Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تشريح جثة الصحوة

عاشت السعودية تجربة حضارية هائلة كان لا بد معها أن تجد هذه الظاهرة حيزاً تتكاثر فيه لبضعة عقود ثم تنتهي

أميركية في إحدى الأسواق الشعبية بمدينة الرياض السعودية في السبعينيات الميلادية (خوان دي أونس)

لقد قيل كل ما يمكن أن يقال عن الظاهرة التي تسمى "الصحوة"، غير أن كل ما قيل لا يزال بعيداً عن الإجماع العلميّ، والمنهجية البحثية، والنظرة الشاملة لهذه الظاهرة من زواياها المتعددة. هذا الخلل مردّه إلى التعقيدات المحيطة بهذه الظاهرة الاجتماعية، غير الفريدة، والتي تكررت بمستويات مختلفة من التأثير في مجتمعات أخرى بما يتسق مع ثقافتها. التعقيدات لها جانبها السياسي، بحكم أن ظاهرة الصحوة في السعودية على امتداد عقودها الثلاثة أو الأربعة مرت بمراحل كانت فيها على وفاق مع السياسة السعودية يصل إلى حد التحالف، ثم اختلاف معها يصل إلى حد القطيعة والعداء المعلن. مما ألغز بعض الشيء على الذين يفضلون اتخاذ موقف مريح بناءً على وجهة النظر الحكومية. والحقيقة أن الصحوة عندما ولدت لم تكن هي عندما ماتت، ولا هي عندما ترعرعت وشبت واشتدت ووهنت وتراجعت ومرضت. وفي كل مرحلة من تلك المراحل كانت تفاعلاتها مع الواقع مرهونة بعشرات العوامل المتغيرة أيضاً. وهكذا اختلفت المخرجات، فاختلف التعامل الحكومي مع هذه الظاهرة حسب ما تنتجه من تأثير إيجابي أو سلبي على المجتمع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وللصحوة أيضاً جانب اقتصادي تواكب مع التسارع الكبير في النمو الاقتصادي الذي حققته السعودية منذ نهاية الستينيات، حيث تضاعف دخلها القوميّ أضعافاً مضاعفة فيما اصطلح على تعريفه بمرحلة "الطفرة".  خلقت هذه الطفرة طبقات اجتماعية متفاوتة في الثراء بشكل سريع جداً. وهو الأمر الذي أنتج معه أنساقاً ثقافية واجتماعية وسلوكية متعددة كان بعضها صارخاً ومستفزاً لثقافة المجتمع. وكان لا بد أن ينتج بموازاتها ردة فعل بوليتارية تحاول أن تعبّر عن عدم رضاها عن تعاظم الفوارق الاقتصادية بين الطبقات. وقد كانت الصحوة قادرة على التعبير عن هذه المشاعر بصبغة دينية تُنكِر على الأغنياء والميسورين الذين أنجبتهم الطفرة، وتخفف عن الفقراء ومحدودي الدخل الذين تجاوزتهم. جاء هذا التعبير على شكل مدرسة وعظية تشنع بكل ما هو مادّي ودنيويّ، وتقدس كل ما هو ديني وآخروي. ورغم كون مثل هذه المواعظ تقليدية ومعتادة في التراث الإسلامي فإنها استفحلت في مراحل الصحوة حتى تحولت إلى عداء لثقافة الحياة وتمجيد لثقافة الموت. وفي سياق سلوكي يوميّ، منحت بعض أدوات الصحوة سلطة مباشرة لإنسان الطبقة الكادحة على إنسان الطبقة المرفهة، عبّر عنها بشكل يوميّ في الشارع، إذ يوبخ الأول منهما الأخير ويضربه ويعتقله بحماس، يتجاوز حدود الأمر بالمعروف والنهي على المنكر.

وللصحوة أيضاً جانب أنثربولوجي، وهو جانبها الأهم. فالنظرية الأنثربولوجية تكاد تكون الأقدر على تشريح جثة الصحوة وكشف أسرارها. ذلك أن الصحوة كانت سلوكاً جمعياً انتعش في مرحلة حضارية كان فيها المجتمع على استعداد لاعتناقها. وبمعنى آخر، نستطيع أن نقول إن المراهقة الجمعية للمجتمع السعودي اعتنقت الصحوة بوصفها سلوكاً مباشراً بسيطاً للمثالية والعدالة والحق، مثلما أن النضج الجمعي للمجتمع السعودي طرح عنه الصحوة بوصفها سلوكاً حماسياً غير منضبط وبلا قوام فكريّ رصين يمكنه من التمدد والإقناع والاستمرار. وهكذا عاشت الصحوة عندما توفرت لها مقومات الحياة. وماتت عندما توقف المجتمع عن إمدادها بما تحتاجه من الدوغمائية والتسطيح والمثالية الساذجة والنقائية.  

الصحوة، بكل تفاعلاتها وامتداداتها في المجتمع السعودي، لم تكن بالضرورة عنصر تقدم أو تأخر. ربما أن بعض جوانبها أدى إلى تعطيل تنمويّ معين أو تقاعس حقوقيّ أو تفريط ثقافي أو تسطيح معرفي أو مظالم متعددة. ولكن مثل هذه الذنوب والآثام هي ذنوب المراهقين وآثامهم. أما الصحوة نفسها فهي ليست محورية إلى الحد الذي يحدد مصير أمة، وإلا لما كان الفكاك منها ممكناً. لقد عاشت السعودية تجربة حضارية هائلة كان لا بد معها من ظاهرة كالصحوة أن تجد حيزاً تتكاثر فيه لبضعة عقود ثم تنتهي. وهذا ما حدث. والصحويون كانوا جزءاً من نظام بيئي أكبر. انفعلوا به ولم يُفعِّلوه. والصحوة هي التي صنعتهم ولم يصنعوها. فلا هي بمؤامرة ولا هي بمنظمة سرية ولا علنية. ولا أظنها ترقى إلى مستوى أن تكون أيديولوجيا مستقلة. لقد كانت سلوكاً فقط. والسلوك له دوافع. والدوافع تغيرت مع نضج المجتمع.  

اقرأ المزيد

المزيد من آراء