Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الروائي الأميركي بول بيتي يدافع عن البشرة السوداء عبثيا

"سلامبرلاند" مقاربة جديدة لمسألة العنصرية من وجهة نظر التطرف في التربية والانطواء على الذات

الروائي الأميركي بول بيتي (غيتي)

يختار الروائي الأميركي بول بيتي (1962) في روايته المترجمة، والصادرة عن منشورات الجمل، بعنوان "سلامبرلاند" (2021) التطرق إلى القضية نفسها التي صنعت صيته بل شهرته الواسعة في الأوساط الأدبية الأميركية، والتي جعلته يحوز أكثر من جائزة (بوكر 2016)، عنيت قضية الزنوجة والتمييز العنصري حيال ذوي البشرة السوداء في أميركا، ولكن هذه المرة من منظار راو منسق للموسيقى أميركي أسود، يدعى "فيرغسون". وهو كان سافر إلى ألمانيا أواخر الثمانينيات عام 1989، من القرن العشرين، وتحديداً، في الفترة التي سبقت انهيار جدار برلين، وراح يجوب مقاطعاتها مؤدياً الموسيقى الأفرو-أميركية، وساعياً في إثر "ذا شوا" وهو الموسيقي العظيم المختفي.

ولكن، قبل المضي في بسط الحكاية الرئيسة التي تدور أحداث الرواية حولها، لا بد من الإشارة الى النبرة العامة التي تميز كتابة الروائي بعامة، وكتابته هذه الرواية بصورة خاصة، نبرة التهكم الذكي التي تلازم كل مفصل ومشهد وفصل وقسم من الأقسام الأربعة التي تتشكل منها الرواية ("الذين يحكون ذقونهم"، و"ألمانيا فوق كل شيء"، و"روح العرق الأسود"، و"تجربة الاستماع"). بل لا مبالغة في القول، إن الروائي بول بيتي بات كاتب التهكم الأشهر في الولايات المتحدة الأميركية، لا سيما بعد نيله جائزة البوكر (عام 2016) عن كتابه الأخير "أنا ضد الولايات المتحدة الأميركية"، وهي مقاربة أخرى لمسألة العنصرية من وجهة نظر التطرف في التربية والانطواء على الذات، داخل مجتمع متعدد وقامع لعنصرياته.

إذاً، تنطوي رواية "سلامبرلاند" على حبكة قصصية رئيسة بطلها منسق الموسيقى الأميركي الأسود "فيرغسون"، والتي مفادها أن الأخير إذ يسافر إلى ألمانيا، أواخر الثمانينيات من القرن العشرين، أي خلال السنة التي تشهد سقوط جدار برلين، وانهيار الاتحاد السوفياتي بالتزامن معه، يباشر حرفته كمؤلف موسيقي موهوب، إلا أن نظرة المجتمع الألماني الدونية حياله تضطره إلى اتخاذ حرفة المنسق الموسيقي، وإقامة الحفلات في أماكن عديدة من برلين، وفي مدن ألمانية أخرى، في زمن سابق لانهيار جدار برلين بقليل.

وفي هذه الأثناء، يتعرف منسق الموسيقى فيرغسون إلى أنماط من الشخصيات، ويقيم علاقات جنسية مع دوريس الألمانية البيضاء، فيستخلص منها جميعاً أن ثمة ثوابت أو أفكاراً مسبقة ما برحت تحكم نظرة الألماني، سواء أكان غربياً منتمياً إلى النظام الرأسمالي الاستهلاكي، أو شرقياً منتمياً إلى النظام الاشتراكي، في حينه، ذي النظرة الطبقية المعروفة؛ وهي أفكار تنم عن عنصرية الرجل الألماني الأبيض المتعالي، وكلي الاقتدار والذكاء، والممتلئ بذاته والمنحرف جنسياً، بحسب الراوي.  

نزعات صادمة

ولكن، ما أن يسقط جدار برلين، خلال وجود فيرغسون في المدينة، تنقلب الأمور والمشاهد، وتستيقظ كل النزعات الفنية الصادمة، لا سيما "الموسيقى السوداء". وما هي إلا أيام، حتى يزداد الطلب على منسق الموسيقى فيرغسون، وتتضاعف معه رغبته في لقاء أسطورة الموسيقى المختفي "ذا شوا"، أو تشارلز ستون، من أجل أن يعيدا بناء جدار آخر، بديل عن الجدار الحجري الذي كان يفصل شطري مدينة برلين، عنيت جداراً من الفن والموسيقى الصاخبة.

