يتجه ملف التفجيرات النووية الفرنسية في صحراء الجزائر لأن يكون فتيل توتر بين البلدين، بعد أن لوحت الجزائر ببطاقة "تدويل القضية"، وفي وقت يرى الطرف الجزائري أن الخطوة من شأنها المساهمة في طي الملف، تتوجس فرنسا من أن يتسبب التصرف في الإضرار بمصالحها.
تصرف فرنسي وتحرك جزائري
ويبدو أن الماضي المشترك بين الجزائر وفرنسا بات هاجساً يشوش على علاقات البلدين، ويهدد بتوترات دبلوماسية قد تتطور إلى معارك "خفية" اقتصادية وسياسية وتجارية وحتى حقوقية تمس الحريات خصوصاً حرية تنقل الأشخاص، حيث لا تمر مناسبة تاريخية من دون النبش في أحد المواضيع الحساسة لدى الطرفين اللذين أصبحا يستغلان كل ما له علاقة بـ"ملف الذاكرة" لابتزاز الآخر وتهديده واستفزازه من أجل تحقيق مصالح والحصول على تأييد في قضايا إقليمية ودولية.
فبعد طلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، باسم فرنسا "الصفح" من "الحركى"، وإعلانه عن قانون "تعويض" لهم، تحركت جهات جزائرية ولوحت بورقة "التدويل" في التعاطي مع ملفات الاستعمار الفرنسي للجزائر، ولعل قضية التفجيرات النووية أحد أهم المواضيع التي "تلعب" عليها الجزائر، وهو ما أشار إليه المتخصص في الشؤون النووية مرزاق رمكي، حين أبرز أن معاهدة حظر الأسلحة النووية التي وقعت عليها الجزائر أقرت التزامات مفيدة من أجل تطهير مواقع التجارب النووية الفرنسية المنفذة في الصحراء الجزائرية.
"غطاء" معاهدة حظر الأسلحة النووية
وأوضح رمكي، المحافظ السابق للطاقة النووية، بمناسبة اليوم الدولي للإزالة الكاملة للأسلحة النووية الذي يصادف 26 سبتمبر (أيلول) من كل عام، أن المادة 6 من المعاهدة تنص على أن "الدول الأطراف لا سيما تلك التي نفذت تجارب نووية، تلتزم بتوفير ما يكفي من المساعدة لضحايا استخدام الأسلحة النووية وتجاربها وإصلاح بيئة المناطق المتضررة من استخدام الأسلحة النووية وتجاربها"، بينما تؤكد المادة 7 أن "الدول الأطراف تلتزم بالتعاون وتوفير المساعدة الدولية لدعم تنفيذ المعاهدة"، مبرزاً أنه بموجب هذه الأحكام "يمكن للجزائر أن يطلب مساعدة دولية لدى الهيئات المختصة على غرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي سبق لها أن أسهمت في إطار التعاون التقني في عمل التقييم الإشعاعي الأولي لمواقع التجارب في نهاية التسعينيات".
تأسيس ملف قوي
وبينما شددت الحقوقية الجزائرية، فاطمة الزهراء بن براهم، التي تتابع الملف عن قرب، في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، على أن "التوجه إلى المحاكم الدولية يتطلب تأسيس ملف قوي، لأن فرنسا عملت على إخفاء حقائق جرائمها النووية في الجزائر، حتى لا يتمكن الضحايا من الحصول على حقوقهم"، يؤكد الناشط السياسي، محمد محمودي أن "الجزائر في موقع قوة بالنسبة لهذا الملف الذي يعبر عن جريمة بحق الإنسان والبيئة"، منتقداً تأخر "وزارة المجاهدين وذوي الحقوق" في تقديم طلب رسمي للسلطات الفرنسية لإعادة النظر في قانون "موران" الفرنسي، الذي أقصى كل ضحايا التفجيرات النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الحكومة تتمسك
وتواصل الجزائر الاهتمام بملفات الذاكرة على نفس نسق السنوات السابقة وأكثر، إذ وضعتها الحكومة على رأس أولوياتها، بهدف حسم الملفات العالقة والتي تعود في مجملها إلى الحقبة الاستعمارية، وقال الوزير الأول، أيمن بن عبد الرحمن، خلال عرض مخطط عمله أمام البرلمان، إنه يستوجب استكمال ملفات الذاكرة المتعلقة باسترجاع رفات ضحايا "المقاومة الشعبية"، والأرشيف الوطني، وتفجيرات التجارب النووية بالصحراء الجزائرية، ومفقودي ثورة التحرير الوطني والملفات الأخرى المرتبطة بحالة المنفيين والـمهجرين، و"جميع أشكال الجرائم التي ارتكبتها فرنسا الاستعمارية بحق الشعب الجزائري".
مساعدات فرنسية
ورغم سن الطرف الفرنسي قانون "مورين" في 2010 الذي ينظم عملية تعويض المتضررين من الإشعاعات، فإن الحكومة الفرنسية لم تعوض حتى الآن ولا جزائرياً واحداً، رغم وجود أدلة على أن الأمراض التي يعانون منها، سببها الإشعاعات النووية الناتجة عن مخلفات السموم المتأتية من التفجيرات المترسبة في الأرض والمتحركة في الهواء.
في المقابل، أقرت وزارة الجيوش الفرنسية، بدفن شاحنات وعتاد عسكري أجريت عليه اختبارات نووية في مواقع بالصحراء الجزائرية خلال 6 سنوات من التجارب النووية الفرنسية في الجزائر، وكشفت أن "فرنسا سلمت السلطات الجزائرية ما بحوزتها من خرائط"، وأن "تشخيصاً إشعاعياً لمختلف مناطق التجارب في هذه المواقع أجري وأبلغت به السلطات الجزائرية".
ويقول متخصصون نوويون، إن التجارب الـ17 التي أجرتها فرنسا في صحراء الجزائر، مكنت التقنيين في مفوضية الطاقة الذرية والعسكريين من التوصل إلى قنبلة البلوتونيوم المجهز بها الجيل الأول من مقاتلات "ميراج 4" الفرنسية.
مساران للتدويل
إلى ذلك، يعتبر الحقوقي حاج حنافي أن تدويل قضية متعلقة بالذاكرة يعتمد على مسارين، الأول حقوقي، أي ربط ملف التفجيرات النووية بحقوق الإنسان من خلال المنظمات الدولية الحكومية، كرفع الملف من هيئات حقوقية وطنية في الأساس لمجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ثم من خلال "هيئات دولية غير حكومية" كمنظمة العفو الدولية وغيرها، مضيفاً أن المسار الثاني دبلوماسي، عبر حشد الأصوات من جميع الدول الأفريقية التي كانت ضحية لمثل هذه الجريمة لخلق نوع من التوافق الدولي حول أنه فعل غير مشروع وجب على أساسه ترتيب مسؤولية فرنسا أمام القضاء الدولي الجنائي والعادي، وختم أن قانون "مورين" يمثل اعترافاً من فرنسا بهذا الفعل الإجرامي، وهذا أمر مهم للخروج مباشرة من مسألة الاعتراف إلى قضية التدويل.
كما يرى أستاذ القانون، محمد عدنان الأخضر بن مير أنه "بعيداً عن الإجراءات القانونية المعروفة في القانون الدولي في مثل هكذا قضايا حيث إن التفجيرات النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية جريمة كاملة الأركان، فإن الجزائر لها قدرة دبلوماسية يمكن استغلالها للمرافعة لصالح تدويل القضية أمام الرأي العام الدولي والمحافل الدولية".