تثير الشاعرة جيهان عمر في ديوانها الرابع "حين أردتُ أن أنقذ العالم"، الصادر حديثاً عن (دار المرايا في القاهرة) تساؤلاً محورياً يتعلق بميكانيزم الكتابة، وفعل ممارسة الحياة، في آن واحد. هذا التساؤل الذي يتبلور من تلقاء ذاته داخل القصائد، هو، ماذا بإمكان الشعر أن يفعل، إزاء عقارب ساعات توقفت معلنة نهاية الزمن، وأمكنة تحجرت مؤكدة انسداد الأفق؟
ولا تنتظر الشاعرة المصرية كثيراً حتى تشرع في حسم موقفها من هذه الإشكالية، وتفصيل الإجابات عن كافة التساؤلات المتعلقة بجدلية الوجود والعدم، إذ تعلن صراحة على امتداد صفحات الديوان التي تجاوزت المئة، أن الشعر المشاكس، عند هذا المأزق الخطير، ليس من خصائصه الاستسلام الاستسهالي للسكون والعتمة، ما دام ينطوي على بصيص من طاقة، ويدخر توقيته الخاص في نبضات قلبه، ويختزن دروباً سرية في عروقه، ومن ثم تصير الكتابة عملية حيوية غائية، تمثل آخر محاولات النجاة من المصير المحتوم، ولو بطوق إنقاذ وهمي للذات وللآخرين، "أذهبُ إلى الغريق، أجره إلى اليابسة، لكنني آسفة، لم أكن معك، فجررتُ نفسي".
ألسنة النار
لا تنفك الشاعرة، صاحبة "أقدام خفيفة" و"قبل أن نكره باولو كويلو" و"أن تسير خلف المرآة"، تراهن على نجاعة الحروف الشعرية على وجه الخصوص، إذا انبرت كسيوف طفولية لمبارزة أعداء هم الأقوى بكل تأكيد، وستكون لهم الغلبة في النهاية بلا شك، لكن هذا التصدي الشجاع بحد ذاته هو الوجه الحقيقي للانتصار على تحالف جيوش الجمود والخواء والتعاسة والتبدد والتلاشي. مثلما أن معنى الوصول الجوهري هو أن يسعى الإنسان إلى التحرك ولو في خيالاته وأحلامه، وأن يحتفظ بفكرة التدفق والعبور من الشقوق مهما يكن ضيقها أو انغلاقها، "أُشبه الماء، أتدفق دون أن أعلم إلى أين، فكلما وجدتُ شقاً عبرتُ، لا أستطيع التوقف حتى لو أردتُ، لن أستطيع، حتى حينما يكون التوقف ضرورياً".
ومن أجل هذه الرغبة القوية في الصمود، وإقامة علاقة شد وجذب مع الصخور القاسية، تتماهى الذات الشاعرة مع الماء، في مجموعة من القصائد، من قبيل، "لا تُعد السمكات إلى البحر"، و"سيرة ذاتية للبحر"، و"نهر يتدفق من خلف رأسي"، وغيرها. وتمكنها تلك الطبيعة المائية من إطفاء ألسنة النار بعض الوقت، لكنها تخلف وراءها رماداً لا يزول، كما قد تتسع تجاويفها وأمواجها لسمكات أليفة تتنفس في داخلها، محتفظة بجرعات أخيرة من المرح. وحتى حينما تتبخر، فإنها تتعلق بغيمة، على أمل في التساقط من جديد قطرة قطرة، على رؤوس العابرين.
تدرك الشاعرة دائماً، حتى في قصائدها البحرية المتمردة على الأوضاع القهرية السائدة، جيداً أن العمر المقبول هو مجرد لحظة هاربة من أيدي القناصة، لكن ضآلة تلك اللحظة لا تعني عدم الحرص عليها، وعدم التفنن في الاستمتاع بها، فليس بالطول أو القصر يتحدد قدر الزمن أو مذاق الحالة التي يعيشها المرء، وإنما بالقيمة والكيفية والعمق، "الريح تقبل البحر قبلة خفيفة، وتهمس بكلمات حب، ثم تهجره دون اكتراث، تغيظه بالحرية، لا مكان محدداً يأسرها، هو، المُكبل بهذا العمق، باق كالأبد".
البراءة والفلسفة
يختصر غلاف الديوان، الذي صممته لمياء أمين، كثيراً من المفاهيم الفكرية واللقطات التعبيرية التي تقدمها جيهان عمر في ديوانها، والتي هي رؤى ومشاهد وثيقة الصلة بالصورة لكون الشاعرة فوتوغرافية بارعة، "ماذا ستفعل الشاعرة في العمل؟، تصنع طريقاً طويلاً لغزلان شاردة، كي تحررها من خيالها".
ويبدو الغلاف كظل للعنوان "حين أردتُ أن أنقذ العالم"، وكمفتتح للتجربة الشعرية بعناصرها ونثاراتها ومواقفها المتنوعة، فهو يُبرز فتاة تحاول جذب شاب من ظهره قبيل سقوطه من فوق سطح منزل فضائي عجائبي. وهي في محاولتها إنقاذه عن حافة الخطر تعكس كل محاولات البشر لإنقاذ العالم من الانحدار والسقوط بغير رجعة. ومع أنه فعل طفولي عبثي، لن يغير من الأمور شيئاً، فبحسبه أنه يساوي مرح الحياة وبهجتها المضغوطة، "قد يحدث أن تنزلق حياتك ناعمة، في غفلة منك، مثل شال حريري على كتفي امرأة، سقط أسفل قدميها، لن يلمحه سوى هذا الرجل، الذي يراقب منذ البداية، الرجل الذي ينحني، ليلتقط الحياة بين أصابعه، وهو ينادي اسمك بلهفة".
هكذا، فإنه ليس مقصوداً سعي القصيدة إلى تغيير العالم أو التصدي للقدر أو التمسح بمقولات كبرى، بل إن آلية تخليق الحياة شعرياً التي تمارسها القصيدة تتأتى من خلال التعاطي الهش مع القريب والبسيط من الأفعال والممارسات العفوية. فالأقدام المترددة الصغيرة، تحب الخطأ "لأنه يحميها من قضبان وهمية ترسمها كل صباح وتسير عليها". وهي في تنقلاتها لا تمتلك يقيناً أبعد من أن تبذل خطوات معدودة، وترتاد مناطق تحبها، وتنجب جنيناً قد لا يكتمل نموه، "القدم الصغيرة تعني رحماً صغيرة، هكذا تقول جدتي، هذا الحوض أيضاً، أشبَه بحوض دُمية، لا يستطيع أن يحمل طفلاً، طفلاً يتنفس من دمي، ثم يسقط، صارخاً من ألم الوجود".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وجنباً إلى جنب، مع اتكاء الشاعرة على مسارات البراءة وما يمكن تسميتها بالوثبات الارتجالية والتشظيات المبتورة والشطحات الجنونية "كان علي أن أملأ رأسي، مثلًا... زهرة قنبيط مكان العقل المسروق"، فإنها تعنى في نسيجها الفني المتشابك بالتأملات المجردة، التي ربما تترجم دراستها الأكاديمية لعلوم الفلسفة.
ويتجلى ذلك التوجه بشكل أكثر وضوحاً في القسم الثاني من الديوان، الذي تتحلل فيه الشاعرة من القصائد المائية، لتحلق في تخييلات وذهنيات واعية، تؤكد بها خصوصيتها كصوت مستقل في مضمار حركة قصيدة النثر الراهنة في مصر. وتتسق تلك النزعة إلى بلوغ الماوراء ونفض القشور، مع ندرة كتابات الشاعرة، التي ربما تستغرق سبع سنوات أو أكثر لتقدم ديواناً جديداً، يثبت فردانية هويتها، "حين تأتيني حزمة من الأفكار، أضع حبات البطاطا الحلوة في الفرن، أنتظر نضجها، أتلذذ بالرائحة التي تلف المنزل، لا أعرف ما الذي يذوب أولاً، أسمع صوت طقطقة خفيفة في رأسي، أقشر غموضها وأبتسم، الأفكار تدفئني، آكلها حبة وراء حبة، آكلها قبل أن تأكلني!".