"كان الحوثيون يسمحون لنا بالزيارة مرة كل 4 أشهر، وفي آخر زيارة رأيته فيها، وقال لي وهو من وراء قفص حديدي: أحضري لي صور حفيدي، وردد وهو يبكي: أنا مظلوم". كانت هذه قصة أحد الضحايا كما ترويها شقيقته، وهي تحكي معاناة آخر زيارة لها قبل أن يُواجه أخوها حكم الإعدام بالأمس ضمن تسعة أشخاص آخرين بعد أن اتهمتهم الميليشيات الحوثية بالضلوع في مقتل القيادي في الجماعة صالح الصماد في أبريل (نيسان) عام 2018، والذي قُتل في غارة جوية نفذها التحالف العربي لإعادة الشرعية في محافظة الحديدة (غرب اليمن).
"اندبندنت عربية" تواصلت مع بعض أقارب الضحايا الذين راحوا ضحية حكم وصفته منظمات حقوقية بـ"الجائر"، ويفتقد أبجديات العدالة، وتحدثوا بخشية وخوف، وطالبوا بأن لا ترد أسماؤهم في التقرير خشية اللحاق بذويهم الذين أعدموا بالرصاص بعد سنوات من الاعتقال والتعذيب الوحشي.
في 18 سبتمبر (أيلول) فاق اليمنيون على صورة أكثر رعباً من مشاهد هوليوود الدموية، إذ نقل الحوثيون مشاهد الإعدام بالرصاص، ولحظات ما قبله، وكانت صورة طفل تهامة الذي فقد القدرة على الوقوف وهو يترقب لحظات إعدامه حديث اليمنيين، ولربما أنها ستظل عالقة في أذهانهم طويلاً.
وعقب 4 أعوام من الإخفاء والتعذيب الجماعي للمختطفين بهدف الحصول على اعترافات قسرية، لجأت الميليشيات، وفقاً لحقوقيين، لنصب محاكمة سرية مسيسة سريعة في مسعى لدفن القضية التي يتورط فيها قيادات حوثية كبيرة، أبرزهم القيادي محمد علي الحوثي، رئيس ما يسمى "اللجنة الثورية".
أين كنتم؟
وفي محاولة للاقتراب أكثر من صورة المشهد، تواصلت "اندبندنت عربية" مع ذوي الضحايا، ومن بينهم شقيقة أحد الذين قضوا في أحكام الأمس، التي تساءلت وهي حانقة، "أين كنتم قبل اليوم (تقصد الجهات الإعلامية)؟ وأين منظمات حقوق الإنسان التي توسلت إليها كثيراً قبل الإعدام؟ وأين منظمة المبعوث الأممي؟ أين هم من كل هذا عندما رفضوا حتى يدخلونا إليهم ويسمعوا مظلمتنا ونحن نستنجدهم لإنقاذنا". كانت السيدة تتحدث بحرقة وبكاء، قبل أن تواصل حديثها، "كل هؤلاء لا فرق بينهم وبين الذين كانوا يجعلوننا ننتظر عند باب الزيارة (في السجن)، ولكن على الأقل كنا في الأخير ندخل ونشاهد أخانا، أما منظمة المبعوث الأممي فجعلتنا ننتظر دون رد، ولم يسمحوا لنا بأن ندخل إليهم، وكانوا ينظرون لنا كأننا غرباء في بلادنا".
وتمضي قائلة، "ما الفائدة من أن تندد هذه المنظمات بعد أن يقع الفأس في الرأس؟ هم يشاهدون نداءاتي عبر وسائل التواصل منذ سنوات قبل الإعدام، لكنهم لم يفيقوا ببياناتهم سوى بعد لحظات من الإعدام، هذه متاجرة غير مجدية".
أحضان القضبان
ورداً على سؤالنا عما إذا كانوا قد تمكنوا من زيارته، أجابت بالقول، "كانت تتاح لنا زيارته كل 4 أشهر، وعلى الرغم كل هذا كنا نشعر بالإهانة، إذ كنا ننتظر أحياناً في الشارع بالساعات الطوال، وتحت لهيب الشمس إلى أن يسمحوا لنا ويحظروهم (المحكوم عليهم)، وحينها تبدأ كل أسرة بالدخول لمدة 10 دقائق فقط، كنت أبكي وأنا أزور أخي وهو مكبل ومغلق عليه في قفص حديدي، ولم نستطع حتى أن نحضنه أو نقترب منه إلا من وراء القضبان".
وعما تختزله هذه الدقائق العشر من حوار بين رب الأسرة وذويه بعد فراق وأسى طويل تقول، "كان دائماً يقول: أنا مظلوم، ادعوا لي، وكان يوصينا في بعض".
وتضيف، "كنت أتمنى أن أصور المشهد وهو يحتضن الجميع من وراء القضبان".
تتطرق لمشاعر الحراس خلال تلك اللحظات بقولها، "للأمانة، كان بعض الحراس تحسهم ملائكة، والبعض منهم وحوش من هيبة وقوة المشهد، والله إنهم يبكون معنا، والبعض كانوا كالحجارة، ويصيحون: خلاص، هيّا، كفاية".
حوت بعض الزيارات مشاعر إنسانية تختزلها في أنه ذات زيارة "طلب صورة لأحد أحفاده الصغار بعد أن اشتاق إليه، فأحضرناها له، ولكن حراس السجن لم يسمحوا لنا بإدخالها له، وناشدناهم، وطلبت أن يفحصوها، ولكن الضابط صرخ بأعلى صوته، رافضاً إدخال صورة الحفيد للجد، وبعد محاولة متكررة قام ومزقها (الصورة) ومضى.
معاناة تفوق الوصف والخيال
وبصوت متقطع وحشرجة تحدثنا مع قريب لأحد الضحايا، الذي قال إنه لا يستطيع وصف العذاب والظلم الذي تعرض له شقيقه. ومضى بالقول، "منذ اعتقاله إلى يوم المجزرة، واجه صنوفاً لا توصف، وتقدر تقول كتلة من العذاب النفسي والجسدي والمعنوي المتمثل في الإخفاء القسري والتعذيب داخل الحمامات لمدة ثمانية أشهر". وتابع، "بعد ذلك، جاءت فترة المحاكمة في المرحلة الابتدائية وما صاحبها من تعذيب وتعسف وجور ومصادرة لحقوق أخي". واختتم، "وصلنا الآن من صنعاء بعد أن نقلنا الجثامين، ولا أستطيع أن أواصل كلامي لأن ما تعرض له محمد ومن معه من تعذيب فوق الوصف والخيال".
مذبحة جماعية
عقب ساعات الإعدام نددت الحكومة اليمنية ومجلس النواب والمقاومة الوطنية والبرلمان العربي ومنظمات حقوقية محلية ودولية بأشد العبارات إعدام ميليشيات الحوثي المدعومة من إيران 9 مدنيين من محافظة الحديدة بينهم طفل، بعد سنوات من إخفائهم قسرياً وتعذيبهم بشكل وحشي وإخضاعهم لمحاكمة صورية حُرموا فيها من أبسط حقوقهم، وهو الدفاع عن أنفسهم، أو الترافع أمام القضاء، فيما وصف مراقبون حقيقيون إعدام الطفل رفقة الثمانية الآخرون بـ"مذبحة جماعية وجريمة إرهابية مروعة تكشف عن بشاعة ميليشيات الحوثي".
ودعت البيانات المنددة بالجريمة، بـ"الرد العملي على هذه الجريمة عبر ثورة شعبية تقتلع الإرهاب الحوثي من أرض تهامة وكل اليمن انتصاراً لدماء الأبرياء والمظلومين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما لم تفلح نداءات المنظمات الحقوقية والإنسانية في التدخل العاجل لوقف تنفيذ حكم الإعدام، بعد أن أصدرت المحكمة الجزائية الخاضعة لحكم الحوثيين في الحديدة، في أغسطس (آب) 2020، حكماً بإعدام 62 متهماً في قضية مقتل صالح الصماد، بينهم 47 من قيادات في الشرعية وملوك ورؤساء وزعماء دول عربية وغربية.
وطاول الإعدام الذي كان على مرأى حشد من الناس وعدسات الكاميرات، كلاً من الشيخ علي بن علي القوزي، شيخ مشايخ "صليل"، إحدى أكبر قبائل تهامة، والقيادي بـ"المؤتمر"، الذي شغل منصب وكيل محافظة الحديدة وأمين عام المجلس المحلي الذي لفقت له الميليشيات تهمة وضع شريحة في جيب أحد مرافقي الصماد، والعميد عبدالملك حميد، ومحمد خالد هيج، ومحمد القوزي، ومحمد نوح، وإبراهيم عاقل، ومحمد المشخري، ومعاذ عباس، والطفل القاصر عبدالعزيز الأسود، فيما توفي المختطف العاشر على عبده كزابة، داخل سجن الحوثي، إثر التعذيب الوحشي والمعاملة القاسية.
وكانت الصورة التي تداولها اليمنيون على نطاق واسع قبيل لحظات إعدامه أكثرها إيلاماً، بعد أن أسنده جندي حوثي للوقوف والمُضي لحتفه الأخير بعد سنوات من التعذيب في السجون السرية للانقلابيين الحوثيين.
على خطى إيران
ووصفت جهات رسمية محلية ودولية ومراقبون حقوقيون ونشطاء، الحادثة بأنها تأتي في سياق المساعي الحوثية الحثيثة لتكريس التجربة الإيرانية الطائفية في اليمن من خلال ترهيب المجتمع. وقالت الحكومة اليمنية إن "المذبحة تصعيد يذكر بمشاهد إعدام نظام إيران لمعارضيه"، وهي بحسب الحكومة الشرعية، "إعلان خطير عن تدشين ميليشيات لأعمال القتل الجماعي للمناهضين لمشروعها الانقلابي، وتأكيد لاستخدامها القضاء الخاضع لسيطرتها كأداة لتصفية حساباتها السياسية وإرهاب خصومها ومعارضيها من سياسيين وإعلاميين وصحافيين".
وقال مجلس النواب في بيان، حصلت "اندبندنت عربية" على نسخة منه، "إن جريمة إعدام المواطنين التسعة تعكس انغماس الميليشيات في التنكيل بالمجتمع واستخدام البسطاء من أبناء تهامة كباش فداء لتصفية حسابات داخلية للتغطية على الانقسامات القائمة فيما بينهم".
فيما قالت ميليشيات المتمردين في بيان لها، إن "النيابة العامة أعدمت المُدانين رمياً بالرصاص في حضور حشد كبير، منهم مسؤولون (حوثيون)، وأقارب القتيل في العاصمة صنعاء، بعد أن دينوا بالتورط في قتل الصماد، وتشمل التهم الموجهة لهم التجسس، ونقل معلومات حساسة" إلى التحالف.
أحكام جائرة
من جهته، قال محامي الدفاع عن المتهمين، عبدالمجيد صبرة، خلال حديثه لـ"اندبندنت عربية"، إن المحكوم عليهم واجهوا تعسفاً كبيراً جداً ابتداءً من لحظة اعتقالهم حتى صدور تلك الأحكام الجائرة في حقهم، وحرموا من حقهم في الدفاع، ومن حقهم في محاكمة عادلة ومنصفة".
أشد تعذيب
في تفنيد قانوني للظلم الذي تعرضوا له أوضح أنه جاء ابتداءً من عملية إخفائهم قسراً لمدة ستة أشهر، دون أن يعلم عنهم أقاربهم شيئاً طوال هذه الفترة، والتي جرى خلالها تعذيبهم بأشد أنواع التعذيب البدني والمعنوي، والتحقيق معهم في هذه الفترة، ونُسبت إليهم أقوال لم يقولوها، ولم يعملوها، وإنما قام بكتابتها المحقق معهم، وأرغمهم على التوقيع عليها".
ووفقاً للمحامي صبرة، فإن "هذه الحالة كانت أمام النيابة العامة التي طلبوا منها في فترة التحقيق السماح لهم بالتواصل مع أقاربهم لأنهم لا يعلمون عنهم شيئاً، ولم تستجب النيابة العامة لذلك الطلب، وسارت بالتحقيق معهم، ولم يعلم عنهم أقاربهم شيئاً إلا في الجلسة الأولى الابتدائية المتخصصة بالحديدة المنعقدة في منتصف أبريل 2019".
يتابع، "في هذا اليوم علم أهاليهم بمكان وجودهم، وأنهم متهمون باغتيال الصماد، حيث تم نشر مجرى القضية في الصحف والقنوات، وشاهد أهاليهم صورهم في ذلك الحين، وتمت الجلسة الأولى من دون حضور محامٍ معهم، كما تم استجواب كل متهم منفرداً من دون حضور زملائه، كما لم يسمح لهم بوجود محامي الدفاع إلا في الجلسات القادمة".
من بين المخالفات القانونية الفادحة يؤكد صبرة أن سلطات الحوثي اكتفت "بثلاث جلسات متتابعة لمدة أسبوعين فقط لكي يقدموا ما لديهم على الرغم من كبر القضية المنسوبة إليهم التي تحتاج على الأقل للمدة التي أخذتها النيابة العامة 11 جلسة لمده ستة أشهر، لكن لم تتم الاستجابة لطلب المحامي، وطلبوا تقديم طلب رد القاضي عن القضية، لكنه رفض ونطق بحكم الإعدام بعد ستة أو سبعة أشهر".
بداية لإعدامات مقبلة
في رصد لبعض ما حوته مواقع التواصل الاجتماعي إزاء الحادثة عبّر قطاع واسع من اليمنيين عن خشيتهم من الممارسات الحوثية لتكريس نهج قمعي لكل من يخالفها.
الصحافي محمد حفيظ قال، "هكذا إذاً الهدف من تحقيق العدالة في قضية الأغبري من قبل اليد الماكرة هو تدشين حفلات إعدامات سياسية ومناطقية وانتقامية وطائفية مستقبلية من قبل جماعة الحوثي بصنعاء". ويضيف، "بدأتها الجماعة المدعومة من إيران بإعدام تسعة من أبناء تهامة - الحديدة بتهم ملفقة وكيدية، والقادم أكثر عنفاً"، فيما وجّه القاضي عبدالوهاب قطران سؤالاً للسلطات القضائية الحوثية في منشور له على صفحته بـ"فيسبوك" عن حكم المحكمة العليا، ووصفهم بـ"سلطة النفاذ المعجل". وأضاف، "من حقي كمواطن يمني، ومن حق المواطنين اليمنيين التسعة الذين تم إعدامهم، صباح اليوم، ومن حق محاميهم، ومن حق أسرهم، أن يعرفوا هل يوجد فعلاً حكم أيّد إدانتهم صادر من المحكمة العليا؟". وفي استيضاحات قانونية تساءل: لماذا أصروا على إخفاء حكم المحكمة العليا؟ لماذا استعجلوا بالتنفيذ قبل أن يمكن المتهمون من تسلم صور الأحكام وتسليم محاميهم نسخاً منه؟ أين حكم المحكمة العليا الذي أعدمتم به المتهمين قبل أن تراه أعينهم؟".
ووجه سفير اليمن لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو)، محمد جميح، انتقاداً للحكومة الشرعية التي قال إنها "تندد من وراء الحدود"، مطالباً إياها بالعودة لأرض الوطن. وكتب جميح، "الرد على جريمة الحوثي بإعدام شهداء تهامة لا يكون بأن تطالب الحكومة العالم بإدانة المذبحة، بل بعودة الشرعية رئاسة وحكومة وبرلماناً إلى الوطن، للقيام بواجبها وعدم الاكتفاء بالإدانات". وتابع، "الاغتراب لا يكون لقيادة البلد". واختتم متسائلاً، "كيف لكل هذه الجرائم أن تحصل فيما الشرعية (تطالب وتندد) من وراء الحدود؟".