Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"طالبان" فرصة أم تهديد لتركيا؟

ترتبط أنقرة بعلاقة وثيقة مع عدو الحركة الأول أمير الحرب الأفغاني عبدالرشيد دستم ذو الأصول الأوزبكية

تقف تركيا بين فرص الفراغ الذي خلفه الانسحاب الأميركي وتركة الخلاف مع حركة طالبان (غيتي)

فشلت قوى دولية عدة في التنبؤ بأحداث أفغانستان الراهنة، فاجتياح "طالبان" للأقاليم الأفغانية كان أسرع من كل التقديرات الاستخباراتية، لا سيما ما جاء في طيات تقرير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بصمود حكومة أشرف غني والقوات الأمنية المحلية الرسمية قرابة الستة أشهر بعد الانسحاب الأميركي المقرر في سبتمبر (أيلول) المقبل.

تركيا أحد الدول الفاعلة في الملف الأفغاني ضمن حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وخلال الأشهر القليلة الماضية تم الكشف عن مقترح تضطلع فيه قوات تركية بمهمة تأمين مطار كابول بعد انسحاب واشنطن، نظراً لعجز الحكومة الأفغانية عن تولي أمن مطاراتها نتيجة ضعف الإمكانات الأمنية ونقص الموارد البشرية.

ابتغت الاستراتيجية التركية عبر مقترح تأمين المطار تعزيز العلاقة مع إدارة بايدن الجديدة، والاستئثار بأدوار قيادية عبر تحمل مزيداً من المسؤوليات تحت مظلة "حلف الناتو"، وإيجاد موطئ قدم ثابت في البلاد الأفغانية بعد رحيل القوى الغربية، إلا أن الانهيار الحكومي الأفغاني متمثلاً في فرار الرئيس غني ومئات الجنود الأفغان، فضلاً عن إعلان حركة طالبان بسط سيطرتها على العاصمة، قطعا الطريق على تركيا وخططها الجيوسياسية.

حركة طالبان جابهت المقترح التركي - الأميركي منذ ظهوره للعلن بالتنديد والاستنكار، متوعدة أي قوات أجنبية باقية بعد الانسحاب بالحرب والقتال، لذا تراجعت تركيا عن خططها وعدلت نبرة توجهاتها الخارجية إزاء أفغانستان، ملمحة إلى أنها على أهبة الاستعداد لمد يد العون إن تم استدعاؤها من قبل الحكومة في أفغانستان، ليؤول الأمر في نهاية المطاف إلى إعلان تركيا بدء إجلاء قواتها استجابة للظروف المحيطة.  

دوافع الخطاب التركي الجديد

تدرك تركيا أن انخراطها في الشأن الأفغاني بتعقيداته الراهنة له مثالب عدة، لذلك أحجمت عن المضي قدماً في خطة تأمين المطار وبدأت بالركون إلى سياسة براغماتية تهدف إلى استمالة حركة طالبان كونها الطرف الأقوى على الأرض، لا سيما وأفغانستان تمر بمرحلة انتقالية حساسة، ومواقف القوى الدولية يعتريها الغموض، فضلاً عن أن إحكام طالبان قبضتها على السلطة أصبح "الوضع القائم" المقبول في الخطاب السياسي الدولي.

تركيا و"طالبان" عزفتا عن المناكفات الإعلامية منذ استيلاء الأخيرة على كابول، وعمدتا إلى تبادل التطمينات السياسية والاشارات الدبلوماسية الإيجابية. الرئيس التركي أردوغان رحب بما سماه "تصريحات إيجابية" صادرة من قيادات الحركة، وأعلن عزم بلاده تقديم المساعدات الأمنية متى ما احتاجت أفغانستان إلى ذلك.

التنبه التركي لمجريات الأحداث وحرصه على مصالحه الجيواستراتيجية ومصالح شركائه من الدول الوسط آسيوية المتحدثة باللغة التركية، دفعه إلى نهج المسار البراغماتي مع "طالبان" مستخدماً في ذلك الأوراق الدينية والشراكات الاستثمارية المحتملة وعروض الإفادة في مشاريع إعمار أفغانستان وتشييد بناها التحتية.

أزمة لاجئين في توقيت حرج

مساوئ الأزمة تلقي بظلالها على تركيا، لا سيما والأراضي التركية منفذ رئيس للاجئين الأفغان الفارين من حكم "طالبان" بحثاً عن مستقبل أفضل في أوروبا والبلاد الغربية، وإشكال اللاجئين هاجس سياسي لكلا الجارتين إيران وتركيا، وبحسب تقرير صحيفة "الغارديان" فإن لدى تركيا قرابة 3.5 لاجئ سوري، بينما يقطن 2.5 لاجئ أفغاني داخل إيران، والأزمة السياسية الراهنة دفعت بموجات جديدة من اللاجئين نحو إيران ومن ثم إلى الأراضي التركية، لذا جنحت تركيا نحو إغلاق حدودها مع إيران مخافة أن يفاقم اللاجئون الأزمات الاقتصادية التي تعصف بالبلاد.

الرئيس أردوغان لديه معارك سياسية محتدمة بالداخل التركي، وحاول جاهداً أن يتصدى للهجوم الشرس من قبل قيادات الأحزاب المعارضة، لا سيما الهجوم بورقة اللاجئين، ليطمئن المواطن العادي بعزم حكومته دهم المناطق المأهولة باللاجئين غير الشرعيين، وتعزيز الأمن الحدودي مع إيران لمنع توافد مزيد منهم.

مشروع الجدار الأسمنتي الذي بدأ تشييده عام 2017 على أجزاء من الحدود التركية - الإيرانية، ترمي من وراءه حكومة أنقرة إلى حفظ أمنها القومي بمنع تسلل من تصفهم بـ "الإرهابيين" المنتمين إلى "حزب العمال الكردستاني" عبر المناطق الكردية الوعرة على الحدود، وعلى ذات القدر تهدف منه إلى منع تسلل المهاجرين غير الشرعيين واللاجئين من الجنسيات المختلفة أفغانية كانت أم إيرانية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعمدت تركيا إلى تعزيز الأمن الحدودي مع إيران منذ سنوات بعد اندلاع الأزمة في أفغانستان، غير أن طول الحدود البالغ 540 كيلومتراً ووعورة المناطق المتاخمة لها، مكنّا العديد من اللاجئين من الدخول إلى الأراضي التركية ليحول ذلك دون قدرة السلطات في السيطرة الكاملة على حركة اللجوء غير الشرعية. تقرير "الغارديان" أشار إلى أن هناك مايزيد على 182 ألف لاجئ أفغاني مسجل داخل الأراضي التركية، وما يربو على 120 ألف آخرين من اللاجئين الأفغان غير مسجلين رسمياً.

ملامح السياسة الإقليمية لطالبان

أضحت طالبان القوة الوحيدة المسيطرة على الأراضي الافغانية، وإن كان هنالك حديث عن حكومة انتقالية فإن الحركة بعد بسط النفوذ والاستيلاء على مراكز السلطة لا يرجح أن تتنازل بسهولة عما اكتسبته، أو تتقاسم الحكم مع جماعات هي في موضع النقيض من شعاراتها وأيديولوجيتها وفكرها السياسي، لكن "طالبان" اليوم ليست "طالبان" الأمس، والمبتغى الأبرز لها هو تحسين الصورة النمطية السلبية عنها وحصد القبول الإقليمي والدولي.

انسحاب الولايات المتحدة أتى بتدابير وخطط استراتيجية أخذت وقتها في مطبخ صنع القرار الأميركي، ولا يمكن بأي حال الاستهانة بالعقلية الأميركية التي باتت تخفف الأعباء من على عاتقها، ليس انهزاماً وتقهقراً، ولكن لخلط الأوراق على النديّن الصيني والروسي، لا سيما والأرض الأفغانية تعج بالتعقيدات الشائكة، وحركة طالبان ذات إرث تاريخي وتوجهات فكرية لا تتسق والمصالح الروسية، ولن تكون صيداً سهلاً للتمدد الاقتصادي الصيني.

التعريج على متغيرات الشأن الدولي يظهر نضوج "طالبان" السياسي، فالحركة بدهاء سياسي تحاول الإفادة من تنازع القوى العظمى بما يعود عليها بالنفع، وتلعب أيضاً بالأوراق الدبلوماسية على المستوى الإقليمي قبل الدولي، فترسل تطمينات إلى روسيا والصين وإيران، ولديها علاقات مميزة مع باكستان، لكنها في معرض الحديث عن تركيا تذكر الحكومة التركية بالأخوّة الإسلامية وفرص الاستثمار الممكنة في المستقبل لإعمار البلاد.

ويسترعي الانتباه خطاب "طالبان" الرسمي العازم على تجاوز الاختلاف وإيجاد المشتركات مع الجانب التركي، فتركيا تربطها علاقة وثيقة بعدو الحركة الأول في الداخل الأفغاني، أمير الحرب الأفغاني عبدالرشيد دستم ذي الأصول العرقية الأوزبكية، والمتهم بقتل المئات وربما الآلاف من أسرى "طالبان" عام 2001، فالحركة حرصت على تمرير خطاب سياسي ناضج بخلاف ماكانت عليه الحركة قبل 20 عاماً، تظهر فيه تشديدها على حقها السيادي جنباً إلى جنب مع تطلعها لإرساء أواصر العلاقة مع تركيا كشريك إقليمي ودولة صديقة للحكومة الإسلامية المزمع تشكيلها، وهو ما أعاد تأكيده متحدث الجماعة المتشددة محمد نعيم وردك، في لقائه مع وكالة "الأناضول" التركية الرسمية.

الخطوط العريضة للاستراتيجية التركية تجاه أفغانستان

تاريخياً، وبحسب تقرير مطول للباحث عمر كريم نشره معهد "نيولاينز"، شهد العهد السابق للغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979 علاقات وطيدة واتفاقات تعاون بين الطرفين التركي والأفغاني، وخلال العقدين اللاحقين للغزو عزفت تركيا عن التدخل في الشؤون الداخلية لأفغانستان، وصولاً إلى نهايات عقد التسعينيات عندما عادت تركيا بدعمها لأمير الحرب دستم، وخلال الحملة العسكرية التي شنتها قوات "الناتو" في أفغانستان بداية الألفية الجديدة، كانت القوات التركية حاضرة بالتأكيد لكن من دون الانزلاق في مغبة المهمات القتالية، مما انعكس بصورة إيجابية على تركيا لدى الداخل الأفغاني، وهو ما يفسر ندرة الضربات التي تلقتها القوات التركية في أفغانستان منذ العام 2001، على الرغم من تدريبها للقوات الأمنية الأفغانية خلال هذه المدة.

على أي حال، في الوضع الراهن يبرز إشكال اللاجئين كأول المآخذ التركية على صيرورة الأوضاع في الأزمة الأفغانية، لكن السياسة التركية لا تكف عن التلويح بورقة اللاجئين ضد القوى الغربية بغية اكتساب امتيازات راهنة أو مستقبلية، إما في نطاق العلاقة مع الولايات المتحدة، لا سيما فيما يتصل بالعقوبات المفروضة على الصناعات الدفاعية التركية، أو في سبيل ارتهان أعضاء "حلف الناتو" لجوهرية الأدوار التي تضطلع بها تركيا.  

على المستوى الإقليمي تتحوط تركيا لما يشكل تهديداً لمصالح حلفائها في الوسط الآسيوي من متحدثي اللغات التركية، لا سيما تركمانستان وأوزبكستان، وتمني النفس الآن بلعب دور أساس في حلحلة الأزمة الأفغانية بما يضمن لها علاقة وثيقة بالحكومة الجديدة، حتى وإن كانت في تشكيلها مقتصرة على حركة طالبان، أملاً في مد النفوذ في أفغانستان وتعميق الثقة بينها وبين شركائها الوسط آسيويين.

التجربة التركية تزخر بالأدوات الدينية التي توظفها مع الجماعات الإسلاموية من "إخوان مسلمين" و"سلفية جهادية" وغيرهما، وهي نظرياً أقدر على الاتصال وإيجاد المشتركات العقائدية والأيديولوجية مع "طالبان" الماتريدية الحنفية، لكن الكيفية التي سيتم بها مد جسور التواصل مع طالبان ما زالت في طور التشكل، وهي من الإبهام بمنزلة عالية، لا سيما وتركيا المنتسبة إلى المذهب الحنفي يرتكز نظامها السياسي على البراغماتية الصرفة، متجاوزة التقليد الديني في نظام الحكم والمؤسسات والقوانين من دون اعتداد بالفقه ولا بالشريعة.

لا شك ستفعّل تركيا قنواتها وأوراقها الإسلامية للتقارب مع "طالبان"، مستغلة علاقاتها الوثيقة بباكستان ذات التأثير الكبير على استمرارية الحركة، ودولة قطر الحاضنة للمكتب السياسي لـ "طالبان"، وتتحين تركيا فرصة لقاء قيادات الحركة، غير أن الكيفية التي ستتشكل بها العلاقة ستظل محط التساؤل والتنبؤات السياسية، ولا يرجح أن تكون الأرضية الأساس في العلاقة المحتملة أرضية دينية أيديولوجية، وإن أطنبت أنقرة في شعارات الإخوة الدينية، لأن طابعها العام في سياساتها الخارجية كان ومازال طابعاً براغماتياً محضاً.

المزيد من تحلیل