Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

معضلة تركيا وطبيعة علاقاتها مع العالم

كثيراً ما تبعد عن الإدارة الرشيدة اعتماداً على الإرث التاريخي لشعب من قبائل الغزاة تسعى للتوسع

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (أ ف ب)

تثير تركيا دوماً عاصفة من التساؤلات، وفي الحقيقة أنه على مدى أكثر من خمسة قرون، كانت مصدر قلق لجيرانها أو كان هؤلاء الجيران ضحية لاعتداءات أو لاحتلال تركي ثقيل، دام عدة قرون تحت اسم الخلافة العثمانية، وربما كانت سنوات الهدوء أو الهدنة مع الآخرين خلال هذه الفترة الزمنية الطويلة لا تكاد تكون محسوسة بسبب سنواتها القليلة بمعيار التاريخ.

وتابع كثيرون باهتمام التحركات التركية منذ أشهر قليلة نحو محاولة الانفراج في علاقتها مع مصر ودول الخليج، التي أعقبتها خطوات ملموسة بالفعل من لقاءات مع الجانب المصري وتصريحات مغازلة تركية استقبلتها القاهرة بحذر ملحوظ، ثم قبلت استقبال وعقد مباحثات على مستوى دبلوماسي رفيع بين نائبي وزيري الخارجية، ورافق هذا تحركات وتصريحات واضحة حول وقف حملات الدعاية الإخوانية من الأراضي التركية ضد مصر.

 ويبدو أنه اتخذت خطوات بهذا الصدد من جانب هذه المنصات الإعلامية قابلتها مصر أيضاً بترحيب هادئ، ولكن توقف هذا الزخم بعد اتضاح استمرار عدم تجاوب أنقرة بعد، تجاه انشغال مصري مصيري يتمثل في الوجود العسكري التركي في ليبيا، وعدم سحب الميليشيات المتطرفة من "داعش" و"القاعدة" التي تتحكم فيها تركيا، ونقلتها إلى طرابلس العاصمة الليبية وربما مواقع أخرى، واتضح استمرار قدر من التوتر مع تصريحات حادة لمستشار الرئيس التركي ضد أحكام قضائية مصرية تجاه بعض قيادات الإخوان، وفي كل هذا اتسمت ردود الفعل المصرية بالهدوء والحذر الأقرب إلى عدم الاكتراث.

إن نظرة تحليلية متكاملة لأبعاد السياسة الخارجية التركية وتعقيداتها، يمكن أن تفسر صعوبة التعاطي مع هذه الدولة، وأن جزءاً من الأسباب يمكن تفسيره بطريقة رشيدة، وجزءاً آخر يصعب وصفه بهذا، وتشكل مجموعتا الاعتبارات هذه مفاتيح أو مداخل لفهم هذه السياسة.

لعبة المقايضات وسياسة براغماتية نفعية

من الضروري الأخذ في الاعتبار أن هذا أحد المداخل الرئيسة لفهم السياسة التركية بشكل عام وفي عهد أردوغان بشكل خاص، فالكل يفهم حالة السيولة في النظام الدولي وفروعه الإقليمية، وبشكل خاص في الشرق الأوسط وعملية إعادة الهيكلة والتموضع الجارية، والضعف العربي الذي أسهمت تركيا بدور كبير في تكريسه قبل وبعد ما يسمى بالربيع العربي، وفي ظل هذه الظروف تدرك تركيا أن كثرة أدواتها وتغلغلها مسألة استراتيجية، فعلى سبيل المثال في الملف السوري تمارس الدور الأكبر حالياً، في ما أسميه منذ فترة بالفيتو الغربي لمنع روسيا من استكمال انتصارها في سوريا، وذلك باحتلال مساحات شاسعة من الأراضي المتاخمة لها في شرق وغرب الشمال السوري، وتحقق بذلك عدة أهداف استراتيجية، أولها استمرار اعتماد واشنطن والغرب عليها في إدارة هذا الملف، والنظر إليها كحليف استراتيجي متعب، ولكن لا يمكن الاستغناء عنه، وثانيها ضم مزيد من الأراضى السورية واحتمال استمرار هذا لسنوات وربما أكثر مثل لواء الإسكندرونة المحتل، وثالثها الإبقاء على هذه الجيوب مخزناً للميليشيات التي تستخدمها أنقرة تحت عباءة توظيف الدين لخدمة نفوذها السياسي في المنطقة، وقد أثبت هذا المخزن فعاليته بالنسبة إلى تركيا في الملف الثاني ليبيا، كما تنظر إلى هذه الأداة في ضوء مشروعها لبناء نفوذها السياسي كما سنرى بعد قليل.

وفي الملف الليبي استخدمت روابطها بمشروعها السياسي الإسلامي، وكذا مصالح اقتصادية وعرقية تجمعها ببعض الليبيين للنفاذ إلى هذه الساحة، بحيث تقبلت واشنطن في مرحلة ما دورها لمجرد وقف الروس الذين كانوا يؤيدون القائد العسكري حفتر، وحتى بعد حدوث تغيير بطيء في الموقف الأميركي، تتعامل أنقرة مع وجودها العسكري المباشر وغير المباشر من خلال المرتزقة "الدواعش" و"القاعدة" كورقة مساومة، تؤكد بها مرة أخرى لواشنطن أنها الحليف الذي لا يمكن الاستغناء عنه، ولهذا لم تكترث بأن تبدو وكأنها تتحدى النظام الدولي الهش في مؤتمر برلين الثاني، وأن تتحفظ لوحدها على خروج القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا، وتصدر تصريحات بأن وجودها شرعي ولن تخرج. ثم تجري صفقات سحب تدريجي للمرتزقة مع روسيا يقال إنها في المرحلة الأولى في حدود 200 فرد من الجانبين فقط، لتعزز التوجه الروسي أيضاً بأنها، أي تركيا، طرف يجب التعامل معه ومقايضته في ليبيا مثلما الحال في سوريا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ونضيف إلى الاعتبارات الرشيدة الحسابات الاقتصادية التركية سواء المتعلقة بالتبادل التجاري والاستثمارات، وحاجتها لأسواق خارجية تتوسع فيها، ومن ثم تجد المنطقة العربية والفضاء المتوسطي وعلى رأسه ليبيا ميداناً مهماً لهذه التوسعات الاقتصادية الضرورية لحاجاتها من هذا القطاع، وتأتي احتياجاتها للطاقة واستياؤها من استبعادها من منظومة غاز شرق البحر المتوسط أيضاً كعنصر تأثير مهم في قرارات السياسة الخارجية.

توجهات أيديولوجية وثقافية

تمثل هذه التوجهات جزءاً فيه قدر كبير من الدوافع التي يصعب وصفها بالرشيدة في كل الأحوال، وهي دوافع ذات طبيعة متداخلة، بعضها مستمد من طبيعة الإرث التاريخي التركي لشعب من ققبائل غزاة تسعى إلى التوسع والتمجيد، ولديها مشاعر مرتبكة بسبب ما حاوله مؤسس الدولة الحديثة كمال أتاتورك تجاهله بشأن هذا الإرث، وبناء معالم دولة علمانية حديثة، وسيطر هذا الفكر لعقود قبل أن تتحداه مشاعر كانت مكبوتة لقطاع ليس صغيراً من الشعب التركي لم يرض بطمس هويته الدينية، التي كانت في جزء منها أداة لدى قطاع من النخبة التركية، توظفها لغرض استعادة الأحلام الإمبراطورية التركية التي هيجها وأثارها مجدداً أردوغان وحزبه، وهذه النخبة ثقافية وسياسية واقتصادية تمثل هذه المشاعر مكوناً رئيساً من تكوينها النفسي وسعيها لبناء مصالحها السياسية في الداخل والخارج، وبالنسبة إليها حالة السيولة والفوضى الإقليمية مناخ مناسب لمحاولة استعادة هذا الإرث المستحيل.

نذكّر هنا أنه حتى في الحقبة الأتاتوركية، لم يحاول هذا العقل التركي عند استدارته وتجاهله لروابطه الدينية والثقافية مع العالم العربي، إلا أن يلوم العرب على ما اعتبره خيانة منهم للدولة العثمانية وتحالفهم أو بعضهم مع الأعداء البريطانيين والفرنسيين ضده، ولم يحاول أبداً هذا العقل أن يلوم نفسه أو يتساءل لماذا فعل بعض العرب هذا؟ ولماذا صدقوا الغرب الكاذب؟ وما أخطاء الدولة العثمانية؟ وجاءت هذه الحقبة الجديدة الحالية لتعيد تمجيد هذا الإرث والحلم الوهمي، وليس بأي مراجعة موضوعية عن أسباب سقوط وتخلف الدولة العثمانية، ولماذا كانت محل كراهية من رعاياها تحت الاحتلال، ومن جيرانها من كل القوميات وليس فقط الأوروبية؟ ونضيف إلى ذلك سمة تفسر عدم المراجعة التركية لتصرفاتها، أو التعلم من دروس التاريخ، وهي خصلة العناد التي تلازمها وتعقد طريقة اتخاذها للقرارات.

بهذا المعنى تتداخل اعتبارات رشيدة، وأخرى يصعب وصفها بذلك لإنتاج سياسة خارجية تركية معقدة ودينامية وعدوانية في آن واحد، ويصب كل هذا في صعوبة تعاطي الآخرين معها، وفي حالة القدرة النسبية على ذلك يتم اللجوء لنهج براغماتي مماثل، وبشكل خاص اللجوء لنهج تقسيم الملفات والتعاطي مع تركيا بعدة أساليب بحسب الأحوال، وهو ما تفعله واشنطن بقدر كبير من المهارة من شد وجذب واستفادة من سياسات أنقرة المندفعة بشكل خاص في الأزمات الإقليمية، وتجاهل أو التعايش مع كثير من الخلافات مقابل الاستفادة من توظيف هذا الجموح التركي بما يخدم المصالح الأميركية.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل