Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أزمات إثيوبيا الداخلية بين أوراق التاريخ وتحديات الحاضر

انتقدت واشنطن وبروكسل حكومة آبي أحمد بشأن الأحداث في إقليم تيغراي بينما وقفت بكين إلى جانبها

تدريبات خاصة لقوات من الجيش الإثيوبي في سهل دابات شمالي البلاد (أ ف ب)

أدت الأزمة السياسية الداخلية التي تعيشها إثيوبيا نتيجة التنافس السياسي بين أبرز مكوناتها العرقية إلى خلق ظروف جديدة، شكّل فيها التدخل الخارجي بعداً مهماً له انعكاساته على الواقع والحلول. ففي ظل انتقادات وتوجيهات وفروض تتصدرها الولايات المتحدة، تقاوم إثيوبيا الضغوط التي تعتبرها "تدخلاً في شؤونها الداخلية"، وفي مثل هذه الحالات يتعقد المشهد السياسي بخاصة أن لإثيوبيا تجارب تاريخية متعددة شهدتها عصور خلت. فما بين الأزمة الداخلية في إقليم تيغراي والبعد الخارجي وتضارب المصالح، تصعب التنبؤات بالواقع.

عدوة في الذاكرة

وفي نظرة تاريخية إلى المواجهات التي دخلها الإنسان الإثيوبي ضد كل ما هدد أمنه القومي، تطالعنا الحرب التي خاضها ضد إيطاليا وكان السبب المباشر باندلاعها في نهاية القرن الثامن عشر، وثيقة اتفاق كُتبت بين البلدين. وكانت إيطاليا وقتها تنشط استعمارياً في منطقة البحر الأحمر والعمق الإثيوبي كقوة عظمى آنذاك. وجاءت وثيقة الاتفاق بعد اعتراف إيطاليا بالإمبراطور منليك الثاني ملكاً للحبشة الموحدة، وعقد اتفاقية صداقة معه وفق علاقات ندية، تُتيح لها ممارسة بعض الأنشطة في المنطقة. وكان "اتفاق أوتشيالي" مفيداً للطرفين كوثيقة تعاون في دعم عسكري تلقته إثيوبيا إلى جانب امتيازات أخرى، إلا أن الإمبراطور منليك الثاني سرعان ما اكتشف نيات استعمارية في الوثيقة، حيث حوت نسختها الإيطالية معاني تجعل من إثيوبيا تابعةً لإيطاليا في علاقاتها الخارجية.
الاختلاف بين الوثيقتين المكتوبتين باللغتين الأمهرية والإيطالية، حمل الإمبراطور منليك إلى نقض الاتفاقية، وتجهيز بلاده لخوض مواجهة حربية سُميت "معركة عدوة" في عام 1893 وكان النصر فيها حليفاً لإثيوبيا على الجيش الإيطالي المكوّن من 25 ألف جندي بكامل أسلحتهم. وتتحدث وقائع أخرى عن خلفيات مواجهات دولية ضد إثيوبيا، سواء سياسية كما حدث مع الإمبراطور ثيودروس الثاني في عام 1868، أو أطماع استعمارية لم تخلُ منها عهود حديثة بما فيها حقبة الإمبراطور هيلاسلاسي (1930 - 1974).

جديد الصراع

وتعيش إثيوبيا في هذه الأيام أزمة في إقليم تيغراي منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، التي اتخذت منها القوى الدولية الحديثة ذريعة لمواجهة نظام الرئيس آبي أحمد.
بدأت تلك الأزمة كخلاف منذ أيام نظام الرئيس الأسبق ملس زيناوي، ومن بعده قيادة "حزب الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية"، ثم ما واجهه النظام السابق من حراك معارض أدى إلى إبعاد عناصر قومية التيغراي من المشهد السياسي. في مرحلة لاحقة، تبنى رئيس الوزراء آبي أحمد "حزب الازدهار"، بديلاً للحاضنة السياسية السابقة "الجبهة الثورية الديمقراطية"، إلا أن "حزب جبهة تحرير تيغراي" احتفظ بتكوينه كمنافس لـ"الازدهار".
وتفاقمت الخلافات السياسية بعد إصرار آبي أحمد على تأجيل الانتخابات البرلمانية التي كان يُفترض إجراؤها في 29 أغسطس (آب) 2020، بعد صدور قرار بذلك من المجلس الفيدرالي الإثيوبي (السلطة الدستورية العليا)، بسبب جائحة كورونا، إلا أن الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي اعتبرت ذلك خروجاً عن مسار الديمقراطية والدستور. واتخذت الأمور منحًى دراماتيكياً بعد مضي جبهة تيغراي في تنظيم انتخاباتها بالإقليم في الموعد الدستوري، وإعلانها فوز مرشحيها. وأعقب ذلك خلاف أدى إلى عزل الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، فهاجمت مقر القيادة العسكرية الشمالية، الأمر الذي اعتبرته الحكومة انتهاكاً خطيراً للمسلمات القومية. على الأثر، تفجرت الأزمة عسكرياً، وشن آبيي أحمد "عملية إنفاذ القانون" في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، فاستولى الجيش الإثيوبي على إقليم تيغراي وعاصمته مقلي، إلا أن تلك الأحداث ترافقت وإدانات للحكومة الإثيوبية والجيش الإريتري بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

ضغوط الخارج

وتصدرت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي متابعة الأحداث، ووجه الطرفان انتقادات شديدة لنظام أديس أبابا إثر اتهامه بانتهاك حقوق الإنسان، وبعد تبدل موازين الحرب واسترجاع الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، الإقليم في يونيو (حزيران) الماضي، رأت الحكومة الإثيوبية أن تعامل الغرب بقيادة الولايات المتحدة لم يكن منصفاً، بعد تحميل نظام آبي أحمد وحده مسؤولية انتهاك حقوق الإنسان، وعدم إدانة "جبهة تحرير تيغراي" بما ارتكبته من مخالفات خصوصاً بعد تغلغل الجبهة في إقليمي أمهرة وعفار أخيراً، إذ رأت الحكومة في ذلك تحاملاً غير مبرر عليها.
وكان البيت الأبيض أعلن أن الرئيس الأميركي جو بايدن، أصدر أمراً تنفيذياً بفرض عقوبات جديدة تستهدف مَن سماهم "المسؤولين عن إطالة أمد النزاع في إثيوبيا".
وجاء في بيان صدر الجمعة 17 سبتمبر (أيلول) الحالي، أن الرئيس الأميركي اتخذ مزيداً من الخطوات للتعامل مع الصراع الدائر في شمال إثيوبيا، وتسبب بإحدى أسوأ الأزمات الإنسانية وأزمات حقوق الإنسان في العالم، بما في ذلك، وفق "هيومن رايتس ووتش"، "جرائم حرب" بحق لاجئين إريتريين في تيغراي. وأشار البيان إلى أطراف النزاع، محدداً "قوات الدفاع الوطني الإثيوبية وقوات الدفاع الإريترية، وجبهة تحرير شعب تيغراي، وقوات أمهرة الإقليمية، كونها متهمة بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان ضد المدنيين".
وتأتي الإجراءات الأميركية ضمن سلسلة ضغوط وعقوبات سبق أن كشفت عنها مجلة "فورين بوليسي" الأميركية في مايو (أيار) الماضي، إذ "خططت إدارة الرئيس بايدن لمعاقبة مسؤولين إثيوبيين وإريتريين، عبر فرض قيود على منحهم التأشيرات في إطار حملة دبلوماسية ضد حكومة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، على خلفية الفظائع التي ارتكبتها القوات الإثيوبية والإريترية في صراع إقليم تيغراى شمال إثيوبيا، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي".
كما دأبت الإدارة الأميركية على توجيه الأطراف المتصارعة نحو السلام، وفق اتفاق يوقف الحرب ويحقن الدماء، وهو ما لم يجد عزيمة جادة لدى الأطراف المعنية، على الرغم من الجهود الدؤوبة التي قام بها المندوب الأميركي إلى القرن الأفريقي جيفري فيلتمان.

غياب الإنصاف

في المقابل، انتقد رئيس الوزراء الإثيوبي، السياسات الأميركية الأخيرة والعقوبات تجاه بلاده، وأكد عدم الرضوخ لها، متهماً في رسالة وجهها إلى الرئيس الأميركي جو بايدن المجتمع الدولي بـ"الفشل في شجب الممارسات الإرهابية للمتمردين في جبهة تيغراي". وقال أحمد في رسالته التي بثها عبر "تويتر" "لسوء الحظ بينما يوجه العالم بأسره أنظاره إلى إثيوبيا والحكومة لكل الأسباب الخاطئة فقد فشل في توبيخ الجماعة الإرهابية بشكل علني". ووصف القرارات الأميركية بأنها "كانت مفاجئة، وغير مبررة واتسمت بمعايير مزدوجة"، مؤكداً "عدم الرضوخ لها".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولفت أحمد إلى أنه "على الرغم من وضع الولايات المتحدة كصديق قديم لإثيوبيا، وشريك في الأمن، فإن السياسة التي تتبعها أخيراً تتجاوز المخاوف الإنسانية لأهداف أخرى".
وفي رد فعل آخر، دعا نائب رئيس الوزراء، وزير الخارجية الإثيوبي دمقي مكونن، المجتمع الدولي إلى تقديم الدعم الإنساني العاجل والعادل والمتوازن للوضع الحالي في إثيوبيا، مشيراً إلى أن "المزاعم المتكررة ضد الحكومة تنبع من سوء فهم للوضع الحالي في إثيوبيا". وقال "نريد من المجتمع الدولي وكل الدول الصديقة أن يكون لديها فهم عادل ومتوازن للمشاكل في إثيوبيا".
في المقابل، ظلت جهات المعارضة الإثيوبية الممثلة في "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" تتمسك بمواقفها، التي تجد في الضغوط الخارجية على الحكومة سنداً لها. وأشار مراقبون إلى أهمية إدراك الطرفين حجم الخسائر المترتبة على بلادهم جراء النزاع وعدم الاستقرار الذي تعيشه، وما يجره من خسائر اقتصادية وتعطيل للتنمية، فضلاً عن انعكاساته الداخلية الأخرى، وأبعاده الخطيرة على منطقة القرن الأفريقي. ويعتبر العنصر الخارجي ممثلاً بالولايات المتحدة والغرب، نفسه شريكاً في استقرار إثيوبيا، إذ تتأثر مصالحه جراء انسياق المنطقة إلى حالة من عدم الاستقرار يمكن أن تتوسع وتنتقل إلى أماكن أخرى نظراً إلى هشاشة المنطقة والتداخلات المعقدة فيها. كما أن استغلال الأحداث فيها من قبل أطراف دولية أخرى منافسة أمر غير مستبعد.
وضمن التدافع في مناخ الاستقطاب الذي يعيشه العالم، لم تكن الصين بعيدة عن أحداث تيغراي، فكان موقفها مناصراً لإثيوبيا في رفض القرارات الأميركية. وقال المتحدث باسم الخارجية الصينية تشاو لي جيان إن "الصين تُعارض العقوبات الأميركية على إثيوبيا". وحضّ المسؤول الصيني عبر حسابه الرسمي على "تويتر" الولايات المتحدة على لعب "دور بنّاء في استعادة السلام والاستقرار في إثيوبيا". وأكد أن السلطات الإثيوبية تملك "الحكمة والقدرة على حل الخلافات الداخلية بشكل صحيح".
كما نظمت إثيوبيا حملةً قومية بعنوان "البريد الأبيض للبيت الأبيض" بدأت منذ 13 سبتمبر (أيلول) الحالي وتستمر إلى الـ25 منه، في شأن "قضية تيغراي وحملة إنفاذ القانون". وانضم إلى الحملة العديد من المسؤولين بمَن فيهم وزير الدفاع الإثيوبي قنأ يادتا، الذي علق عقب توقيعه على خطاب الحملة الموجه إلى البيت الابيض أن "الهدف الرئيس هو إبلاغ المجتمع الدولي بحقيقة الواقع الإثيوبي، وفضح جبهة تحرير تيغراي".

 معالجات الشعوب

أحداث الحاضر وتداخلات صراع الداخل مع الخارج في إثيوبيا، يضعها المراقب في صياغ تكرار الأزمان، التي وإن اختلفت طبيعة معطياتها إلا أنها تحتفظ بتكرار فعلها، ومن ثم فإن من أهم الأسس في معالجة أزمات الشعوب هي القراءة الصحيحة لخلفياتها في "بعدها الإنساني" سواء في تكوين عنصره في القبلي والقومي أو سير التاريخ، وهو ما تحتاجه الأزمة الإثيوبية.

المزيد من متابعات