Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأميركية سوزان شوي تروي رغبات المراهقة وتداعياتها

روايتها الجديدة مرافعة ضد التجاوزات الممارسة على أجساد الفتيات في المحيط الفني

الروائية الأميركية سوزان شوي تكتب عن الممثلات في المسرح (صفحة الكاتبة على فيسبوك)

من بين التمارين التي يتوجب على كل ممثل مسرحي مبتدئ أن يمتثل لها، ثمة واحد يقتضي "ترك الممثل نفسه يقع إلى الخلف في شبكة أذرع رفاقه". وهذا ما تتطلبه الكاتبة الأميركية سوزان شوي من قارئها في روايتها الخامسة، "تمرين على الثقة"، التي حصدت جائزة "ناشيونال بوك" العريقة، وصدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "أكت سود" الباريسية. نص ساحر بقدر ما هو متطلب، ويحملنا نثره المكثف والتأملات المسيرة داخله أبعد من قصة الحب المراهقة التي تسردها شوي فيه.

أحداث القسم الأول من الرواية تدور مطلع ثمانينيات القرن الماضي في مدينة غير مسماة تقع في جنوب أميركا، وشخصياته كثيرة، أبرزها دايفيد وسارة اللذان يتحابان كما وحدهم المراهقون قادرون على ذلك، أي بحدة وهوس. في سن الخامسة عشرة، يقتصر حلم كل منهما الشخصي على رخصة قيادة وفرصة للصعود على خشبة المسرح وإثبات موهبته الفنية. موهبة فتحت لهما باكراً أبواب "أكاديمية الفنون المسرحية" في مدينتهما، حيث نراهما مع رفاقهما يتدربان على مهنة التمثيل تحت إشراف أستاذهما كينغسلي، وهو مسرحي سابق أخرج مسرحيات مهمة في برودواي، ويلجأ لتعليم طلابه إلى منهج غير تقليدي يقوم على تعرية مشاعرهم وتشريحها أمام رفاقهم.

وبسرعة، تصبح صالة التمارين في الأكاديمية منزلاً ثانياً لهؤلاء الطلاب، حيث يتدرب كل منهم على اكتشاف جروح الرفاق ومكامن ضعفهم خلف سلوكهم وحركات جسدهم، ويعي طموحهم الجارف إلى الشهرة: "داخل هذه الغرفة، زحفوا في رحمة الظلام الدامس، تلاقوا وتلامسوا. استلقوا على ظهورهم ليصيروا جثثاً. تهدهدوا وسقطوا في أذرع رفاقهم المتقاطعة". باختصار، كم من "التمارين على الثقة" ومن الطقوس المسارية التي تجعلهم يعبرون بسرعة من سن المراهقة إلى سن الرشد.

مواجهة الأجساد

وخلال واحد من هذه التمارين غايته تدجين أجسادهم ومواجهة أجساد الآخرين في العتمة، يحتك جسد سارة صدفةً بجسد دايفيد، ما يشعل شرارة تلهب مشاعر كل منهما تجاه الآخر، على الرغم من كونهما من بيئتين مختلفتين، أو ربما بسبب ذلك. دايفيد من عائلة ميسورة تسافر به إلى خارج البلاد عند كل فرصة، بينما لم تغادر سارة أبداً الحي البائس والباهت الذي تعيش فيه مع أمها، بل نراها تعمل خلال عطلة الأسبوع في مخبز لتوفير مصروفها وشراء سيارة. لكن هذا الاختلاف الذي أسهم في تأجيج انجذاب كل منهما إلى الآخر في البداية، لا يلبث أن يحفر فجوة بينهما ويؤدي في النهاية إلى تخاصمهما، لكن من دون أن يتمكن من خنق رغباتهما التي تبقى مشتعلة تحت رماد علاقتهما. وفي أحد الأيام، وبسبب إلحاح هذه الرغبات، يؤدي لقاء صدفوي بينهما في الرواق الذي يفضي إلى صالة التمرين، إلى خلعهما ثيابهما وتعانقهما بعنف على أرض الرواق، غير عابئين بإمكانية انكشاف أمرهما في أي لحظة...

القسم الثاني من الرواية يدور في المدينة نفسها، لكن بعد 12 عاماً من تخرج سارة ودايفيد. زمن كان قد غادر خلاله نجوم الأكاديمية المدينة ولم يبق فيها سوى من كانوا مجرد ممثلين ثانويين على خشبتها، مثل سارة التي يؤول لقاؤها برفيقة سابقة لها إلى انكشاف سردية جديدة لما حصل في الأكاديمية أثناء دراستها، ما يعيد توزيع الأدوار ويوضح النقاط المعتمة في السردية السابقة، ويبلور تحت أنظارنا حقيقة أخرى تجعلنا نتساءل: ما الذي حصل فعلاً آنذاك، ومن علينا أن نصدق، وهل يمكننا أن نثق في ذكرياتنا فحسب؟

وفعلاً، الفضاء الذي تنزلق السردية الجديدة فيه لإنارة تلك النقاط المعتمة هو فضاء ثقة منتهكة. انتهاك لا تتم تعريته بطريقة مباشرة، لكنه يتراءى خلف مشهد، وراء جملة أو كلمة، حتى لا يعود الشك مسموحاً به. انتهاك يمكن اختصاره بسؤالين: هل كان يحق لأساتذة الأكاديمية التدخل إلى هذا الحد في حياة طلابهم؟ وهل أن الراشدين مسؤولون عن فقدانهم أوهامهم؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من خلال لعبة المرايا بين جزأيها، تغوص رواية شوي بقارئها داخل تلك الحساسية المرهفة لسن المراهقة، السن الأكثر رقة والأكثر قسوة الذي نشعر خلالها بأقل اتصال كما لو أنه احتراق، وتأخر أقل ملاحظة نتلقاها كأنه جرح بليغ فينا، وترمينا أقل نظرة في هوة عميقة. لكن قيمة نصها تكمن خصوصاً في التحول السردي الذي يحدث في جزئه الثاني، إذ تنقلب فجأةً سردية الجزء الأول المطمئنة التي نتلقاها من منظور سارة، بصيغة المجهول، ويتبدد العالم الخيالي الذي نستسلم طوعاً له، وينكشف لنا أن أسماء الشخصيات التي تعرفنا إليها ليست سوى أقنعة ابتكرتها سارة، بعدما باتت روائية معروفة، لسرد تلك المرحلة من شبابها داخل رواية، على حساب الحقيقة أحياناً. كشف عن طريق كارين، وهي شخصية هامشية في الجزء الأول، تأخذ الكلام في الجزء الثاني وتواجه ذكريات سارة التي خطتها في روايتها بذاكرتها الخاصة، متشبثة باللغة وبتعريف القواميس لكلماتها باعتبارهما اليقين الوحيد. وفي هذا السياق، توضح لنا أنها في الواقع جويل في سردية سارة، صديقتها الحميمة، قبل أن تهملها حين تقع في غرام دايفيد. جويل التي لم تختبر مشاعر الحب ورغبات الجسد في سن المراهقة سوى مع رجال ناضجين...

البنية المتناقضة

هكذا نتعرف إلى حاضر هذه الفتاة وماضيها، عبر سردية بصيغة المتكلم تتوجه كارين فيها إلى القارئ أحياناً، وتستعيد ذكريات تناقض ما تم تشييده بصبر في الجزء الأول. وقد يبدو صرح الرواية معقداً من طريقة تقديمنا لها، لكن شوي تتقن بناءها إلى حد لا يبدو أي شيء غامضاً أو متاهياً فيها. ونظراً إلى براعتها اللافتة في نسج خيوط حبكتها وإدارة دفة سرديتيها، لا يتوه القارئ أو يمتعض في أي مكان داخل نصها، بل ينتشي حين تعمد الروائية إلى زعزعة قناعاته، ويستجيب بلا مقاومة حين تتطلب منه ثقة للإصغاء إلى تلك المرافعة الخفية الكامنة خلف قصتها. مرافعة تستحضر عناصرها، التي تتدفق تدريجياً بألمعية داخلها، الفترة التي نعيش فيها من أجل فضح التجاوزات الذكورية التي ما زالت تتعرض لها أجساد النساء داخل المحيط الفني. مرافعة نسوية إذاً، لكن جانبها النسوي لا يكمن في شجب هذه التجاوزات بقدر ما يكمن في ذلك التشريح العميق والحاذق لمشاعر الشخصيات النسائية وانفعالاتها.

باختصار، رواية آسرة ومتعددة الوجوه تكشف عيوب الذاكرة وقدرة الاستيهامات المبكرة على الانتقام من أصحابها، وتعري الهوة التي تفصل بين الواقع والنظرة الذاتية التي يلقيها كل واحد منا عليه. رواية تراهن شوي حتى صفحتها الأخيرة على صبر قارئها واستسلامه لنثرها الأخاذ، وتكسب رهانها لأننا لم نشعر ولا مرةً واحدة برغبة في إيقاف قراءة نصها قبل بلوغ نهايته، وذلك على الرغم من طوله النسبي (368 صفحة) والجهد الكبير الذي تتطلبه هذه القراءة منا.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة