Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأوروبيون من أمثالي يودعون بريطانيا "بريكست"

في مطلع القرن، أغرمت بالبلاد أثناء لقائي الأول معها الذي جعلني أكتشف بيئة مغرية ومتعددة الثقافات

غذت حكومة بوريس جونسون تياراً شعبوياً متعصباً في بريطانيا (يوتيوب)

لم أتخيل يوماً أن أشهد نقصاً في الأغذية أو خلو محطات الوقود من البنزين في دولة صناعية غربية. يحدث ذلك عادةً في الدول الأوروبية خلال زمن الحرب. في المقابل، صارت تلك حالة بريطانيا، اليوم. وتعزو الرواية (الكذبة!) الرسمية السبب إلى جائحة كورونا، أو تشير إلى أن المشكلة منتشرة في أوروبا بأسرها. لكن، تكمن الحقيقة في أن "بريكست" تتسبب في نقص العمال، من بينهم سائقو الشاحنات، إذ يأتي عدد كبير منهم من أوروبا الشرقية.

وذات يوم، اعتبروا [العمال الآتين من أوروبا] أساسيين بالنسبة إلى الاقتصاد البريطاني، وأصبحوا الآن "مهاجرين"، يخضعون لرقابة سلطات التفتيش على الحدود في بلد شكل منزلهم في أوقات سابقة. وفي المقابل، بدل الإقرار بالفشل أو الاعتراف بالنتائج السلبية لـ"بريكست"، تصر حكومة بريطانيا المحافظة التي يترأسها بوريس جونسون على أن منح تأشيرات الدخول المؤقتة سيحل مشكلة جدية يمكن أن تطاول قريباً إمدادات الدواء. ولكن، إن فكرة لجوء دولة إلى مواطني دول أخرى عند حاجتها لهم ووفق تلك الحاجة حصراً، تؤدي [الفكرة] إلى تجريد أولئك الذين يعبرون الحدود الجغرافية من إنسانيتهم.

في ذلك السياق، أتعاطف مع السائقين الذين تركوا البلاد، مفضلين العمل في مكان آخر. أنا أشبههم من جوانب عدة، إذ لا تجعل الشهادة الجامعية بعض المهاجرين أفضل، أو بتعبير أوضح، أكثر "إفادة"، من غيرهم. وأنا من أولئك الأوروبيين الذين يتحولون إلى أجانب، في دولة أوروبية تابعت فيها دراستي وقضيت فيها معظم حياتي المهنية كمؤرخ.

كنت مغرماً ببريطانيا، إذ جعلني لقائي الأول بالبلاد في مطلع القرن الجاري، أكتشف بيئة متعددة مغرية ومتعددة الثقافات. كنت طالباً في برنامج "إيراسموس" الذي يعتمده الاتحاد الأوروبي للتبادل التعليمي بين دوله. وشعرت بأنني وسط شبكة دولية من الباحثين والطلبة، كان عدد كبير منهم يتخصص في السياسات الدولية والأوروبية.

وحدث ذلك بالتزامن تقريباً مع الفترة التي أصبح فيها هذا البلد ملاذاً للأوروبيين الباحثين عن تجارب حياتية أو وظائف جديدة. ووجد كل من لم يرغب أو لم يتمكن من عبور المحيط الأطلسي، في "الحلم البريطاني"، أي بريطانيا الرائعة، خياراً جذاباً. سأظل بقية عمري مديناً لمكان أعطاني فرصة النمو المهني وتعزيز صوتي عبر الإعلام.

وما زالت لندن، مكان إقامتي، فقاعة متعددة الإثنيات. إنها عاصمة جميلة وحيوية فيها جوهر دولي وجماعات تتخطى الحدود الوطنية. ولقد استضافت تلك المدينة المهاجرين عبر التاريخ. ففي القرن التاسع عشر، وجد جوزيبي مازيني، بطل توحيد إيطاليا، وكذلك لاحقاً، بطل الناشطين والمثقفين الإيطاليين المناهضين للفاشية، ملاذاً في هذا المكان، وحظي بدعم الإنجليز.

وفي المقابل، انتشر بعد ذلك خطاب "نحن أفضل حالاً خارج الاتحاد الأوروبي"، و"إنهم يأخذون وظائفنا". وأصبحت فكرة تخفيف توظيف الأشخاص "المولودين في الخارج"، إضافة إلى خطاب العلاقات "المضطربة" مع الاتحاد الأوروبي، طبيعية وسائدة. وقد شرعن هذا الإطار المشاعر المعادية للهجرة التي استهدفت الأوروبيين. ومن غير المفاجئ أن بريطانيا قررت الانسحاب من برنامج "إيراسموس"، إذ بدا أن البرنامج يناصر أوروبا أكثر من اللازم، ولم يتوافق بالتالي مع الطموحات "العالمية" لهذه العقيدة الإنجليزية القومية المتفشية. ألم يكن برنامجاً يستحق الحفاظ عليه لأنه عمل على تشكيل أجيال من مواطني (عموم) أوروبا من خلال تنقل الطلاب الشباب غير المقتدرين مادياً بالضرورة؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لم تتمكن مدينة مذهلة مثل لندن حتى من وقف موجة القومية الضيقة المناهضة لأوروبا، والتخيلات الإمبريالية أيضاً، إذ صوتت شريحة كبيرة من المواطنين لمصلحة خيار مغادرة الاتحاد الأوروبي، واختارت بعدها في الانتخابات حكومةً من المحافظين الذين وعدوا بـ"الانتهاء من تنفيذ بريكست". ومن هذه الناحية، بدا استفتاء يونيو (حزيران) 2016 خيانة لأوروبيين كثيرين. يشبه ذلك الشعور اكتشافك أن شريكك يخونك، وقد تكون هذه الخيانة الزوجية متواصلة منذ سنوات، لكنك عجزت عن رؤيتها.

واستطراداً، تكمن المشكلة في أن بريطانيا لن تتخطى "بريكست" بسرعة. ومنذ 2016، يهيمن هذا الموضوع على الخطاب العام (إذا وضعنا جانباً "كوفيد-19"). والآن، تواجه البلاد احتمال قدوم الشتاء مع نقص إضافي في اليد العاملة وارتفاع أسعار الوقود ومشاكل مع بروتوكول إيرلندا الشمالية وسياسيين يستجدون الاتفاقات التجارية من الشركاء الدوليين وانخفاض الإعانات الاجتماعية الذي يرافقه زيادة الضرائب على الطبقات الاجتماعية الوسطى والأقل حظوة.

وفي ذلك السياق، لقد قرر عديد من الأوروبيين، تماشياً مع كتلة الاتحاد الأوروبي بأكملها، الانتقال إلى المرحلة المقبلة. والآن يغادر البلاد سيل متواصل من الناس. لن يتم استبدالهم، لأن أحد الوعود الأساسية في بريكست تمثل في تطبيق "البيئة المعادية" الشهيرة على المهاجرين الأوروبيين. ورأينا كيف احتجز الناس داخل مراكز الهجرة، وأعيد طلاب إلى بلدانهم لأنهم لم يملكوا تأشيرة الدخول المناسبة. ويسود الخوف، سواء داخل أو خارج الأوساط الجامعية، بأن يفضل أصحاب العمل العمال الذين حصلوا بالفعل على أوراق الإقامة. أهذا هو حقاً المكان الذي أغرمنا فيه كثيراً؟

لقد رأيت (للأسف) قدوم هذه العاصفة الاجتماعية السياسية، بفضل خبرتي في التاريخ، إذ تضمنت حملة الدعاية لمصلحة خيار الانسحاب، شيئاً قاتماً وواضحاً في آنٍ معاً. إنه شيء متجذر في التشكيك بجدوى الاتحاد الأوروبي، مع قراءات محرفة للتاريخ الاستعماري. شكل لك مزيجاً غريباً من الشعور بالاستثنائية والعظمة المتخيلة والتفوق والحنين. وقد أحسست عبر طرق عدة أنني داخل دراساتي الخاصة حول القومية اليمينية وكراهية الأجانب، بالتالي جاءت التجربة أشبه بمشاهدة حدث تاريخي، لكنه يجري في الوقت الحاضر. كما لو كنا في برلين سنة 1989، حين هوى الجدار على وقع المطارق، وشعر كثير من الناس بالغموض يلف المرحلة القادمة. من جهة أخرى، لقد اختلف الموضوع في 2016، لأننا كنا على الجانب المقابل من مشاعر الفرح. لقد كنا الخاسرين، نحن الأوروبيين، ومعنا أصدقاء بريطانيون كثيرون. لم يكن أمامنا عالم جديد وأفضل.

وحاضراً، أنا واحد ممن عقدوا العزم على الرحيل، بمزيج من مشاعر السعادة والحزن. أنا أنقل حياتي المهنية إلى القارة الأوروبية، وسأقضي بعض الوقت كباحث في إحدى أبرز المؤسسات الأميركية، لكن غيري أقل حظاً. من الصعب العثور على وظيفة في حقبة الجائحة، وسيجد البعض أنفسهم عالقين هنا. آمل أن يجدوا طريقهم يوماً ما، وكذلك آمل أن تجد بريطانيا طريقها أيضاً.

 

* أندريا ماموني مؤرخ محترف ومعلق في وسائل الإعلام، عمل أستاذاً في جامعة لندن، وشغل مناصب بحثية وتعليمية في أوروبا والولايات المتحدة، وسيكون باحثاً في الأكاديمية الإيطالية في جامعة كولومبيا، ويعد خبيراً في شؤون اليمين المتطرف ومعاداة الأجانب والقومية والسياسات الأوروبية

© The Independent

المزيد من آراء