Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الموسيقى تنقذ "تانكريدي" الأوبرا المأخوذة من مسرح فولتير

جواكينو روسيني العشريني يتغلب على الكاتب الفيلسوف وينقذه

من تقديم معاصر لأوبرا "تانكريدي" (موقع أوبرا ساوثويست)

كان يمكن لاسم فولتير في النص الذي اقتبس منه جواكينو روسيني أوبراه الشهيرة "تانكريدي"، أن يكون ضمانة بأن هذه الأوبرا ستكون مختلفة وأكثر جدية من مثيلاتها لمجرد أن النص يحمل توقيع فيلسوف التنوير الفرنسي الشهير، وأن فولتير كان قد كتب النص على شكل مسرحية قدمت على خشبة المسرح في حياته ونالت نجاحاً لا بأس به. لكن "تانكريدي" كأوبرا، ولكن كمسرحية حتى، لا تفي بشيء من وعودها فهي في المطاف الأخير عمل ميلودرامي ينتمي إلى تلك الأوبرات المشابهة التي اعتادت أن تنبني على شتى أصناف سوء التفاهم والعلاقات العاطفية والخيانات والثواب والعقاب كما يحدث غالباً في هذا النوع من الأعمال الفنية التي اعتادت على أي حال أن تحمل من الادعاءات الفنية ما يعد مسبقاً بأنها ستكون أفضل من الهزليات، ثم يتبين في النهاية أن الهزليات تسلي أكثر حاملة من الادعاءات ما يقل عن الميلودرامات بكثير.

الموسيقى فعل إنقاذ

ولكن في مثل حالتنا هنا، بالنسبة إلى "تانكريدي" كأوبرا على الأقل، تبقى الموسيقى بل بشكل أكثر تحديداً، يبقى رعب المؤلف الموسيقي أمام الاسم الكبير لكاتب النص الأصلي حاسماً في مجال وضعه لألحان يحاول فيها أن يكون في موسيقاه، على مستوى السمعة التي للكاتب كما على مستوى سمعة ما هو متوقع من عمل يحمل توقيع هذا الأخير. وهكذا، على الرغم من أن روسيني وضع ألحان أوبراه المقتبسة عن فولتير بعد نحو نصف قرن من الزمن من كتابة فولتير مسرحيته، يبدو واضحاً من خلال الألحان أن روسيني كان يموسق وفي ذهنه سؤال يدفعه إلى الأمام: ترى ما الذي يمكن أن يكون عليه رأي فولتير في عملي هذا لو كان حياً؟ ومن هنا أبدع روسيني في الموسيقى التي وضعها لأوبرا "تانكريدي" بشكل استثنائي بحيث إن الذين قد يتدافعون لمشاهدة العمل مبهورين بكونه من كتابة صاحب "كانديد" سيخرجون وقد نسوا هذا الأخير وحفظوا العديد من ألحان الأوبرا غير آبهين بموضوعها العادي و"قلباتها المسرحية" الأقل من عادية. ولنقل هنا إن الموسيقى أنقذت النص وأعطته مكانة ما كان يمكن أن تكون له.

تأسيس للأوبرا الإيطالية الجديدة

بفضل موسيقى روسيني إذن، عاشت أوبرا "تانكريدي" لتعتبر واحدة من أبدع ما موسق هذا الفنان الإيطالي إلى جانب أعماله الأوبرالية الكبرى، والتي سيقال لاحقاً إنها كانت المهد الذي منه جاءت المكانة التي سيحتلها فيردي ودونيزتي غيرهما من كبار موسيقيي الأوبرا الإيطاليين منذ أواسط القرن التاسع عشر. ولا بد أن نشير هنا إلى أن ستندال الكاتب الفرنسي الكبير كان من أول الذين لفتوا الأنظار إلى هذه الأوبرا معتبراً إياها نوعاً "من عاصفة عاتية أبرقت في سماء الفن الإيطالي الصافية" بحسب تعبيره. ولا بأس أن نشير هنا إلى أن أوبرا "تانكريدي" قد قدمت للمرة الأولى في مسرح "فينيتشي" الشهير في مدينة البندقية يوم السادس من فبراير (شباط) 1813 بعد نحو 53 عاماً على التقديم الأول لمسرحية فولتير في عام 1760. ولئن كان كثر قد وصفوا أوبرا روسيني هذه بأنها عمل رومانسي فإن المؤرخين يعتبرونها بداية تيار سموه "الكلاسيكية الجديدة" كما أن النهاية التي كانت للأوبرا تراجيدية في تقديمها الأول تماشياً مع تراجيدية النهاية التي رسمها فولتير لمسرحيته، سرعان ما تحولت في عام التقديم الأول نفسه للأوبرا إلى نهاية سعيدة حين كان العرض الثاني لها في مدينة فيرارا بعد أسابيع قليلة من افتتاحها في البندقية. بل إن روسيني أقدم على إحداث تغييرات متنوعة بين كل مرة ومرة يقدم فيها العمل في هذه المدينة أو تلك بحيث يمكن القول إن "تانكريدي" اتسمت بكونها "أوبرا تفاعلية" أو "عملاً قيد الإنجاز بشكل متواصل" قبل الأوان بكثير، علماً أن التعديلات دائماً ما طالت الموضوع الفولتيري لا الأداء الموسيقي، ما يعتبر في نهاية الأمر "إدانة لروح فولتير"!

