Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 رسائل حزامة حبايب ومحمود شقير تتبادل هموم الكتابة والألم الشخصي

"أكثر من حب" نصوص أدبية تسعى إلى فهم الآخر ومعاناته النفسية واليومية

لوحة للرسام فؤاد حمدي (صفحة الرسام على فيسبوك)

قد تُغبط الروائية الفلسطينية حزامة حبايب على صداقتها النقية مع القاص الفلسطيني محمود شقير التي تجلت من خلال تبادلها الرسائل معه في كتاب "أكثر من حب" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر2021). هذا النوع الأدبي من المراسلات قليل جداً. وأرى أنه ينتمي جزئياً إلى حقل السيرة الذاتية نوعاً ما. عندما بدأت بقراءة رسائلها إلى محمود شقير تعرفت إلى شخصية مبدعة وإنسانة رقيقة طالما سمعت عنها ولكن لم يتسن لنا التعرف شخصياً بعضاً إلى بعض، رغم أن كلتينا كان يقيم في الإمارات، هي في أبوظبي وأنا في الشارقة ودبي. كانت تربطنا المهنة ذاتها، وبعض من اللغط وسوء الفهم وربما الأحكام المسبقة التي تتسبب بها أقاويل أصدقاء ومقربين من دون بذل أي عناء للسماع للآخر. أي عانيت الأشياء ذاتها التي أتت على ذكرها. ومثلها، أتيت للعمل في الإمارات بدافع توفير الأمان المادي لأولادي...لا أكثر، ولم يكن لي أي أوهام حول طبيعة عملي. رغم ذلك، لم أتخل عن جديتي في إيفاء مهنتي الصحافية ما تستحقه. ومن خلال مراسلات حزامة حبايب إلى صديقها الكاتب محمود شقير لمست الشيء ذاته لديها. وفهمت تقلباتها النفسية وما تعنيه الالتزامات العائلية التي تؤجل أو تؤثر سلباً على تطلعاتنا الإبداعية التي نحلم بها، والتي قد تعوقها أو تبطئها.

اشتهرت العديد من منشورات "أدب الرسائل" لكتاب وفنانين مبدعين خُلدت أعمالهم عبر التاريخ، وكانت رسائلهم- رسائلهن بمثابة كشف صريح متبادل- كما في رسائل حبايب وشقير- بعيداً عن انتهاك الخصوصية التي تحتاجها أي صداقة أو حب أو قرابة– باستثناء رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان التي نشرتها غادة السمان فقط بعد وفاة كنفاني بسنوات طويلة، متغاضية عن رسائلها هي إليه.

فسحة مريحة للإبداع

هذا النوع من الرسائل كان يلعب دوراً أو فسحة مريحة للمبدع تساهم في تطوره أو تمتص الطاقات السلبية التي تصاحب المبدع أثناء سعيه لتحقيق إبداعاته. هذا يبدو جلياً وواضحاً في مراسلات الكاتبة حزامة حبايب وأيضاً الكاتب محمود شقير. الاثنان فلسطينيان، وهذا أسهم في اختصار كثير من فهم المعاناة الفلسطينية لتشابكها مع المعاناة الشخصية دونما حاجة إلى كثير من الكلام أو الشرح. إذ اختلطت الأضرار الجانبية للمعاناة بهمومهما الشخصية وأيضاً بتجاربهما الإبداعية. هذا نراه في رسائل فنسنت فان غوخ إلى أخيه تيو الذي كان يؤمن بموهبة فنسنت ويحبه ويسانده، وأسهم في إعالته مضحياً برفاهيته الشخصية من أجل أن تظهر تلك الموهبة الفنية الفذة التي منحت البشرية لوحات فنية خالدة. أيضاً نراه في مراسلات فرانز كافكا لصديقته وحبيبته فيليس باور في خضم مكابدته الكتابة الروائية التي تمخض عنها أجمل النصوص الروائية حتى يومنا هذا. هذه أمثلة سقتها لما وجدت فيها من أوجه تشابه بين "أكثر من حب" لحزامة حبايب ومحمود شقير. إذ حوت الرسائل تفاصيل وهموماً وأفراحاً صغيرة وشؤوناً مرتبطة بالحياة اليومية المعتادة، جنباً إلى جنب مع ملاحظات نقدية ونصائح مهذبة متبادلة أسهمت برأيي في تطور مهارات الكتابة الإبداعية لكليهما.

وإن بدت حزامة حبايب أحياناً أكثر إقداماً على هذا النحو من الملاحظات، بل أكثر جرأة وقدرة على خوض مغامرات فكرية، ربما تفسر ذلك الطيش المتعمد الذي كانت تمارسه مع نفسها وأصدقائها القليلين، وتلك السخرية التي طغت في أحيان كثيرة على تعليقاتها... مع سعة في التنوع المعرفي والذائقة الموسيقية. لكن هذا لم يقلل البتة من أهمية الملاحظات الأدبية لمحمد شقير في رسائل عديدة، وتواضعه الشديد في الإنصات لملاحظات حزامة والعمل بها والارتقاء معاً في دنيا الإبداع عموماً والكتابة خصوصاً. هو المحاصر في مدينة القدس بالعنصرية والاحتلال وأيضاً بمجتمع عشائري ذكوري مثقل بالضغوط والتخلف.

رسائل متبادلة حملت أيضاً ما حملت من أحزان وانكسارات وخيبات أمل، لا سيما في مجال العمل والعلاقات الإنسانية التي أحبطت حزامة كثيراً وشلت روحها مراراً ودفعتها إلى عزلة شديدة فرضتها على نفسها اتقاء من الشر الذي يؤذيها ويتسبب لها في حزن مزمن، يتسلل من ثنايا كلماتها من دون أن تستفيض في شرح تفاصيله لمحمود شقير، ومن غير أن يلح هو الآخر في الاستفسار. كان يكتفي بالإصغاء ومحاولات التخفيف عنها واقتراح تقنيات التعايش مع مسببات هذا الحزن وموجات الكآبة التي تنتابها.

المنغصات اليومية والواجبات الاجتماعية أرهقت شقير أيضاً وأعاقته مراراً عن الكتابة كما الأنشطة التي كانت بدورها تلتهم من وقت الكتابة وتبدد طاقته، فلجأ ما استطاع إلى العزلة والابتعاد بالسفر. جدوى الكتابة سؤال كان يلح على كليهما في أحيان متفرقة، لكن مشروعية السؤال ارتبطت لدى عموم المثقفين والمثقفات بفاعلية الكلمات وغنى الأفكار وبراعة السرد، وقدرته على التغيير في مساحات الوعي واللاوعي الجمعي. سؤال الجدوى لم يتمكن من النيل من موهبتهما أو عزيمة كليهما، وإن استطاع زعزعتها- الكتابة- أو إبطاءها. فالكاتبة حزامة حبايب هي بالدرجة الأولى إنسانة، كما الكاتب محمود شقير هو إنسان أيضاً في لحظات الضعف والرهبة في صوغ الشخوص ومعايشتها والتماهي معها كما الشكوك التي تعبر عن ضعف الثقة بالنفس أحياناً، أو بما هما يقدمان عليه من فعل تخييل بحيث تتقلص المسافة بين النص وصاحبه أو صاحبته.

عمق وتشويق

بداية، كانت الرسائل شبه عادية، ويغلب عليها طابع روتيني في تفاصيلها. حتى في ما يخص الملاحظات الأدبية على أعمال كل منهما. لم يكن هناك ما يلفت أو يُحدث فرقاً أو "يحك الدماغ" . لكن حين نتقدم بالقراءة ويتقدمان هما في كتابة الرسائل تنضج مضامين هذه الرسائل وتصبح أكثر عمقاً وتشويقاً. هذا حال العديد ممن يجدون أنفسهم في هذه الرسائل ويتوفرون على موهبة أدبية في أنفسهم أو حلم إبداعي يتسبب لهم في الرهبة ويعانون الأعراض الجانبية المقلقة والمؤرقة في محاولاتهم وتجاربهم الإبداعية، لا سيما القراء المبدعين وليس الكاتبات أو الكتّاب فحسب. نجد ذلك حتى عند أولئك الكتاب والكاتبات ممن يتوفرون على شهرة واسعة وهم مكرسون في المجالات الثقافية والفنية المتنوعة في العالم كله. نعم. نتعلم شيئاً من هذا الكشف الصريح أمام آخر نحبه ونثق أن ننكشف أمامه، رجلاً كان أم امرأة.

رسائل "أكثر من حب" أبدعت في نقل مكنونات حزامة حبايب وفاضت بها وبنا وبمحمود شقير الذي يعيش مكابدة حياة العشيرة بأفراحها وأتراحها تحت الاحتلال تزيد من بلبلته وإعاقته في رحلته مع الكتابة، حتى لو أراد لنفسه الفكاك منها. لكن الحاجة للتضامن مع الأهل والجيرة بمواجهة الاحتلال في القدس اضطرته مراراً إلى تقديم التنازلات أحياناً أو غالباً على حساب الوقت المخصص للكتابة، وعلى حساب عيش حياته وفق أفكاره وليس كما تريد له العشيرة أن يعيش، حتى لو فرضت عليه قسراً أو مجاملة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"أكثر من حب" رسائل تقترب إلى أن تكون نصوصاً أدبية عالية القيمة لما فيها من عمق إنساني يشترك في همومه وأسئلته ومغامراته مع تلك مما لدى القراء المحتملين. إذ تغوص بنا عميقاً وتشحذ تفكيرنا وتحفر في هواجسنا وتدفعنا إلى التأثر مع حزامة والتعاطف مع محمود ببعديهما الإنساني إلى حد تلمس فيه رسائلهما شغاف القلب. فنحن جميعاً كبشر نواجه ما يطلق عليه تفاصيل يومية وحياتية تبدو ضئيلة أحياناً ومبالغاً فيها أحياناً أخرى، لكنها الحياة. هي هكذا. وحين تتصاعد ما تبوح به من أحزان، تبدع حزامة في رسائلها الأخيرة بلغة رقيقة عميقة، وتحليلات باهرة تجعل في رأيي أياً من يقرأها يجد نفسه فيها، ويفهم ويتألم وربما يستحثه البكاء.

رسائل "أكثر من حب" استفزت النائم فيّ من أسئلة، وسوء فهم، وبددت قليلاً ذلك الغموض الذي يلاحقنا جميعاً. رسائل تضيء ما خفي في ذواتنا في عتمة الظلال على ضفاف المشترك الإنساني، لنفهم ونتألم من حالنا ونتأثر. وأنا فهمت، وتألمت، وتأثرت.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة