Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل الإنسان حر؟ (الجزء 11)

لا ننال كل ما نريده ومفهوم الفعل عند سارتر يعني التحرك صوب غاية محددة

الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (أ ف ب)

في الحلقة السابقة تناولنا رأي راسل في مشكلة الحرية، التي يراها من منظور الفردانية وتحقيق ذاتية الفرد، فهو المؤهل لفعل الخير في هذا العالم، وأن التطور الحر يجب أن يكون هدفاً سامياً لأي نظام سياسي يفترض فيه أن يعيد تنظيم العالم. ومثل هيغل، لم يُعطِ راسل تعريفاً محدداً لمصطلح الحرية، وأخذ بالمفهوم التقليدي السائد.

سارتر (1905-1980)

رفض جان بول سارتر التصورات الحتمية والإرادية في تفسير مفهوم الحرية، ويقول "من الغريب أن الفلاسفة كانوا قادرين على الجدل إلى ما لا نهاية حول الحتمية والإرادة الحرة"، وبحسب رأيه، فإن خطأ الحتميين يكمن في افتراضهم أن الأسباب الداخلية أو الخارجية مثل البيئة والظروف الاجتماعية والنفسية والاقتصادية ليست لها دخل فينا، وتشكل عائقاً تجاه الحرية. وكذلك بالنسبة إلى أصحاب الإرادة الحرة، الذين يفترضون أن الإنسان له القدرة على الاختيار العقلاني من بين مجموعة خيارات من دون أن تكون هناك أسباب سابقة أثرت عليه، مرتكزين على حجة أن الإنسان طالما بمقدوره أن يتخذ القرار ونقيضه في الوقت ذاته، فهي بينة على إرادته الحرة في اتخاذ القرارات. 

أما سارتر، فقد نظر إلى الحرية من منطلق مغاير عما أشار إليه الفلاسفة في نظرياتهم، فالحرية هي جوهر الإنسان وماهيته في هذا الوجود، إنها حقيقته وقدره، شاء أو لم يشأ، ولا يمتلك الاختيار بين أن يكون حراً أو غير حر، لأنه هو الحرية ذاتها. بمعنى آخر، إن الحرية ليست لها دوافع موضوعية، بل إنها تعني وجود الإنسان، عدمية كينونته، فإذا بدأنا بتصور الإنسان كمستوى كامل، فمن السخف محاولة العثور عليه بعد ذلك في مناطق نفسانية يكون فيها حراً، كما لو كان البحث في فراغ الحاوية التي ملأها مسبقاً حتى حافتها، إذ لا يمكن للإنسان أحياناً أن يكون عبداً، وأحياناً أخرى حراً، فهو إما أن يكون حراً تماماً وإلى الأبد، أو ليس حراً على الإطلاق. والحقيقة أن الإنسان كائن حر، وما يقوم به من أفعال هو توكيد هذه الحرية، فالفعل هو إثبات القدرة على تغيير الأوضاع التي تؤثر في عالم الموجودات، بغض النظر عن حجم الفعل وقيمته في النتائج، سواء أكانت خيراً أو شراً، فهو صادر من حريته وإرادته الخالصتين. 

وعليه، فإن الحرية بقدر ما تعني صفة الوجود الإنساني، فإنها قوام هذا الوجود أيضاً، وإذا أراد الإنسان – الفرد، أن يتنكر لذاته بغية الهروب من حريته ومسؤولية أفعاله، بإقناع نفسه أنه مجرد شيء بين هذه الأشياء الموجودة، فهذا وهم يخدع به نفسه لا أكثر. فالحرية مقترنة بأفعال الإرادة والشعور على حد سواء، فهي استجابة سلوكية تتفاوت في الأسلوب بحسب الفرد، لكنها تتفق في الغاية، إذ إن كلاً من الفعل الإرادي والفعل الشعوري تعبيران عن الحرية الإنسانية التي تتكون بأشكال مختلفة.

وفي كتابه "الكينونة والعدم" 1943، يقول سارتر، "للتأكد من أنني لا أستطيع وصف الحرية التي ستكون مشتركة بيني وبين الآخر، لم أستطع بالتالي التفكير في جوهر الحرية، على العكس من ذلك، فإن الحرية هي أساس جميع الجواهر، لأن الإنسان يكشف عن الجواهر الباطنية من خلال تجاوز العالم نحو إمكاناته الخاصة" (الترجمة الإنجليزية)، ولكن هذه الحرية في الإمكانات الخاصة، بحسب رأي سارتر، لا تعني أن الإنسان بمقدوره أن يحصل على كل ما يريده، بل تعني قدرته المستمرة على اختيار ذاته، إذ يقرر بذاته أن يريد وفق المعنى الواسع لكلمة الاختيار. 

وفي هذا الصدد، يطرح سارتر مثلاً، أن شخصاً ما محكوم عليه بالسجن، فإن هذا السجين ليس حراً في الخروج من السجن، بسبب ظرفه القاسي، لكنه حر في أن يختار أن يحاول القيام بإطلاق سراحه، أي حر في أن يختار ذاته التي تتجلى في مشروع وجودي وهو المحاولة في الخروج، وذلك ما يجعل سجينين بالظروف نفسها يتصرفان بشكل مختلف على الرغم من تشابه أوضاعهما، فأحدهما يختار أن يستسلم ويصاب بالإعياء، بينما يختار الآخر الأمل والاستمرار في المحاولة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهذا يعني، أن الإنسان لا ينال كل ما يريده، ما جعل كثيرين يعتقدون أن مفهوم الحرية هو الحصول على النتيجة المبتغاة دوماً، في حين أن الإنسان حر دائماً، سواء نال مراده، أو لم ينله، فالاختيار فعل قصدي يثبت فيه الإنسان نفسه بعملية التنفيذ، إذ لا يمكن أن يكون الفعل من دون تنفيذ، فهو الصيغة التي تتخذ الحرية فيها وجودها، كما أن الفعل والاختيار هما الشيء ذاته. وبذلك، فإن تختار يعني أن تفعل، حتى لو اخترت عدم الاختيار فهو بحد ذاته فعل.

بيد أن مفهوم الفعل، عند سارتر، يعني التحرك صوب غاية محددة، أي قصدية معينة، وكل فعل تنقصه البنية القصدية ليس فعلاً، فالإنسان الذي تسبب سهواً بحدوث شيء ما، لم يقم بالفعل، لأن فعله ينقصه القصد الذي يقود لغاية ما، على عكس من يفعل وهو يعرف أن لديه غاية في فعله هذا مهما كانت بسيطة. ويوضح سارتر سبب الفعل الذي نختاره من دون غيره من الأفعال، ليس نتيجة الوضع القائم الذي نحن فيه، وإنما إدراكنا لما هو غير موجود بعد، أي عدمي. فالعامل الفقير ينتفض ضد صاحب العمل بسبب قلة ما يعطيه، وليس نتيجة وضعه الحالي، إذ إن الأوضاع تبقى حيادية أصلاً، والدليل كون وجود آخرين في الوضع نفسه، لكنهم لم يثوروا، لذا فالذي دفعه هو تصوره وضعاً تكون فيه حالته أفضل، أي تصور لما هو غائب عنه، وهذا هو "إدراكنا للعدميات"، وفق مفهوم سارتر.

ويرى سارتر، أن "الإنسان يعرف نفسه من خلال مشروعه، فهذا الكائن المادي يتجاوز بشكل دائم الحالة التي تم إنشاؤها له، فهو يكشف ويحدد موقعه من خلال تجاوزه من أجل الاعتراض على العمل أو الفعل أو المغزى، لذا يجب عدم الخلط بين المشروع والإرادة" (البحث عن طريقة، طبعة إنجليزية). 

فوفق رأي سارتر، فإن كل فعل نختار أن نقوم به مهما كان ضئيلاً وبسيطاً، هو تعبير واضح عن المشروع الأصلي الذي يحركنا، فهو المشروع الأول السابق على كل ما نقوم به، ومن خلاله نختار أن نتصرف بهذه الطريقة أو تلك، كما لو أن فيه نمطية كبيرة تعبر عن أفعالنا الصغيرة المألوفة، والتي تختلف من فرد إلى آخر، لذلك يجد المرء صعوبة بالغة في تغيير سلوكه المعتاد عليه، لأن أي تغيير يعني تغيير المشروع الكبير الأساسي، ويعني أنني أختار أن أكون شخصاً مختلفاً مع إمكانية إبقاء التغيير بشكل دائم.

ومعنى ذلك، أن حرية الاختيار مفروضة على الإنسان بشكل قسري، سواء اختار لنفسه ما يجعله سعيداً أو تعيساً، ولذلك فهو وحده الذي يتحمل مسؤولية كل ما يختاره ويواجهه في حياته، ولكن حتى تحت أقسى الظروف التي يتعرض لها، فإن لديه الإرادة باختيار ذاته دوماً. وهنا تناقض سارتر، إذ بالوقت الذي يبرز فيه أهمية الإنسان في تحمل المسؤولية في قراراته، وألا يخضع منقاداً لشعور الإحباط والانكسار، لكنه يحمل الفرد تبعات ذلك بعيداً عن تأثير الواقع الخارجي عليه، وهذا إجحاف بحقه، ما يجعل الحرية الإنسانية عند سارتر خالية من فكرة القيمة. ومع ذلك، كان سارتر قطباً ثانياً بعد برغسون في الفكر الفرنسي تجاه فلسفة الحرية أو غيرها من الموضوعات، لا سيما في النصف الأول من القرن الـ 20.

المزيد من آراء