حربان قاسيتان

ولكن عم تتحدث أوبرا "تانكريدي"؟ ببساطة عن أحداث من النوع المعتاد في هذا النوع من الأوبرا، ولكن هذه المرة على خلفية صراع يدور في جزيرة صقلية الإيطالية بين المسيحيين والمسلمين الذين كانوا في ذلك الحين، القرن التاسع الميلادي، يتقاسمون النفوذ السياسي في الجزيرة، على خلفية حربين متزامنتين: واحدة هي تلك التي يسعى المسيحيون من خلالها إلى إزاحة المسلمين الذين كانوا يحتلونها منذ فترة، وأخرى هي تلك التي تدور هذه المرة بين المسيحيين أنفسهم. وفي خضم تلك الأحداث يقرر آرجيريو حاكم سيراغوسا المسيحي أن يزوج ابنته الحسناء آميناييد من أورباتزانو قائد الفريق المسيحي المناوئ له بأمل أن تؤدي تلك المصاهرة إلى حقن الدماء بين المسيحيين وتوحدهم في مواجهة العدو المشترك الذي يقوده العسكري المسلم سولامير. لكن آميناييد مغرمة من ناحيتها بالقائد تانكريدي ابن ملك سيراغوسا السابق المخلوع عن عرشه حديثاً. ومن هنا حين تعلم الحسناء بما ينتويه أبوها تبعث برسالة لا تحمل أي اسم للمرسل إليه إلى حبيبها طالبة منه أن يسرع إلى نجدتها صوناً لحبهما.

دفاع عن غير اقتناع

وهنا يحدث أن جنوداً من جماعة أورباتزانو في سيرغوسا يقبضون على حامل الرسالة بالقرب من معسكر "السارازينيين" (المسلمين) ولما لم يجدوا عليها اسماً للمرسل إليه يستنتجون أنها مرسلة إلى سولامير تستنجد به ضد المسيحيين ما يعتبر من جانب آميناييد خيانة مزدوجة: من ناحية لوطنها وقومها، ومن ناحية ثانية لدينها. وهكذا تودع الفتاة في السجن تمهيداً لإعدامها. وحين يعلم تانكريدي بما حدث يهرع إلى المدينة متنكراً ويقدم نفسه كحام للفتاة مستفزاً أورباتزانو في مبارزة تسمى "حكم الله" دفاعاً عن الفتاة ومن قواعدها أنه إذا انتصر فيها تحرر الفتاة لأن انتصاره حكم ببراءتها، وفي المقابل إذا هُزم يكون في ذلك دليل قاطع على خيانتها. وينتصر تانكريدي مبرئاً الفتاة لكنه في أعماقه يقرر ألا يراها وألا يكشف لها عن هويته ما يمكن تفسيره بأنه رغم دفاعه عنها لا يزال مصدقاً أنها قد غدرت به وبحبهما، بخاصة أن قوات سولامير تختار تلك اللحظة لتشن هجوماً مباغتاً على قواته ما يعزز اعتقاده بأن الرسالة إنما كانت نوعاً من التواطؤ بين فتاته وعدوه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نهاية سعيدة

وها هو الآن، تحت وطأة مشاعره المتناقضة وغضبه من ذلك التواطؤ الذي دمره نفسياً، يخوض ضد سولامير معركة بالغة الشراسة يتمكن من تحقيق الانتصار فيها ويجبر "الكفار" على الهرب مخلفين قتلاهم وجرحاهم، ولكن أيضاً مخلفين جرحاً في فؤاد تانكريدي لا يريد أن يندمل. ولكن هنا تحصل تلك "الأعجوبة الصغيرة" التي لم يكن لها مكان في مسرحية فولتير الأصلية: يتم اكتشاف الحقيقة وأن الرسالة الفتاكة كانت موجهة في الأصل وبالفعل إلى تانكريدي وليس إلى قائد الأعداء. وبهذا يستعيد تانكريدي فتاته وقد تمت تبرئتها بصورة قاطعة ويتحد معها إلى الأبد بمباركة آرجيريو الذي كان من ناحيته غاضباً على ابنته لوقوفها ضد إرادته وارتباطها بابن الملك السابق، حتى وإن كان مؤمناً ببراءتها من تهمة الخيانة.

موهبة مبكرة

واكينو روسيني الذي سيرحل عام 1868 في باريس عن عمر يناهز السادسة والسبعين، ولد عام 1792 في مدينة بيزارو الإيطالية من أب كان مسؤولاً إدارياً عن مسالخ الدولة ويعزف البوق في فرقة البلدية وأم حسناء كانت مغنية أوبرا ذات صوت رخيم. وفي مثل هذا الجو كان من الطبيعي أن يتجه جواكينو باكراً إلى الموسيقى لا سيما إلى التلحين، حيث بدأت بواكير إنتاجه وهو بعد في العشرينيات من عمره. ولقد كانت "تانكريدي" من أبكر أعماله إذ لحنها وهو بالكاد بلغ الحادية والعشرين من عمره. ولقد أدى نجاحها إلى انغماسه نهائياً في العمل الأوبرالي حيث كتب عدداً كبيراً من أعمال كانت الصالات الإيطالية والفرنسية تتلقفها وتقدمها بلهفة. ومن أبرز أعماله التي لا تزال تقدم بشكل متواصل حتى اليوم "حلاق إشبيليا" و"سلم من حرير" و"سميراميد" و"عطيل" و"موسى والفرعون" و"ويليام تيل" و"حصار كورنثا" وغيرها...

المزيد من ثقافة