الأمنية الخطيرة أمر لا مفر منه.
في أحسن الأحوال، يمكن إدارة هذا التنافس على أمل تجنب الحرب. وسيتطلب ذلك من واشنطن الاحتفاظ بقوات تقليدية هائلة في شرق آسيا لإقناع بكين بأن صداماً بالأسلحة سيؤدي في أفضل الأحوال إلى نصر باهظ الثمن. إن إقناع الخصوم بأنهم لا يستطيعون تحقيق انتصارات سريعة وحاسمة يحول دون اندلاع الحروب. علاوة على ذلك، حري بصانعي السياسة في الولايات المتحدة - والقادة الصينيين - ألا يغيب أبداً عن بالهم أن احتمال التصعيد النووي في زمن الحرب قائم. ومع ذلك، تعتبر الأسلحة النووية الرادع النهائي. ويمكن لواشنطن أيضاً العمل على أسس قواعد واضحة لخوض هذه المنافسة الأمنية - مثل إبرام اتفاقيات لتجنب الحوادث في البحر أو غيرها من الاشتباكات العسكرية العرضية. وإذا فهم كل جانب ما قد يعنيه تجاوز الخطوط الحمراء للطرف الآخر، فإن احتمال الحرب يتراجع ويصغر.
إلا أن هذه الإجراءات لا يمكنها بذل الكثير لتقليص المخاطر الكامنة في الخصومة المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين، لكن هذا هو الثمن الذي يجب أن تدفعه الولايات المتحدة بسبب تجاهل المنطق الواقعي وتحويل الصين إلى دولة قوية مصممة على تحديها على كل الجبهات.
*جون ميرشايمر هو أستاذ الخدمة المتميزة في العلوم السياسية بجامعة شيكاغو ومؤلف كتاب "الوهم العظيم: الأحلام الليبرالية والحقائق الدولية"
مترجم من فورين أفيرز، نوفمبر (تشرين الثاني)/ ديسمبر (كانون الأول) 2021
© The Independent