وبالفعل، يلتقي منسق الموسيقى فيرغسون، بعد جهد جهيد، "ذا شوا"، بل تشاء الأقدار وأحوال المجتمع الألماني المضطربة، بعيد سقوط جدار برلين، أن يجتمع فيرغسون بـ"ذا شوا" من أجل أن يبنيا جداراً فنياً وموسيقياً. وقد تحقق لهما ذلك، إذ لبى العشرات بل المئات من الفنانين، والرسامين، والشعراء، دعوة "ذا شوا"، وصنعوا بلوحاتهم وأعمالهم التزيينية، من شوارع برلين وساحاتها جداراً موسيقياً باعثاً على الثورة، زاده حدة العزف المنفرد الذي قام به "ذا شوا"، يرافقه منسق الموسيقى فيرغسون.

تبرز مسألة التمييز العنصري ضد الأفراد من ذوي العرق الأسود، والتي قد تؤدي بالبعض إلى الانتحار تعبيراً عن رفضهم الإذلال اليومي بفعل الجدران الموضوعة سلفاً بينهم وبين المجتمع الألماني، لأواخر الثمانينيات من القرن العشرين، على نحو ما فعلت "فاطمة" صديقة "ذا شوا" الموسيقي الأسود الباهر، إذ أحرقت نفسها أمام رجال الشرطة في برلين. فضلاً عن اكتشافه عودة النازية إلى الحياة، من خلال الشعارات التي جعل يخطها طفل ألماني، أبيض البشرة، على أحد جدران برلين. بل الحق يقال، إنها القضية المحورية التي يكرس لها الروائي كل أعماله، ومنها هذه الرواية، ولكن من خلال حبكة مرتبطة بالفن الأفرو-أميركي بصورة أساسية.

دور الفن

كما أن فيها مسألة فرعية، يعالجها الروائي بول بيتي، وهي دور الفن، لا سيما الموسيقى في التمرد على الحدود والجدران التي يصطنعها العالم الغربي الحديث بين الشعوب والأعراق والاتجاهات السياسية، والبشرات، واللغات، والحساسيات، والأذواق. ويورد الروائي دليلاً على ذلك، صلته بل علاقته الجنسية بالمرأة دوريس، التي لم ترق إلى مصاف الحب، بسبب الاختلافات في الحساسية، والنظرة إلى الجنس نفسه، وطرائق العناية بالجسم، وغيرها، بينها وبين الراوي "فيرغسون"، في حين كان اتفاقهما بيناً في ما خص مكانة الموسيقى السوداء وقيمتها الفنية ودورها في تحفيز الإبداع والتعبير عن المظالم التي عانى منها الشعب الأفرو- أميركي والمهاجرون السود إلى أوروبا، على حد سواء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما المسألة الأخرى، وليست الأخيرة، فهي صياغة الرواية على النبرة التهكمية التي سلف الكلام عليها، وهذا الكم الكبير من المعارف الموسوعية في الموسيقى بعامة، وموسيقى الجاز، والفرق الناشطة في كل من أميركا وأوروبا، وتضمينها الأصوات المتعددة في الرواية، واللعب على مستويات اللغة السردية، وتوشيحها بالشعر الذي كان الروائي قد بدأ مسيرته الأدبية به. وفي هذا السياق، كان يمكن للترجمة أن تواكب الانتقال السلس إلى كل مستوى، ونقل جو التهكم المتواصل، لولا الاكتفاء بالنقل الأمين. وأياً يكن الأمر، فإن الرواية تعيد طرح مسألة إنسانية يستوجب انتزاعها من النفوس، بغض النظر عن الزمن.

وبالعودة إلى الروائي بول بيتي، فقد بدأ مساره الأدبي شاعراً، نشر ثلاث مجموعات شعرية، على امتداد التسعينيات من القرن العشرين، بل كانت لديه برامج لإلقاء الشعر في المحطات التلفزيونية وغيرها. كما حرر أنطولوجيا الأدب الفكاهي الأفريقي- الأميركي في عام 2006. أما الروايات الصادرة له فقد بلغت الأربع، وهي "مراوغة الولد الأبيض (1996)، والحجر البركاني (2000)، وسلامبرلاند (2008)، والخائن (2016)". وهذه الرواية الأخيرة نال عليها جائزة حلقة نقاد الكتب الوطنية الأميركية، وجائزة مان بوكر.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة