Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الروائي بلال فضل يعتمد السخرية في رصد أزمة الواقع المصري

تداعي منظومة القيم والعلاقات الإنسانية في رواية "أم ميمي" 

لوحة للرسام وليد نظامي (صفحة الرسام على فيسبوك)

في سراديب "المحروسة" وأزقتها، يتزاوج الأدب والأنثروبولوجيا، ليلدا "أم ميمي" (المدى)، الرواية الأحدث للكاتب المصري بلال فضل. ينتهج الكاتب عبر أسلوب السرد الذاتي منهجاً فرويدياً يعتمد منذ بداية السرد فكرة قتل الأب كضرورة لتحقيق القوة، تجاوز الماضي وإعادة البناء، وربما تأسى بنصيحة أوسكار وايلد: "إن على المرء أن يقتل أباه". لكن القتل في "أم ميمي" لم يكن حقيقياً كما في "أوديب ملكاً"، و"هاملت" لشكسبير، أو "الإخوة كارامازوف" لديستويفسكي، وإنما كان قتلاً رمزياً، أو بالأحرى رغبة في القتل، وجد لها الراوي متنفساً؛ حين رأى في حلمه أنه يشهر سكينه في وجه أبيه، ليخبر بما يفصح عنه اللاوعي برفض السلطة الأبوية، ويمهد لما سيتواتر نتيجة ذلك من أحداث.

الفجوة بين إرادتي الأب وابنه تدفع الثاني للتمرد على دور الدُمية ورفض النزول على رأي أبيه بدراسة الطب أو الهندسة، والإصرار على دراسة الإعلام، لينزح من الإسكندرية إلى القاهرة، وتكون شقة "أم ميمي" على رغم حقارتها؛ ملجأ وحيداً يناسب مدخراته القليلة، ومنجى من برد الشارع ونوم الأرصفة. وتصبح هذه الشقة عتبة الكاتب للغوص في عالم يقطن سكانه القاع، ليرصد الأبعاد الجغرافية والاجتماعية والنفسية لواحدة من شرائح المجتمع المسماة بـ "الشعبية" ويكشف ملامح واقعها الذي ينضح بالفقر والجهل والمرض ويئن من جراء انهيار منظومة القيم والشيزوفرينيا الأخلاقية، فينقله من مكمنه المظلم إلى حيز الرؤية.

وعلى رغم قتامة الواقع الاجتماعي الذي يرصده فضل وعبثيته، فقد نفث في بنائه من روحه الساخرة، ليصنع حالة من الكوميديا السوداء، ويفجر من أكثر الأمور مأساوية كل مثيرات الضحك. ولم تتجل في النص سمات بلال فضل ككاتب ساخر فقط، بل تجلت خبراته ككاتب سيناريو أيضاً، عبر اهتمامه بالصورة السينمائية والاعتناء الشديد بالتفاصيل والحركة وتكثيف الوصف.

شخوص خارج التنميط

استطاع فضل أن يصنع شخوصاً مركّبة، تحمل في جعبتها من السمات والمفاجآت ما تبتعد بها عن مساحات التنميط، فالطالب النازح من الإقليم على رغم رصيده المتدني من الخبرات الاجتماعية، لم يكن هشاً حدَّ أن تبتلعه المدينة وأشباحها القاطنة في حضيضها. و"أم ميمي" لم تكن مثل سيدة مصرية بسيطة تضطر لتأجير غرفة في شقتها لتحسين دخلها، وإنما جعل لها الكاتب نصيباً من التعقيد، فأتاح لها القدرة على أن تثير التعاطف والاشمئزاز والدهشة معاً. أما "ميمي" و"شعراوي" و"أبو سامية"، فكان لهم النصيب نفسه من التركيب، ما خرج بكل شخصية من إطارها الإنساني البسيط، إلى ما يمكن معه اعتبار كل منها ظاهرة بحد ذاتها.

 

وعبر شخوصه وعالمه طرَقَ الكاتب قضايا شديدة الخطورة مثل القوادة، الاحتيال، الطائفية، الانهيار الاجتماعي، ولأن تسعينيات القرن الماضي كانت الفضاء الزمني الذي دارت خلاله الأحداث، حرص بلال فضل على إبراز بعض ملامح تلك الفترة من تزايد الهجمات الإرهابية، واستفحال المناخ القمعي، الذي كان يحفز الشك والريبة عند كل محاولة لإبداء الرأي، هذه الريبة التي تعاظمت لكثرة ما تغذَّت على مشاعر الخوف وأسفرت عن جنوحٍ دائمٍ للصمت... "وحين حاولتُ أن أشرح له نظريتي في احتقار الحكومة للشارع، بدليل أنها لم تكرر فعلتها مع غيره من شوارع، عامَلني كأنني مخبر مزقوق عليه لأستدرجه للغلط في الحكومة، وأنهى النقاش بجفاء قائلاً: "أنت باين عليك فاضي يا ابني، هو اسم الشارع هيفرق معاك في إيه، ما تسكن وانت ساكت" ص24.

الخطاب المعرفي

على رغم الطبيعة الاجتماعية للنص، وتناول الكاتب واقعاً يكاد يخلو من مظاهر الثقافة والتحضر، لم يخل البناء الروائي من حمولات معرفية؛ وظَّفها فضل ببراعة، من دون أن تشذ عن السياق الفني للعمل. فجعل شخصية "شعراوي" على سبيل المثال، نافذة مرَّر عبرها المعرفة التاريخية بأحوال الحلَّاقين، وتاريخ مهنة الحِلاقة في مصر، التي كان لها سوق بجوار مسجد الحسين في حي الأزهر بالقاهرة القديمة. ثم اختفى في مطلع الخمسينيات مع تشديد الرقابة الحكومية عليه، خوفاً من انتشار الأوبئة والفيروسات. ورصد تطور مهنة الحلاق، الذي بدأ سريحاً متجولاً، حتى عرف الحلاقون فكرة الصالونات. كذلك مرَّر عبر شخصية "أم ميمي" لمحة عن وجود اليهود في مصر، والتعايش بين المصريين بعيداً من أي تعصب... "المهم يا سيدي لما ولدت الواد ميمي كنت فرحانة أوي بيه. قلت هسميه ميمي على اسم واد يهودي كنت دايماً ألعب معاه واحنا صغيرين" ص28.

وخارج حدود المحلية؛ مرَّر الكاتب عبر حيله السردية حمولات معرفية أخرى فجاء على ذكر حرب جزر الفوكلاند بين الأرجنتين وبريطانيا، والتفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا، والجريمة المنظمة في نيويورك، والحرب العراقية- الإيرانية. كذلك أتاح بلال فضل مساحة لرصد وتوثيق بعض الموروث الشعبي والتراث الشفهي عبر حكايات الجدات عن "البرَص" والأعشاب، واستدعى تراثاً شعبياً من حكايات جُحا، بما يتسق مع الروح الساخرة للنص، والرؤى الفلسفية التي تقبع خلفها.

مفارقات زمنية

أقدم الكاتب على إعادة إنتاج بعض الأحداث الدرامية داخل النسيج الروائي، لتتعدد الحكايات حول حدثٍ بعينه، وتحمل الحقيقة وجهاً مغايراً في كل حكاية. فـ "رِحَاب" تخطط للهرب من أبيها القوَّاد بالاتفاق مع الراوي لتبدأ حياة جديدة معه وهذه حكاية، بينما تتلاعب به للزواج منه والاستفادة من ثروته الوهمية، بعد الفرار من أبيها في حكاية ثانية. وفي حكاية ثالثة تخطط للفرار من أبيها القواد مع عشيقها، فتتلاعب بالراوي للاستفادة منه، لكنها تغير خطتها بعد أن يصحح قلبها مساره، ويميل باتجاهه هو. وفي كل حكاية يحمل الكاتب قارئه على تصديق وقائعها، ثم يفاجئه بحكاية جديدة، ووقائع أخرى عن الحدث نفسه، ويمنحه حقيقة لا تشبه السابقة. وقد أتاح فضل عبر هذه الحيلة السردية الكثير من التشويق، الذي كان أداة ناجعة للاستحواذ الكامل على القارئ.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نوّع الكاتب في استخدامه للزمن؛ ما أنعش السرد وألهب عنصر التشويق، ودفع بالقارئ لترقب تنامي الأحداث. فبينما اعتمد في بداية رحلته السردية على نسق زمني طبيعي، تتدافع عبره الأحداث أفقياً إلى الأمام، أرجأ أحداثاً أخرى لمرحلة متقدمة من السرد، ثم عاد إليها عبر تقنيات التذكر. ولم يكن ذلك على سبيل اللعب بالزمن وتنويع النسق الزمني وحسب، وإنما وظَّفه الكاتب في خدمة الحبكة. فالراوي بعد موت "أم ميمي"، وشعوره بالعجز في التعامل مع جثمانها، يعود عبر تقنية الفلاش باك لرحلة ساخرة جمعته و"أم ميمي" أثناء حياتها؛ إلى بيت ابنتها وزوجها. واستطاع الكاتب عبر هذا الاسترجاع أن ينعش السرد، بإعادة زج السخرية إلى النسيج وخلخلة تراجيديا الموت، وكذلك إنتاج حل لأزمة الراوي مع جثة أم ميمي.

بين الفجاجة والمقاربة الواقعية

كانت تقنية التناص أكثر التقنيات السردية التي لجأ إليها فضل في بنائه الروائي، فاستخدم صوره غير المباشرة مع الموروث الديني، والمأثور من الأقوال، والتراث الشعبي. وهو ما أبرز ثقافته الواسعة، وقدرته على تطويع اللغة، التي استخدم منها الفصحى، ومزج بينها وبين العامية المصرية في مواضع متفرقة من النسيج. لكن الكاتب قرر أن يثير إشكالية اللغة عبر الإسراف في استخدام ألفاظ مفرطة في الفُحش، ليخترق باستخدامها منطقة جدلية شائكة تتصارع فيها الرؤى. فبينما يذهب البعض لضرورة تماس النص الأدبي مع الحياة الواقعية للشخوص المهووسة في هذه الطبقة بالهاجس الجنسي، واستدعاء مثل تلك الألفاظ بهدف المطابقة البنيوية بين شكل الرواية وشكل الحياة الواقعية، التي يرصدها الكاتب؛ يذهب البعض الآخر لضرورة التسامي على الواقع والارتفاع إلى جمالية اللغة، كواحدة من ضرورات النص الأدبي. وربما كان الأجدى للخروج من هذه الإشكالية اعتماد الرمز والإيحاء وتجنب المباشرة واللفظ الصريح كنوع من الوسطية التي تضمن الواقعية من دون أن تزهق على مذبحها جمالية النص الأدبي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة