Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الإعلام الرمضاني... أزمة إنتاج أم أزمة جودة؟

مسلسلات رمضان مثل الدقيق والعجين والسكر يشتريها الجميع بغضّ النظر عن معاييرهم الاستهلاكية

من موقع تصوير مسلسل" فالنتينو" (اندبندنت عربية)

لا يوجد موسم أكثر دلالة على أزمة المحتوى الإعلامي العربي من موسم رمضان، حين تفتح كل القنوات التلفزيونية والإذاعية والافتراضية نوافذها الواسعة ليطل منها ملايين المشاهدين والمتابعين، ثم يعود أغلبهم أدراجه وهم يرددون معاً قول الشاعر: إني لأفتح عيني حين أفتحها/ على كثيرٍ ولكن لا أرى أحداً.

ولكنهم يتفرجون، بالرضا أو بالإكراه، على تلك الرداءة الإجبارية السنوية التي لا بديل لها. ذلك أن الإنتاج الإعلامي أصبح مثل بقية السلع، قابل للاستهلاك بلا قيود. نعم، مسلسلات رمضان مثلاً مثل الدقيق والعجين والسكر والأرز، يشتريها الجميع بغضّ النظر عن معاييرهم الاستهلاكية لأنه رمضان. وفي رمضان لا بد من دقيق وسكر وعجين وأرز... ومسلسل.

المسؤولون عن إدارة المحتوى والإنتاج وغيرها من مهام ملء الشاشة والأثير والفضاء الإلكتروني بالمواد يجدون أنفسهم في واحد من أكثر الأعمال تحدياً في عصر الإعلام الحديث. فلم يحدث من قبل أن كان بين يدي المشاهد هذا العدد الهائل من القنوات الإعلامية، التي وفرتها التقنية. وهم في هذا الزمن يحسدون الأجيال التي قبلهم من مدراء المحتوى، الذين كانت مهمتهم تقتصر على إيجاد مواد كافية لقناة تلفزيونية أو إذاعية واحدة تبثّ لعشر ساعات في اليوم فقط، ثم انفتق الفضاء عن مئات القنوات الفضائية حتى أصبحت حيازة إحداها مجرد استثمار بسيط، ثم انفجر سيل الإنترنت الذي جعل بمقدور الشخص الواحد أن يتحول إلى قناة كاملة بمجرد امتلاكه جهاز تلفون ذكي لا أكثر.

غير أن هؤلاء المسؤولين، إلا من رحم الله، قابلوا هذا التحدي بالمقولة التسويقية المشوهة: المشاهد (ليس) دائماً على حق. وعبر السنوات، ثبت لهم أن المشاهد سيستهلك كل ما ينتجونه له بلا تمييز كبير. فالأعمال عالية الجودة كالأعمال منخفضة الجودة، كلها سيتم استهلاكها بالقدر نفسه. الفرق أن العمل الجيد سينال بعض التقريض وسيتمكن من الحضور مكرراً في مواسم مقبلة. بينما العمل الرديء سيخلد إلى الأرشيف في نهاية الشهر. وكلاهما، قياساً على تكلفة الإنتاج، يكون قد أدى دوره، وحقق ربحه، وانتهى الموسم الرمضاني وقد قبض المنتجون أجورهم. وهكذا تحققت الأهداف قصيرة المدى، ولا أحد بالتأكيد يهمه تلك الأهداف بعيدة المدى.

مشكلة المحتوى الإعلامي العربي بسيطة: يوجد وفرة في القنوات وأزمة في المحتوى الجيد. السوق الإعلامية العربية غير قادرة على إنتاج محتوى جيد كاف لكل هذه القنوات الإعلامية التي تتكاثر بشكل مهول. ورؤوس الأموال التي تتدفق على هذه القنوات مزاجية وبوسعها الانتقال سريعاً من قناة إلى أخرى في موسم واحد. والمشاهد لا ولاء عنده بمجرد أن يكون بين يده جهاز الريموت كنترول أو الهاتف الذكي، ولا يمنحك سوى وقت قصير جداً لتلفت انتباهه أو يتسرب إلى قناة أخرى تقدم محتوى أشد جذباً. انتشار الثقافة العولمية أيضاً وسّع من دائرة المنافسة، وأصبح مدير المحتوى العربيّ لا ينافس أبناء لسانه وثقافته فقط، بل المحتوى العالميّ بأكمله. أضف إلى كل هذه التحديات أن المستثمر العربي في الإعلام كمثل أي مستثمر آخر، يطالب بعائد سريع ومباشر، ولا وقت لديه لبناء أصول إعلامية طويلة المدى.

وبطبيعة الحال، فإن كل هذه التحديات أعلاه أدت إلى انحدار مستوى المحتوى العربيّ إلى قيعان غير مسبوقة. وفي كل رمضان، نظن أننا بلغنا القاع فعلاً حتى يأتي رمضانٌ آخر. ويصبح مهرجان الرداءة والتفاهة مهرجاناً مكرراً كلنا يتمنى توقفه ولكننا أيضاً لا نملك أن نوقفه. فلا بديل يلوح في الأفق. والمحتوى الذي تفرزه القنوات موسمياً لا يزال مأكولاً على الرغم من كونه مذموماً. وهو يمدّ القنوات بدخلٍ يمكّنها من دفع العجلة مع بعض المعونات الحكومية والسيول الإعلانية والاعتماد على بعض نجوم المحتوى الذين لا تبلى بضاعتهم ولا تكسد. أما روح الابتكار والتجديد فلا نكاد نراها إلا على شكل تقليدٍ لمحتوى غربيّ، أو محاولات أصيلة تعرقلها القيود الإنتاجية وتقتلها في مهدها. إن أزمة المحتوى العربيّ لم تؤد إلى انقراضه واضمحلاله بل إلى انثياله غثاءً كالسيل. فالأزمة ليست أزمة إنتاج، بل أزمة جودة.

المزيد من آراء