Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأميركية آبي جيني تروي خفايا الإرهاب البيئي

"الهوس بالحيوان" تكشف السلوك البشري السلبي الذي يدمر العلاقة بالطبيعة ومخلوقاتها

الروائية الأميركية آبي جيني (دار اكت سود)

نادراً ما نقرأ في الصحف والمجلات عن الإرهاب البيئي، علماً أن هذا النوع الجديد من التطرف يتنامى بشكل ملحوظ في الغرب، خصوصاً في الولايات المتحدة، مذكّراً إيانا، وإن بطريقة عنيفة، بالمآسي التي تتجه البشرية نحوها. ولمقاربة هذا الموضوع الراهن، رصدت الكاتبة الأميركية آبي جيني روايتها الثانية، "أراضٍ برية"، مستثمرةً فيها مهاراتها السردية الفريدة التي سبق وأثبتتها في روايتها الأولى "حرّاس الضوء"، وأسلوباً كتابياً آسِراً يرتكز على جُمَل قصيرة، شعرية، موقَّعة على شكل ترنيمة كئيبة تترك أثراً بليغاً على قارئها.

أحداث الرواية، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "أكت سود" بعنوان "الهوس بالحيوان" (Zoomania)، تنطلق بإعصار من الدرجة الخامسة يضرب بلدة ميرسي في ولاية أوكلاهوما، حيث تقع مزرعة عائلة ماكلاود، ويجبر أفرادها على الاختباء فوراً في قبو منزلهم. وحده الوالد يفشل في بلوغ القبو، وحين يحاول ابنه تاكر الخروج لإنقاذه، تمنعه أخته الكبرى دارلين من ذلك. وبظرف ثوان معدودة، يدمر الإعصار البلدة بأكملها ويحرم دارلين وتاكر وشقيقتيهما جاين وكورا من والدهم، بعدما فقدوا أمهم باكراً.

بسرعة، يصبح اليتامى الأربعة الصورة النموذجية لمأساة البلدة في الإعلام. ولأن الإعصار لم يترك حجراً على حجر في مزرعتهم، ينتقلون للعيش في عربة مقطورة، وتتخلى دارلين عن دراستها للعمل في متجر، ولا تتردد في المثول مع شقيقتيها أمام عدسة الصحافيين الذين قدموا لتغطية الكارثة، مقابل مبلغ من المال هم في أمسّ الحاجة إليه. لكن سكان البلدة لن يتفهموا هذا السلوك، فيجافون هؤلاء اليتامي بدلاً من مساعدتهم على تجاوز محنتهم ومن تلطيف حدادهم المستحيل على والدهم، نظراً إلى عدم العثور على جثته بعد الإعصار.

بين صمت وغضب

في هذه الظروف الصعبة، تحاول الطفلة كورا متابعة حياتها، متأرجحةً بين صمت دارلين المشحون بالكآبة وغضب تاكر الذي يفتح الإعصار عينيه على الكوارث البيئية التي تتهدد عالمنا، فيهجر أخواته الثلاث ويتوارى من البلدة بعد خناقة عاصفة مع دارلين، ما يعمق عزلة كورا التي كانت متعلقة بشكل خاص به. وفي إحدى الليالي، تستيقظ هذه الطفلة مع شقيقتيها على وقع انفجار يقع في مصنع لأدوات التجميل داخل البلدة. ومن التحقيق الأولي، يتبين أن الأمر يتعلق بتفجير إرهابي ناتج عن قنبلة محلية الصنع، وأن الهدف منه لم يكن فقط إحداث أضرار بليغة بالمصنع، بل أيضاً تحرير الحيوانات التي كانت تمارَس عليها تجارب داخله. أما آثار الدماء التي يعثر عليها في المكان، فيتضح بعد الفحوصات الجينية أنها تعود إلى واضع القنبلة.

بعد أيام قليلة، يعود تاكر إلى المقطورة جريحاً ليجد كورا وحدها. وبعد تضميدها جراحه البليغة، يقنعها بالفرار معه، فيختبئان فترةً في قبو مزرعة العائلة التي دمرها الإعصار، ريثما تلتئم جروحه ويتوقف البحث عنه. وفي هذه الأثناء، يفسر لأخته سبب إقدامه على هذا الفعل، أي إنقاذ الفئران والأرانب والقرود من التجارب المرعبة التي كانوا يخضعون لها في المصنع، وكراهيته لا مبالاة الراشدين بما يحصل من جرائم بحق الحيوانات والطبيعة في مختلف أنحاء المعمورة، وضرورة إيقاظهم بعمليات من هذا النوع قبل فوات الأوان، موضحاً لها أن الكوارث البيئية التي يشهدها العالم منذ فترة يقف خلفها سلوك البشر غير المسؤول. وبعد جرها إلى عقد "حلف دم" معه، يتوجه الاثنان غرباً، في اتجاه كاليفورنيا، فتجد كورا نفسها محمولة بإعصار من نوع آخر لا يقاوَم، إعصار أخيها وخطاباته التي لا تنضب وأفعاله الإرهابية التي سيقترفها أثناء ترحالهما. شاب تحركه قضية البيئة الطارئة ووعيه بالكارثة التي يتقدم البشر نحوها بسرعة كبيرة، ورأفته الكبيرة بالحيوانات، ما يجعله يجازف بكل شيء، بما في ذلك حياة أخته الطفلة، لبلوغ هدفه. شاب يسير على حافة الجنون، مدفوعاً بمثال لا يقبل أي مساومة، وبحماسة لإنقاذ العالم لا تعبأ بما تسحقه في طريقها.

أسئلة البيئة

قيمة هذه الرواية، التي نجحت المترجمة الفرنسية سيلين لوروا في نقل نبض نثرها وإيقاعاته وتعرّجاته، لا تكمن فقط في تمكن صاحبتها داخلها من سبر الطيّات الأكثر حميمية لشخصياتها وتجسيد التناقض الحاد لطريقة حضورها في العالم، بل خصوصاً في رفضها أي نزعة مانوية (شر/ خير) وتجنبها الالتصاق بأي قضية، على الرغم من حساسيتها الشديدة تجاه أسئلة البيئة الطارئة. فموضوع "أراضٍ برّية" الأول هو في الواقع المكان الرئيسي الذي تقع أحداثها فيه، أي بلدة ميرسي، حيث الأموات في مقبرتها أكثر قدماً من ولاية أوكلاهوما نفسها، بما أن معظمهم ضحايا ذلك السباق لاحتلال أراضي هذه الولاية في القرن التاسع عشر.

وفي هذا السياق، يكتشف القارئ على مر صفحاتها تاريخ هذه الولاية التي شُيِّدت من الثروات التي اقتُلعت من أرضها بثمن بيئي باهظ، ويتعرف إلى أبنائها الذين يعيشون في هلع ثابت من الأعاصير التي تعبرها وتدمر كل شيء فيها، عن طريق أفراد عائلة ماكلاود وأيضاً الشرطي روي الذي يحقق في انفجار المصنع وتواري الطفلة كورا من منزلها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن خلال جميع هذه الشخصيات، تسائل الرواية ليس فقط علاقات البشر بعضهم ببعض، بل أيضاً علاقتهم بغير البشر وبأرضهم، وعلى نطاق أوسع، مفهوم الحب حين يقود إلى جميع أنواع العنف. رواية يبدو كل شيء طارئاً فيها، وتنجح الكاتبة في تجنب الحلول البسيطة للمشاكل التي تطرحها داخلها، تماماً مثل الطفلة كورا التي تبقى حتى النهاية "سؤالاً بلا جواب"، فتمد نصها بكثافة شعرية مدهشة، وتقابل داخله سذاجة الطفل بأجوبة الراشدين المخيبة للأمل، والعالم كما يسير بالعالم كما نود أن يسير، محوّلةً إياه إلى لوحة، إلى سلسلة من المشاهد والألوان والإضاءات والفضاءات، ما يفسر وقعه الكبير على قارئه. وكما لو أن ذلك لا يكفي، تستعين بالطبيعة، بحيواناتها ونباتاتها، لإضفاء جانب حسي عليه. فحين لا نصغي إلى غناء الصراصير داخله، نسمع نباح كلب، أو نتأمل أفعى تلتمع تحت أشعة الشمس، أو نشتم الرائحة الترابية لقطيع من الخيول.

أما قصة عائلة ماكلاود فنتلقاها على لسان الشقيقتين كورا التي تلقي على الأحداث التي تسردها نظرة طفولية ساذجة لا تخلو من بصيرة، ودارلين التي تظلل هذه الأحداث بكآبتها العميقة. والنتيجة؟ سردية آسِرة تمتد على مدى خمسة أشهر وتثير جميع حواسنا، متراوحةً في طبيعتها بين نوعي القصة العائلية والملحمة البيئية. سردية حول العلاقات المعقدة بين أخ وأخواته، حول تبدد البراءة وتحول الهوية الفردية على مر المِحَن والمطبات، وحول التأثير المختلف الذي تحدثه الصدمة نفسها في أفراد عائلة واحدة: صدمة التواري، وصدمة الهجران، أو صدمة فقدان مكان الولادة والأمل.

باختصار، رواية ساحرة نقرأها كنشيد، احتفاء بالطبيعة وكائناتها، كحكاية مسارية، وأيضاً كتأمل عميق في ما تفعله ظروف الحياة بالبشر. رواية، حين نفرغ من قراءتها، تبقى شخصياتها وأجواؤها حية طويلاً داخلنا.

المزيد من ثقافة