Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شخصيات مسرحية مجهولة تتخبط في "قاع" الدائرة المغلقة

26 ممثلا شابا قادهم المخرج المصري المغامر محمد مرسي في أولى تجاربهم

مشهد من المسرحية المصرية "قاع" (الخدمة الإعلامية للفرقة)

26 ممثلاً وممثلة في سن الشباب، هم خريجو ورشة "نجوم المستقبل" التي أقامتها فرقة الإسكندرية المسرحية، التابعة للبيت الفني للمسرح، وشارك فيها العشرات غيرهم، واختير هؤلاء للقيام ببطولة عرض مسرحي متكامل واحترافي.

التحدي هنا لم يكن مجرد مشاركة هؤلاء في عرض مسرحي، يدرك مشاهدوه أنهم أمام مجموعة من الممثلين الجدد، فيتجاهلون بعض الأخطاء أو الهفوات البسيطة المعتادة في مثل هذه العروض، لكنه جاء من خلال عمل أطلق صناعه العنان لخيالهم، وبالغوا في أحلامهم، ساعين إلى تقديم عرض مسرحي جدي مركب وعميق وكثيف الأسئلة، تجنب أخطاء البدايات.

عنوان العرض "قاع"، كتب نصه المؤلف الشاب محمد محسن، وفيه قدم ما يمكن اعتباره ملخصاً لتاريخ الإنسان منذ أن دب بقدميه على الأرض وحتى يغادرها، وكيف أن الخطيئة صارت طابعاً للجنس البشري، وملتصقة به، طارحاً السؤال: هل يمكن أن نتعلم من دون أن نخطئ؟

صفحات بيضاء

"القاع" هنا، كما صوره النص، هو الأرض، وكأنه، منذ البداية، يخبرنا بما يمكن أن نتوقع وجوده في هذا القاع، بكل ما تحمله كلمة "قاع" من دلالة، يفتح العرض على مجموعة من البشر يتساقطون من علٍ، لا أحد فيهم يعرف اسماً له أو يتذكر شيئاً عن ماضيه، كأنهم يولدون للتو، صفحاتهم بيضاء تماماً. وقبل سقوطهم هناك في الخلف رجل وامرأة في حالة صمت تام، ربما ارتكبا خطيئة ما يتواريان عن الآخرين خجلاً منها، وكأنهما آدم وحواء. وهناك كذلك شخص آخر في هيئة بشرية، يبدو في تصرفاته وإيحاءاته غير السوية للآخرين أنه يجسد الشيطان.

يقترح هذا الشخص، لتنظيم حياة هذه المجموعة من البشر أن يحمل كل منهم رقماً يعرف به وأن يتولى أمرهم قائد أو حاكم أو زعيم. وهنا تبدأ اللعبة، ويمارس هذا الحاكم سطوته على الآخرين، مدفوعاً بما يوسوس له الشيطان. وتبدأ كذلك الصراعات على السلطة، وتمارس كل الخطايا من تفرقة عنصرية، من خلال اضطهاد شخص أسود أو فتاة قبيحة وتحرش من خلال سعي الرجال إلى الاستئثار بإحدى الفتيات وصراعهم عليها إلى درجة قيام بعضهم باغتصابها حتى الموت. وتبدو كذلك الطبقية والسرقة والكذب والقتل والخيانة والطمع، وغيرها من الخطايا التي تؤدي إلى حروب وصراعات ودمار حتى ينتهي العالم كله على وقع انفجار عظيم.

هي صورة مصغرة ومكثفة لقصة الإنسان على الأرض، وتأمل لمصائر البشر، وسؤال يطرح نفسه دائماً: هل يمكن أن نتعلم من دون أن نخطئ؟ ولا إجابة بالطبع حاسمة، وكأنها الدائرة المغلقة التي يظل الإنسان قابعاً فيها منذ قدومه إلى الأرض وحتى رحيله منها.

خيال واسع

تطلب الأمر خيالاً واسعاً من صناع العرض لتجسيد موضوع فلسفي وجودي في شكل مسرحي رمزي يلامس القضية المطروحة بشفافية، من دون إغراق في تفاصيل، يغري بها موضوع العرض نفسه، أو تقديم أي إجابات عن أسئلة لا إجابات لها أصلاً.

بدا مخرج العرض، محمد مرسي، في تحد كبير مع نفسه، كيف يشكل من هذه المجموعة الناشئة فريقاً يمكنه من خلاله طرح رؤيته، وتجسيد أفكاره التي تبدو غريبة ومرهقة، وربما غير قابلة للتنفيذ على خشبة المسرح. ومنها على سبيل المثال مشاهد السقوط من الأعلى، والتي تطلبت قدراً من الاحترافية والدقة العالية في التنفيذ، وكذلك قدراً عالياً من الخيال. فهناك ما يشبه الأسطوانة القائمة الشفافة التي يهبط أو يصعد منها الأشخاص. ومن خلال الفيديو مابينغ، والذي نفذه محمد المأموني، يتم تجسيد صورة الشخص في حالة هبوطه أو صعوده، بينما يدخل أو يخرج هذا الشخص، في التوقيت نفسه من إحدى الفتحات الموجودة في الستارة الخلفية، أسفل الأسطوانة تماماً، بما يجعل المشاهد يشعر أن الممثل هو الذي يجسد المشهد وليس صورته، وهو ما يتطلب دقة بالغة في التنفيذ، والتوافق بين الممثل والفيديو مابينغ.

أيضاً هناك مشهد سقوط الأمطار، وهو من المشاهد الصعبة بل والخطرة التنفيذ على المسرح، في ظل وجود أجهزة ومعدات كهربائية، لكن المخرج أصر على تنفيذ المشهد. صحيح أنه بصدد عرض يميل فيه أكثر إلى الرمز، ولم يكن مطلوباً أن يجسد هذا المشهد واقعياً، لكن الفيصل هنا لكيفية التنفيذ الذي تم باحترافية شديدة.

غلبة الرمزية

غلبت الرمزية كذلك على الديكورات والملابس التي صممها وليد جابر، فلا أماكن محددة، المسرح خال إلا من بعض القطع أو الموتيفات التي ترمز إلى أشياء بعينها. هناك شجرة في اليمين، ومستوى مرتفع في المنتصف يمثل مكان الحاكم، وستارة خلفية شفافة يقبع خلفها الرجل والمرأة وبجوارهما ما يشبه بحيرة ماء. والملابس كلها متشابهة وبلون واحد، لا تمييز بين شخص وآخر. ربما بعض التفاصيل البسيطة، تفرق بين الرجال والنساء، وكذلك بعض التفاصيل في ملابس الحاكم التي تقيه برودة الجو، وتميزه عن الآخرين، وتشير إلى استئثاره بأشياء لا ينعم بها غيره.

الأداء الحركي الذي صممه محمد ميزو لعب أيضاً على فكرة الرمز، ساعياً إلى إقامة معنى أو دلالة، في توافق واضح يعكس فترة التدريب التي خضع لها الممثلون، حيث بدا الجميع كتلة واحدة متجانسة، يؤدون في تناسق وانسجام.

كذلك فقد لعبت الإضاءة التي صممها إبراهيم الفرن بتعدد ألوانها ومصادر إسقاطها، دوراً حيوياً في تجسيد حالات الصراع والحب والمؤامرة وغيرها، وكانت واحداً من العناصر التي أسهمت في التشكيل الجمالي للعرض.

موسيقى العرض وضعها محمد شحاتة، وكتب الأشعار محمد مخيمر، وجاء الغناء بنزعته الصوفية كـ"بطانة" لأسئلة العرض، وعاملاً مساعداً في تكثيفها بكل ما يحمله من شجن وأسى.

إن الإنسان، كما جسده العرض، يعيش في هذا القاع غريباً وحزيناً، ومرتكباً للخطايا، إن مدفوعاً إليها على غير إرادته، وإن مجبولاً عليها بحكم طبيعته. وهو تتقاذفه الأسئلة حول تلك القوى الخفية التي تتحكم في مصيره، وهل هي موجودة حقاً، وإذا كانت موجودة فلماذا لا تستجيب لنداءاته وتخلصه من الآلام التي يعيشها، وتنقذه من سطوة السلطة وتسلطها وقهرها؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عرض "قاع" تكاملت عناصره، وتضافرت في تقديم صورة مسرحية اتخذت من الخيال معيناً لها، فلم يخذلها خيالها، واستجاب لها في ما يشبه الحلم، الذي تحرك على قدمين فوق خشبة المسرح، مانحاً كل هذه الطاقة، وطارحاً كل هذه الأسئلة الوجودية، ومبشراً بمجموعة من الممثلين الموهوبين الذين لم يخذلوا مخرجهم في أولى تجاربهم معه. وهو أيضاً لم يخذلهم عندما راهن عليهم وأصر على تقديم عرض مختلف ومدهش، وألزم نفسه بما لا يلزم، في تحد خطير، فنياً وتقنياً، تجاوزه بنجاح.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة