Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جوزف كونراد القبطان يروي مواجهة "إعصار استوائي"

ترجمة الرواية مرفقة بدراسة حول خصائص أدب صاحب "قلب الظلام"

الكاتب البريطاني جوزف كونراد (غيتي)

يعتبر الكاتب البريطاني غافين غريفيث أن الروائي الإنجليزي جوزف كونراد "واحد من أعظم الروائيين (الإنجليز) في القرن العشرين" (ص116). وهو يطلق هذا الحكم بعد دراسة متأنية لسيرته التي تشكّل النصف الثاني من كتاب صادر عن دار المدى، بترجمة توفيق الأسدي، فيما تشكّل رواية "إعصار استوائي" لصاحب السيرة نصفه الأول. وإذا كانت السيرة تلي الرواية في الكتاب، فإن إلقاء الضوء عليها أوّلاً من شأنه أن ينير الرواية ويضع القراءة في نصابها المنهجي الصحيح.

يتناول غريفيث في دراسته محطات من سيرة كونراد الذاتية، وأخرى من سيرته الأدبية، ومقتطفات من رواياته، وأحكاماً نقدية يطلقها على هذه الروايات، يذكّر بعضها بالأحكام التي كان يطلقها النقاد القدامى على الشعر الجاهلي بصيغة "أفعل التفضيل"، على طريقة، "أجمل بيت قالته العرب"، ممّا تغلب عليه الانطباعات الفردية، وتجانبه الدقة العلمية. لذلك، يقع غريفيث في هذا المطب، فيذكر أن "خط الظل" آخر روائع كونراد، وأن "السهم الذهبي" واحدة من أسوأ ما كتب، على سبيل المثال لا الحصر، وبين هذين الحكمين المبرمين تتموضع رواياته الأخرى.

سيرة مختصرة

جوزف كونراد في السيرة هو "شخص بولندي منفي برغبة منه أصبح قبطاناً بحرياً تجارياً بريطانياً" (ص116). ولد في الثالث من كانون الأول (ديسمبر) 1875، في برديتشوف في أوكرانيا البولندية التي كانت تحت الحكم الروسي، ما يجعل منه روسي الولادة. ومات إنجليزياً في الثالث من آب (أغسطس) 1941 عن ستة وستين سنة. ويتمتع بشخصية مزاجية عصابية وألمعية جريئة. يقسو على الآخرين كما على نفسه. يمتلك القدرة على التهكم والسخرية والتنكيت. ويضطرم داخله بفوضى كبيرة، يرجح كاتب السيرة أن تكون وراء انخراطه في حياة البحر لعلّه يحصل على النظام الذي يحتاج إليه، حتى إذا ما تسرّب الملل إلى نفسه، يختار الفن الروائي ويتنسّك في محرابه. وتتمخّض عن هذا الخيار سلسلة من الأعمال السردية، الروائية والقصصية والسِّيَرية، تمنحه موقعه المتقدم على خريطة الرواية الإنجليزية، وقد بلغ عددها تسعة وعشرين عملاً، صدرت خلال واحد وثلاثين عاماً، أي بوتيرة عمل واحد كل عام تقريباً. كان أولها "حديقة ألماير" 1895، وآخرها "المقالات الأخيرة" 1926.

أمّا "إعصار استوائي"، موضوع هذه العجالة، فقد صدرت، منذ قرن ونيّف، في عام 1903. ولعل رواية "قلب الظلام" هي أشهر هذه الأعمال، على الإطلاق. وقد توقف المفكر الفلسطيني إداورد سعيد عند هذه الرواية نقدياً وأكاديمياً وكتب عنها دراسة مهمة جداً. 

الدرس الروائي

"إعصار استوائي" هو العمل السردي التاسع لصاحبه، ويعكس جوانب من سيرته الذاتية، فكونراد الروائي يستلهم كونراد القبطان البحري التجاري، ويتّخذ من شخصية القبطان بطلاً لروايته، فتتمحور حول الكابتن ماكوير، الذي يقود السفينة "نان- شان" في البحار الصينية، خلال موسم الأعاصير الاستوائية، ويكون عليها أن تخوض معركة ضارية ضد إعصار استوائي، تُلحق بها أضراراً فادحة، وتوشك على الغرق، ويرى بحّارتها الموت بأعينهم. غير أن رباطة جأش القبطان، وتعاون بعض مساعديه معه، وتفاني الفنّيين في القيام بعملهم، توصل السفينة إلى برّ الأمان. وبذلك، تقوم الرواية على الصراع بين الطبيعة والإنسان. ولعل الدرس الذي تقدّمه يتمثّل في الثقة بقدرة الإنسان العاقل على مواجهة قوى الطبيعة الغاشمة؛ فإذا ما امتلك الإنسان العقل ورباطة الجأش والمعاونين المتفانين في العمل والأدوات المناسبة يمكنه الصمود في وجه الطبيعة والانتصار عليها، من دون أن يعني ذلك العبث بقوانينها، ممّا تترتّب عليه عواقب وخيمة، الأمر الذي لا تتطرّق إليه الرواية.

الوصف والسرد

يوازن كونراد في روايته بين الوصف الدقيق الدرامي لحركة الصراع والسرد الطلي للأحداث. وإذا كان الإغراق في الوصف يجعل إيقاع النص بطيئاً فإن الإيغال في السرد يسهم في تسريع الإيقاع. وتتمظهر هذه الموازنة في تقاسم عادل للنص، وفي علاقة جدلية بين النمطين الكتابيين. فالكاتب يستخدم النمط الوصفي، الخارجي والداخلي، في مقاربة الشخصية الروائية. ويستخدم النمط السردي في مقاربة حركتها في الفضاء الروائي. وهو يغلّب النمط الأول في الكتابة عن غضب الطبيعة وثورتها المدمّرة وتأثيرها في السفينة، متوقفاً عند التفاصيل الدقيقة واللحظات الحاسمة، ما يحبس أنفاس القارئ، ويضعه في قلب المعركة. وهو يغلب النمط الثاني في رصد مقاومة الإنسان وردود فعله، الفطرية والمكتسبة، في مواجهة الخطر.

تتمظهر الطبيعة في إعصار استوائي يهب على السفينة ليلاً، وينقضّ عليها بعواصفه العاتية وأعمدته المائية العالية، ما يدمّر بعض أقسامها، ويأتي على أضوائها، ويطفئ محرّكاتها، ويغمر سطحها بالماء، ويطيح ببحارتها. وهنا، لا بد من الإشارة إلى استثمار الكاتب خبرته العملية وسيرته المهنية في الرواية، فيسمّي الأقسام والأدوات بأسمائها، ويحدّد مواقعها، ويبيّن وظائفها، ويسمّي الأعمال التي يقوم بها البحّارة على متن السفينة بدقة. ومثل هذا التقنيات توهم بواقعية الرواية وصدقها الفني، وتبيّن أهمية السيرة الذاتية المهنية في توجيه العمل الروائي، فلو لم يعمل كونراد بحاراً لمدة طويلة لما أوتي هذه القدرة على الوصف الحي الدقيق للفضاء الروائي، ورصد حركة العاملين فيه. فنرى الكر والفر في عمل الإعصار، ونسمع اصطدام الموج بجوانب السفينة، وارتطام الماء بسطحها. ونرى ترنّح السفينة وانحدارها وغوصها ونهوضها كريشة في مهب الإعصار. ونرصد تفاعل الشخوص الروائية مع الهجوم المباغت؛ فـ"بيل يجثو على يديه وركبتيه ويبدأ بالزحف وكأنه ينوي الطيران على أطرافه الأربعة من غرفة المحركات، والسيد راوت يلتفت برأسه ببطء وصرامة وعمق وقد ارتخى فكه الأسفل، ودجوكس يغمض عينيه، ويصبح وجهه خلال برهة شاحباً ولطيفاً كوجه أعمى" (ص82).

تمظهرات الإنسان

في المقابل، يتمظهر الإنسان في السفينة والبحارة العاملين على متنها؛ فالسفينة، بما هي صناعة بشرية، تتحوّل في النص إلى كائن حي يواجه الإعصار، ويتمكّن من النجاة من براثنه في نهاية المطاف، وتنطوي على رسالة إتقان الصنع كعامل حاسم في مواجهة التحديات. والبحارة، بمهاراتهم في القيادة والإدارة والمساعدة والتصليح وتوزيع العمل، يشكّلون العامل الأكثر حسماً في إيصال الأمور إلى خواتيمها المنشودة. وعليه، تتمكّن السفينة المتقنة الصنع من الوصول إلى ميناء فو- تشاو الصيني في الوقت المحدّد، وتوصيل العمّال الصينيين الذين تقلّهم، بتضافر مجموعة من الجهود البشرية، ذات المستويات المختلفة؛ فالقبطان ماكوير الذي يميل إلى العزلة والصمت يصدر عن مواصفات قيادية خارقة، ويثبت قدرته على التوقع والتقرير والإيحاء بالثقة والتفاؤل بالمستقبل والعمل الميداني ورفع المعنويات وتحفيز الهمم والنزاهة الأخلاقية. ومساعده دجوكس يتعاون معه، وينفّذ تعليماته، ويثق به، ويغامر للقيام بما يطلبه منه. وكبير الميكانيكيين سولومون راوت ومساعدوه يتفانون في العمل في ظروف مرعبة، ويتمكّنون من إدارة المحركات والإقلاع بالسفينة. ومدير الدفة يثابر على القيام بعمله في أقسى الظروف. وعريف البحارة يتحلّى بالشجاعة في الوقت الذي يلجأ فيه هؤلاء إلى مجاز تحت منصة الربان، ولا يفعلون غير التشكّي والدمدمة كالأطفال. ويحذو حذوهم المساعد الثاني للربان الذي يشكك في قراراته، ويتردى في حالة من الغضب والأسف والاستسلام. ولعل هذه الوقائع تشي بأن الرواية تراهن على المستويات القيادية والوسطى في العامل البشري لتحقيق الأهداف المرجوة دون المستويات الدنيا التي لا يعوّل عليها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وإذا كان تركيز كونراد على المستويات العليا والوسطى أمراً يمكن تفهّمه، لِما تمتلكه من كفايات ومهارات، وينسجم مع طبيعة الأمور، فإن وضعه الركاب الصينيين جميعهم في مركب  واحد، وتصويره صراعهم على المال، وقيام البحارة بتقييد بعضهم وتعنيف الآخرين، والكلام على لونهم الأصفر وخوفهم من البحارة البيض، يجعله يسقط في التمييز العنصري، ما ينتقص من المنظور الروائي المراهن على الإنسان في صراعه مع الطبيعة. ولأن قراءة الماضي بمعايير الحاضر قد ينطوي على شيء من الظلم ويجانب المنهجية الموضوعية، فإننا نبدي هذه الملاحظة، من قبيل الإشارة إليها، لا اتخاذها دليلاً لإدانة الكاتب، فمعايير الحاضر لا تصلح لقراءة الماضي، ولكل زمن معاييره. على أن هذا، لا يلغي أن "إعصار استوائي" نصٌّ جميل يبرز قدرة  كبيرة على الجذب الروائي، ويجعل القارئ يدور في حقله المغناطيسي، ولا يملك منه فكاكاً، حتى بعد انتهاء عملية القراءة، ويعيد للوصف دوره الكبير في تأثيث الفضاء الروائي بعد أن صادره السرد، إلى حدٍّ كبير.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة