Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صاحب أوبرا "إي بالياتشي" ومغامرته المرعبة بين القاهرة وبورسعيد

ليونكافالو يتنكر بزي بدوي للإفلات من انقلاب عرابي والاحتلال الإنجليزي

مشهد من تقديم لأوبرا "إي بالياتشي" (ويكيميديا)

لعل الأمر الأغرب في تلك المغامرة المدهشة التي عاشها الموسيقي الإيطالي رودجيرو ليونكافالو في الديار المصرية عند بدايات ثمانينيات القرن التاسع عشر، استنكافه لاحقاً عن تحويل الحكاية إلى أوبرا هو الذي لحن في المرحلة التالية من حياته عدداً لا بأس به من أوبرات كتب حكاياتها وأشعارها بنفسه، بل إنه استقى بعضها من مواقف عاشها وجعل فيها شخصيات عرفها عن كثب وجاء بها من صلب حياته العائلية. وليونكافالو سيشتهر خصوصاً في هذا المجال بأوبراه الاستثنائية "إي بالياتشي" إضافة إلى أعمال أخرى منها تحديه سلفه الكبير بوتشيني بتلحين أوبرا "البوهيمية" التي كان هذا الأخير قد بنى عليها مجده. ولكن لئن كان ليونكافالو قد حقق نجاحاً هائلاً بأوبرا "إي بالياتشي" فإن فشله في "البوهيمية" كان مخزياً. ولكن قبل العودة إلى أعمال هذا الموسيقي الذي ولد في نابولي عام 1858 ولم يحب وطنه الإيطالي إطلاقاً، قد يكون من المفيد أن نعود معه إلى تلك المغامرة المصرية التي كادت تورده موارد الهلاك، ومع ذلك سيبدو طوال حياته وكأنه أودعها وهدة النسيان.

الخلاص في مصر

حدث ذلك حين غادر ليونكافالو إيطاليا يائساً خائب المسعى وهو في أول شبابه بعد أن قرر أن ينصرف إلى التأليف الموسيقي. لكن تجربته الأولى وهو دون الثلاثين من عمره لم تخلف لديه سوى الأسى، إذ إن المتعهد الذي أوصاه على تلحينها ووعده بإنتاجها تسلمها منه معلناً رضاه عنها ثم وضعها على الرف. انتظر ليونكافالو وطال انتظاره وألحانه لا تبارح ذلك الرف والمتعهد لا يتصل به، ما زاد في إحباطه وجعله يتردد دون خوض تجربة تالية له كان يحلم بها وهي عبارة عن استكمال ثلاثية أوبرالية عن تاريخ إيطاليا تركز على زمن نهضتها. وكان بالفعل قد صاغ الحلقة الأولى وانتهز مناسبة تقديم فاغنر لأوبراه "رينزي" في بولونيا ليقابله ويعرضها عليه مستمزجاً رأيه. ويبدو أن فاغنر قد شجعه حقاً لكن ذلك كله لم يجده نفعاً واستبد به اليأس حتى قرر اللحاق بعم له يدعى بدوره ليونكافالو بيه ويعيش في الحضرة الخديوية في القاهرة مستشاراً موسيقياً للخديوي إسماعيل الذي كان محباً للحضارة والفنون. وكان هو من دعا فيردي إلى كتابة أوبرا "عايدة" التي كان يفترض أن يكون عرضها الأول مع افتتاح قناة السويس. إذا حين توجه ليونكافالو إلى القاهرة كانت الأبواب تبدو مفتوحة في وجهه حتى وإن كان سيبدأ هناك بداية متواضعة في انتظار أن يسعفه الحظ.

رعب بين القاهرة وبورسعيد

في القصر الملكي اشتغل روجيرو أول الأمر وصيفاً في القصر الذي حل في الحكم فيه الخديوي توفيق مكان الخديوي إسماعيل. وذلك بوساطة من ليونكافالو بيه العم وصديقه في القصر المستشار محمود حامد الذي قرر دعم الاثنين وكاد ينجح ذات لحظة في جعل الخديوي الجديد يسند إليه رئاسة فرقة الموسيقى الخديوية. ولكن هنا حدث ما لم يكن في الحسبان: قام الضابط الكبير أحمد عرابي باشا بانقلابه العسكري الذي كان من نتائجه احتلال الإنجليز لمصر– وهو الاحتلال الذي سيتهم الإمام محمد عبده لاحقاً عرابي بأنه تواطأ في التسبب به، لكن هذه حكاية أخرى طبعاً ليست هي موضوعنا هنا- ولما كان روجيرو ليونكافالو يقيم بحكم وظيفته في القصر الملكي كفرد من الحاشية، بدا له من الواضح أنه إن لم يهرب سيقع في أسر واحد من الطرفين المعاديين للخديوي: عرابي أو الإنجليز. وهكذا قرر أن يهرب من مصر مهما كلفه الأمر. لكن حركة الأجانب كانت مقيدة إلى أبعد الحدود فما العمل؟ ببساطة سوف يتنكر في زي بدوي أعرابي ويحاول الوصول إلى أي ميناء وركوب أي سفينة تبحر به إلى أوروبا. وهكذا انطلق الشاب مرتعداً قلقاً في رحلة ستدوم 22 ساعة حافلة بالمخاطر ومزينة بالرشاوى والبرطيل قطع خلالها الطريق من القاهرة إلى الإسماعيلية ثم من هذه إلى بورسعيد حيث كان من حظه أن أدرك في اللحظات الأخيرة سفينة متجهة إلى مرسيليا الفرنسية فصعد إليها دون أن يجرؤ أول الأمر على تبديل ثيابه التنكرية. وتقول الحكاية إنه لم يتنفس الصعداء إلا حين ابتعدت السفينة عن الشواطئ المصرية وأعين المراقبة الإنجليزية.

الأوبرا والواقع الاجتماعي

يمكننا طبعاً أن نتصور كم كانت تلك المغامرة مرعبة ومدهشة لكننا سنظل نتساءل كيف أن ليونكافالو الذي ما إن استقر به المقام في أوروبا وراح يتنقل بين فرنسا وإيطاليا لم يقدم أبداً على موسقة تلك الحكاية، هو الذي موسق عدداً من حكايات أكثر ذاتية وواقعية، بل موسق من خلال أوبراه الأشهر "إي بالياتشي" حكاية غرام وانتقام وصراعات شخصية شهدتها حياته العائلية نفسها منذ زمن، حيث بدا هنا متأثراً إلى حد كبير بأسلوب إميل زولا الواقعي بل حتى "الطبيعي" الذي قام على تصوير حكايات تفوق الواقع في تفاصيلها ودلالاتها. ونفتح هنا هلالين لنذكر أن ليونكافالو كان شديد الارتباط بالأدب الفرنسي الذي غالباً ما استقى منه مواضيع أوبراته التي حققت له نجاحاً في فرنسا فاق دائماً ما حققه في إيطاليا. فهو اقتبس من هنري ميرجيه وألفريد دي فيني وسي. سيمون وب. برتون، أما حين كان يريد أن يخوض في مواضيع إيطالية فكان يكتب النصوص بنفسه ونجح في ذلك كما حدث لأوبراه الأشهر "إي بالياتشي".

من خزان الذاكرة العائلية

فهذه الأوبرا استقاها ليونكافالو كما ذكرنا من حكاية معروفة لديه عائلياً، بيد أنه كتبها متأثراً بالتحديد بواقعية إميل زولا ولكن انطلاقاً من النجاح الهائل الذي كانت حققته قبل ذلك بسنوات أوبرا "فروسية ريفية" لماسكانيي، فهذه الأخيرة فتحت الباب واسعاً أمام نوع أوبرالي جديد همه الابتعاد عن الميلودرامية التي كان كبار الموسيقيين الإيطاليين، من مونتيفردي إلى فيردي، قد أغرقوا المسرح الغنائي الإيطالي فيها. وليونكافالو كان منذ حضر "فروسية ريفية" في تقديمها الأول عام 1890، أولع بها وقرر أن يسير على خطاها، ومن هنا ما إن استعاد حكاية آل بالياتشي حتى شعر أنه وجد ضالته فيها وكان محقاً في ذلك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مسرح داخل المسرح

وأوبرا ليونكافالو هذه، التي قدمت للمرة الأولى عام 1892 في ميلانو بعد عامين من تقديم "فروسية ريفية"، هي من نوع المسرح داخل المسرح، حيث يروي لنا في تمهيد لها، الممثل طونيو العضو في فرقة مسرحية جوالة، حكاية تعبق بالعواطف الحادة والغرام والغيرة وصولاً إلى الجريمة المزدوجة النهائية. ولكن هذا كله إذ نراه على المسرح يتحرك أمامنا في قالب حدثي يخاطر كل لحظة بالوقوع في فخ الميلودراما، تأتي الموسيقى لتعيده إلى عالم الواقع كما يأتي التذكير بشكل أو بآخر بأنه قد حدث حقاً وكان الملحن شاهد عيان عليه. وما حدث ينبني على غيرة رئيس الفرقة من نيدا امرأته وبطلته وعليها هي التي من الواضح أن طونيو مغرم بها لكنها لا تبادله حبه رغم سأمها من زوجها وإحاطته كالقيد بها. فهي في الحقيقة مغرمة بشاب آخر هو سيلفيو أحد سكان البلدة التي يقدمون فيها عروضهم الآن. وحين يلح سيلفيو على ندا أن تهرب معه يدري طونيو بالأمر وينقل الخبر إلى الزوج الغيور. وحين يتاح للزوج أن يداهم لقاء الحبيبين يتمكن سيلفيو من الهرب بينما يقبض الزوج على ندا مطالباً إياها بالكشف عن اسم حبيبها لكنها ترفض... ولاحقاً خلال تقديم العرض ستختلط الأمور والشخصيات تحت الأقنعة، لا سيما حين يصل العرض إلى مشهد يغازل فيه الممثل بيبي ندا التي تمثل دور كولومبين، فيعتقد الزوج الذي يلعب أيضاً في العرض دور الزوج المغدور به يصر على زوجته خلال العرض أن تعترف باسم حبيبها وحين تصر على الرفض من جديد يطعنها بخنجر حقيقي ما يخلط التمثيل بالواقع إلى درجة أن سيلفيو يقفز إلى المسرح محاولاً إنقاذ حبيبته وقد أدرك أن المسـألة باتت تتعدى التمثيل فيفهم الزوج أنه غريمه ويطعنه بالخنجر مردياً إياه هو الآخر، وهو يحدق في الجمهور صارخاً: لقد انتهت المهزلة أيها السادة!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة