Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هنري جورج كلوزو الذي غاص في جحيم لم يعده به رئيس بلاده يوما

عزيمة كافكا السينما الفرنسية تتحطم على صخور فيلمه الأكثر صعوبة

هنري جورج كلوزو خلال التصوير   (غيتي)

هو فيلم يعتبر من أيقونات السينما الفرنسية رغم أن مخرجه لم يتمكن من إنجازه. وبالتالي لم يكن غريباً أن يصبح له حكاية تعتبر من الحكايات الكبرى في السينما الفرنسية وصولاً إلى أن يصبح له بعد خمسة وأربعين عاماً من "اختفائه"، لا يقل طوله عن ساعتين إلا قليلاً يروي قصته بلغة سينمائية وثائقية. ولعله عمل نادر في تاريخ السينما الأوروبية يعرف هذا المصير المزدوج الغرائبي مؤكداً بالتالي اللقب الذي كان، ومن قبل ذلك، يطلق على مخرجه هنري جورج كلوزو. سيقول مؤرخو هذا المخرج ذي المكانة المتفردة في تاريخ السينما الفرنسية لمرحلة ما قبل الموجة الجديدة، إنه لم يكن مصادفة أن يتحدث المخرج الفرنسي هنري جورج كلوزو، من وقت لآخر وخلال تفسيره لبعض أبعاد أفلامه، عن الكاتب التشيكي فرانز كافكا. فالحال أن هذا الأخير مارس تأثيراً كبيراً في المخرج الفرنسي، لا سيما فيما يتعلق بتركيز كلوزو على المعاناة الإنسانية، إذ نراه حتى في فيلم يبدو من السطح أنه يحمل أبعاد مغامرات عادية، مثل فيلمه "الجواسيس" يركز على معاناة المرء حين يكتشف أنه، طوال حياته، لم يكن أكثر من "شيء" يتلاعب به الآخرون. ولكن قبل العودة إلى هذا الموضوع لا بد من وقفة للحديث عن "الفيلمين" اللذين يحملان العنوان نفسه مع شيء من التعديل، فيلم كلوزو غير المكتمل (1946) والفيلم الوثائقي (2009) الذي يروي تحديداً قصة عدم الاكتمال تلك.

فندق وغيرة وذكريات غرام

صور كلوزو العديد من مشاهد هذا الفيلم في منطقة فرنسية سياحية نائية، لا سيما داخل وخارج فندق أطلق عليه في الفيلم اسم "فندق البحيرة" ويديره زوجان (يقوم بالدورين رومي شنايدر، الزوجة، وسيرج ريجياني، الزوج)، وتكاد الأمور تسير هادئة لولا أن دخول شخص ثالث على الحكاية يشعل لدى الزوج لهيب الغيرة أو جحيمها بالأحرى، وينتهي به الأمر إلى ربط زوجته في سريرها والبدء في تعذيبها بشتى الوسائل في وقت يتذكر هو فيه ماضيهما والساعات الحلوة في علاقتهما ما يزيد من نار غيرته. كان موضوعاً بسيطاً وحميمياً كما سيقول كلوزو لاحقاً "ولولا أنني أصبت من جراء إرهاق العمل بأزمة قلبية حادة أرغمتني على وقف التصوير، لكنت جعلت منه واحداً من أفضل أفلامي" غير أن المخرج الذي كان يغامر بأمواله وبات على شفير الإفلاس، وجد نفسه يتخلى عن الفيلم متناسياً إياه بالتدريج، بخاصة أن ممثله الرئيس سيرج ريجياني سرعان ما أصيب بدوره بمرض أقعده.

سينما تجريبية

تلكم هي باختصار الحكاية التي سيرويها لاحقاً الفيلم الوثائقي "جحيم هنري – جورج كلوزو" الذي حققه سيرج برومبرغ وروكسانرا ميدريا بعد عقود من "اختفاء" "الجحيم" وحاورا فيه عدداً من الذين اشتغلوا على الفيلم مع مشاهد مختارة مما سبق تصويره. وهكذا نجد رومي شنايدر التي كانت رحلت منذ زمن تحيا الآن في ذاكرة سينمائيين مثل كوستا غافراس أو كريستيان دي شالونج كانا مساعدين متتاليين لكلوزيو قبل أن يصبح كل منهما مخرجاً له مكانته. ويقوم الفيلم على التتالي بين الحوارات الجديدة واستعادة لقطات من العمل القديم، وعلى ألعاب تقنية جعلها تطور الفن السينمائي ممكنة بل اتسمت بطابع تجريبي ربما ما كان من شأنه أن يرضي صاحب الفيلم لو أنه لا يزال حياً وشاهد ما انتهى إليه فيلمه. ومع ذلك رأى كثر أن العمل الجديد قد شكل نوعاً من تحية لهذا المخرج الذي تضافر الإبداع والمعاناة في حياته. لا سيما إبداع المعاناة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الأميركيون والعرب يعيدانه إلى الحياة

والحال أن المعاناة لدى كلوزو أتت على الدوام كما يقول لنا الفيلم الجديد في ثناياه، معاناة وجودية لا ميتافيزيقية، عرف السينمائي كيف يصورها في أفلامه، وعرفت كيف تجر عليه المتاعب. ولعل من أبرز متاعبه تلك التي طاولته غداة الحرب العالمية الثانية والتحرير، حين طرده من مهنة السينما وعزله، فرنسيون لم يغفروا له إقدامه خلال سنوات الاحتلال الألماني على تحقيق فيلمه "العقرب" الذي تعمد فيه أن يكشف النقاب عن الحقيقة الكامنة خلف أقنعة الفرنسيين المتوسطين في قرية مغلقة على حياتها وتقاليدها، يحلو لشخص ما أن يعبث بها وبأخلاقيات أهلها عبر لعبة رسائل وفضح لا سابق لها. وكان ما يهم سينما كلوزو في المقام الأول على أي حال فضح المجتمع في تعامله مع الأفراد وفضح البرجوازية المزيفة التي لا تكف عن ابتكار قيم تفرضها على الآخرين دون أن تهتم هي بها. ومن هنا جاءت معظم أفلامه أشبه بمرافعات اتهام ضد عقليات النفاق والكذب. وفي هذا المعنى كان كلوزو مخرجاً على حدة في السينما الفرنسية. صحيح أنه حين رحل عن عالمنا عام 1977 كان قد أضحى منسياً بعض الشيء، ولكن بعد ذلك عادت أفلامه تعرض وتعرف حياة جديدة. بل سنجده وقد عاد إلى الحياة مرة أخرى عبر تحقيق أميركي- من بطولة شارون ستون وإيزابيل آدجاني- لواحد من أشهر أفلامه "الأبالسة" الذي كانت سيمون سينيوريه قد وصلت فيه إلى ذروة شهرتها في 1955. وهو فيلم اقتبس غير مرة منها مرة في لبنان على يد المخرج المصري فاروق عجرمة، حيث أطلق عليه اسم "نار الحب" وقامت ببطولته سعاد حسني إلى جانب حسن يوسف.

التسلل إلى الأعماق

في كافة أفلام كلوزو، كما في "الأبالسة" وكذلك طبعاً في "الجحيم"، يبدو الفيلم في سطحه الخارجي وكأنه مجرد حبكة بوليسية ولعبة تشويقية، غير أن التسلل إلى عمق أعماق الفيلم سرعان ما يحيلنا إلى الهموم التي شغلت ذلك الفنان، المولود في العام السابع من القرن العشرين، ودرس مهنة السينما في ألمانيا أيام ازدهار التعبيرية، وتعمق في أساليب الغوص في أعماق الإنسان وربط دوافعه بدوافع الذهنية الاجتماعية. ولعل دراسته في ألمانيا كانت هي التي حددت له شخصيته القومية وغير الممتثلة للمواثيق الاجتماعية والفنية المعهودة في فرنسا، وهي التي جعلته ينحو على الدوام إلى تحقيق أفلام تسير عكس التيار، ما جعله يصطدم بالرقابة مرات عديدة، ومنها تلك التي أفشلت مشروعه الكبير عن حرب الجزائر في عز اندلاع الثورة الجزائرية.

نظرة باردة

مهما يكن من الواضح فإن ما يميز سينما كلوزو وبعض أهم أفلامه من "العقرب" إلى "الحقيقة" (الذي مثلته بإبداع استثنائي، بريجيت باردو)، ومن فيلمه الأول "القاتل يقيم في الرقم 21" إلى فيلميه الأخيرين "الجحيم" (الذي لم يكتمل) و"الأسيرة"، مروراً بأفلام مثل "رصيف الجوهرجية" و"مانون" و"ثمن الخوف" وصولاً إلى "الأبالسة" و"الجواسيس"، ما ميز تلك الأفلام، هو النظرة الباردة التي كان كلوزو يلقيها على شخصياته، نظرة باردة ومبتعدة تتيح له أن يرسم الشخصيات درامياً كما يشاء، من دون أن يدخل في أي تفاصيل سيكولوجية. فالذي كان يهم كلوزو، كان الأسلوب الذي ينعكس فيه المجتمع على تصرفات الأفراد وعلاقتهم ببعضهم البعض، لا الكيفية التي تتطور فيها الشخصيات سيكولوجياً تحت ضغط المجتمع. فإذا أضفنا إلى هذا أن أفلام كلوزو كانت تقترح علينا، في نهاية الأمر، أن الحب هو الوسيلة المثلى للتخلص من قسوة المجتمع وفي سبيل الحب يهون كل شيء، نفهم الاستثنائية التي كانت لهذا المخرج في عالم السينما الفرنسية الذي بني دائماً على أسس سيكولوجية كما نفهم سر أسلوبه الذي كان الفعل والنظرات تلعب الدور الأساس لا الحوار ولا حتى ضروب المناجاة التي كانت، في الأفلام الأخرى، تأتي لتفسر وتبرر تصرفات الشخصيات وتبدلاتها.

أسرار الإبداع

يبقى أن نذكر أن كلوزو، في واحد من أروع أفلامه، عرف كيف يقدم لنا أسرار الإبداع من خلال تصويره للفنان بيكاسو وهو في سبيل تحقيق بعض لوحاته. هنا، في "سر بيكاسو" (1956)، الذي سبق أن قدمناه في هذه الزاوية، عرف كلوزو كيف يستخدم الكاميرا وفن التوليف ليكشف أسرار اللعبة الفنية، لعبة بيكاسو الفنية، ولكن أيضاً لعبته هو الفنية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة