يصارع آلاف مرضى السرطان في لبنان اليوم من أجل البقاء، لا بسبب مرضهم فحسب، بل بسبب انقطاع عديد من الأدوية والعلاجات الأساسية. يطلق هؤلاء الصرخة يومياً علّ التفاتة إلى حالهم تنقذ حياتهم، وآخر التحركات أقيم أمس الخميس، وجمع أطباء ومرضى وجمعيات للمطالبة بتأمين الأدوية.
وفيما فقد كثيرون الأمل أمام حجم اللامبالاة في الأشهر الأخيرة مع تفاقم الأزمة، لا يزال بعضهم يعلق آمالاً على صحوة الضمائر.
يختلف المشهد حالياً حتى بالنسبة إلى الأطباء، فبدلاً من التركيز على البروتوكولات المناسبة لمعالجة المرض وتأمين النسبة الأعلى من الشفاء، يمضون أوقاتاً طويلة في السعي إلى تأمين العلاجات المقطوعة أو بدائل عنها حتى، ذلك أن أي تأخير في علاج مريض سرطان يهدد حياته ويؤدي إلى تراجع معدلات الشفاء.
أم وطفلتها
تقف كارين أبو صعب في مواجهة الأزمة حالياً مع طفلتها البالغة من العمر أربع سنوات. هما مصابتان بالسرطان، ولا توفر العائلة جهداً لتأمين الأدوية اللازمة لهما في الوقت نفسه. وكأن هم إصابتهما معاً لا يكفي، فإذا بالأزمة تضع كل العوائق أمامهما كما أمام آلاف المرضى في البلاد.
تشير ألين، الشقيقة التوأم، أن كارين أصيبت بالسرطان أولاً في عام 2018 وانتهت رحلة العلاج بعد عام، لكن سرعان ما بدأت من جديد بعد أن عاودها المرض. بدأت عندها علاجها في دولة قطر حيث تعيش، إلا أن سوء التشخيص من قبل أطباء أسهم في تفاقم حالتها، ما دفعها للعودة إلى لبنان بهدف متابعة علاجها مع طبيبها بعد أن تطورت حالتها.
كان الحل عندها في العلاج المناعي، لكن دواء "KeyTruda" المعتمد فيه مقطوع، إضافة إلى أدوية أخرى تحتاجها في علاجها. وقد بلغ الطبيب العائلة منذ نحو 10 أيام أن العلاج اللازم لها لم يعد متوفراً لديه.
وازدادت الضغوط على الأم والعائلة عندما تم تشخيص إصابة طفلتها باللوكيميا منذ أشهر قليلة.
تقول ألين "لم أترك جهة لم ألجأ إليها لتأمين العلاجات سواء من لبنان أو من خارجه، كالأردن حيث يتوفر بـ8700 دولار أميركي. أما من تركيا والعراق وسوريا، حيث ثمنه أقل، فلم أجرؤ على إحضاره. أستمر بالمساعي اليوم لتأمين الأدوية من مصادر مختلفة، لكني لم أوفق حتى الآن وإذا لم أنجح سأضطر للسفر إلى تركيا، خصوصاً أنه ما من بوادر لتوفره في لبنان قريباً".
أما بالنسبة إلى طفلة كارين التي أمامها نحو سنتين من العلاج، فتحاول طبيبتها تأمين ما أمكن من أوروبا من جهات مانحة، فيما تتحمل العائلة تكاليف باهظة في المستشفى، حيث بلغت تكاليف الفاتورة الأولى 47 ألف دولار أميركي.
يبقى الهم الأكبر لكارين تعافي طفلتها وتأمين الأدوية اللازمة لعلاجها طوال عامين، ومن ثم نجاح عملية زرع نقي العظام التي يفترض أن تجريها مع نهاية العام لتزيد من فرص تعافيها، وتبلغ كلفتها 100 ألف دولار أميركي.
السوق السوداء حل وحيد
وإذا كان البعض يجد الإمكانية لتأمين الدواء من خارج البلاد بشكل أو بآخر، ثمة مرضى يضطرون إلى شرائه من السوق السوداء بأضعاف ثمنه الفعلي، كغلاديس التي تحكي قصتها بحرقة وهي المعيلة الوحيدة لعائلتها المؤلفة من زوجها المقعد منذ 25 عاماً وابنها البالغ من العمر 14 سنة. تقوم غلاديس بخدمة تنظيف المنازل لتأمين لقمة العيش، واليوم بشكل خاص لتأمين تكاليف علاجاتها وعلاجات زوجها الباهظة.
انتشر المرض في أعضاء عديدة من جسمها، فخضعت لعملية استئصال الثدي ثم الرحم والمثانة ولقسم من الرئة، ثم وصل المرض إلى العظام أيضاً. وها هي اليوم تسعى جاهدة لتأمين علاجها في السوق السوداء بكلفة تتخطى خمسة أضعاف كلفته الأصلية، على الرغم من تراكم ديونها لتتخطى 20 ألف دولار أميركي.
تراكمت هذه الديون بعد أن اضطرت إلى تأمين علاجها من خارج لبنان وتسديد ثمنه بالدولار الأميركي، فيما توقف الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي عن تسديد المستحقات منذ بداية العام. حتى أن تغطية الجهات الضامنة لا تذكر مقابل التكاليف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حالياً، تعجز غلاديس عن تأمين علاجها غير المتوفر. "ليس لدي أحد قادر على إحضار العلاج من الخارج، ولم أعد أجده في السوق السوداء. كان من المفترض أن أجري جلسة علاج هذا الشهر، لكنه غير متوفر وأنا في الانتظار وأكتفي بالعقاقير الموجودة لدي".
قد يكون الحل الوحيد عند البعض تخزين ما أمكن توفيره من الأدوية والعلاجات. فللحد من حجم التوتر والقلق الذي يمكن أن تمر به والدتها المصابة باللمفوما، عمدت دينا إلى الاستعانة بالمعارف والأقارب لتأمين كافة الأدوية والعلاجات اللازمة لها حتى نهاية العام الحالي، أي حتى نهاية فترة علاجها، من السوق السوداء أو فرنسا.
وتقول "كان همي الأساسي تأمين علاجات والدتي وتجنب حالة القلق التي يمكن أن تؤثر سلباً على قدرتها على التعافي. تأمَّن المخزون، وما زاد أقدمه لمن يحتاج".
تحتاج والدة دينا إلى علبتي دواء لكل جلسة، سعر الواحدة 22 دولاراً أميركياً، إلا أن كلفة العلاج في حالات أخرى قد تصل إلى 3000 دولار في الجلسة.
حالة فوضى ولا حلول في الأفق
أمام كل القصص الموجعة للمرضى، يخشى طبيب الأورام وأمراض الدم الدكتور آلان ضاهر من وقع هذه الأجواء المرافقة للأزمة على المرضى. فكل ما يحكى حول انقطاع الأدوية وصعوبة تأمينها وخطورة ذلك على حياتهم يولّد حالة من القلق والتوتر الشديدين، تنعكس سلباً على حالتهم.
ويقول "مريض السرطان يعيش أصلاً حالة من الخوف من الموت ومن كورونا ومن الوضع الاقتصادي. فيشعر بأنه مكبّل أكثر عندما يجري الحديث عن انقطاع علاجه. فكيف يمكن أن نواجه المريض بإخباره بأنه قد لا ينجو، لأن دواءه غير متوفر؟".
يضيف ضاهر أن انقطاع الدواء والتأخر في تأمينه يهددان حياة المريض، كون فرص تعافيه تتراجع في مثل هذه الحالة.
أما الأدوية البديلة التي قد تتوفر من مصادر مختلفة كإيران أو سوريا أو تركيا فلا تعد موثوقة، كما يوضح في حديثه مع "اندبندنت عربية"، إذ لا تعرف مصادرها وما من دراسات بشأنها، ولم تحصل على موافقة المؤسسات الدولية المعنية، فيما مرض السرطان من الحالات الدقيقة التي تتطلب كثيراً من التأني. لكن في ظل الظروف الحالية، قد يلجأ إليها الأطباء كآخر الحلول المتاحة، وإن كانت الفاعلية غير مضمونة ولا أثر الأدوية على المريض وحالته. يضاف إلى ذلك أنه حتى الأدوية البديلة غير متوفرة في كثير من الأحيان.
علماً أنه في الأورام السرطانية، هناك العلاج الشفائي وذاك الكيماوي الملطف للمرضى الذين بلغوا مراحل متقدمة. في العلاج الشفائي لا بد من الالتزام بمواعيد محددة لجلسات العلاج وبجرعات محددة لا يمكن التغيير فيها حفاظاً على فرص التعافي. أما في العلاج الملطف للحالات المتقدمة فالتأخير لمدة أسبوع أو اثنين لا أكثر ممكن أحياناً بوجود أدوية أخرى. قد يلجأ الطبيب أحياناً إلى أي حلول متاحة، منها تقسيم جرعات الدواء بين مريضين إذا كان ذلك ممكناً، أو يعطي مريضاً دواء كان لآخر وتم تغييره. وثمة مرضى تتوفر لديهم كميات إضافية، فيتبرعون بها لآخرين.
ويضيف "كل ما يجري حالياً يحصل في أجواء من الفوضى، سواء لجهة صعوبة التقيد بالبروتوكولات أو لجهة الأدوية المعتمدة، ومنها ما يحضرها المرضى من خارج البلاد، ونجهل ما إذا تم التقيد بشروط الحفظ الصحيحة حفاظاً على فاعليتها وجودتها، والأمر نفسه ينطبق على تلك التي يشترونها من السوق السوداء".
أمام فرضيتي رفع الدعم عن الدواء أو الاستمرار بذلك وانقطاعه، يعتبر ضاهر أن الحل في الحالتين موجع للمريض، فإما أن يجد نفسه عاجزاً عن إيجاد علاجه أو غير قادر على تأمين كلفته التي قد تصل إلى مبالغ خيالية لكل جلسة.