من المؤكد أنه ليس هناك بين هواة السينما الحقيقية من لم يشاهد فيلم "بوني إند كلاي" للمخرج آرثر بن ولو مرة واحدة في حياته. فهذا الفيلم الأميركي حتى نخاعه يعتبر من العلامات الكبرى في تاريخ الفن السابع والسينما الهوليوودية تحديداً. بل هو الفيلم– الصرح الذي يجري الحديث عنه بإجماع كلما أتى الحديث على ما يسمى منذ ذلك الحين "هوليوود الجديدة". والغريب أن كل هذا يحيط بالفيلم من دون أن يكون تجديدياً في لغته السينمائية، ومن دون أن يكون فيلماً مؤلفاً، أو حتى واحداً من تلك الأفلام المسيسة إلى حدود التخمة والتي راحت تظهر تباعاً في عام ظهور "بوني إند كلايد" معلنة انخراط السينما الأميركية الأكثر جدية وجدة وجمالاً في اللعبة السياسية من حول صراع الأجيال أو حرب فيتنام، في نوع لمواكبة عالم جديد كان ينبني حديثاً متخلصاً من "براءة" العالم القديم باحثاً عن إفراط في واقعية لا تخجل من أن تكون رومانسية في الوقت نفسه. لم يكن هذا كله واضحاً في فيلم آرثر بن الذي منذ ظهوره خلال عام 1968 وفي عز استشراء حركات الشبيبة العالمية أتى كنوع من الرفد لتلك الحركات من دون أن يدنو من السياسة، مباشرة على الأقل.
عصابات على الطريق
في نهاية الأمر كان "بوني إند كلايد" فيلم عصابات ونوعاً من فيلم الطريق وقصة حب وميداناً لمرح شخصياته من دون أن يكون هدفهم أن يغيروا نظام العالم ولا حتى أن يبدلوا من نظام السينما أو منظومة نجومها. فهو لم يكن من نوعية سينما المؤلف التي كانت على الموضة في السينما الأوروبية، ولا كان فيلم لغة سينمائية جديدة. كل ما في الأمر أنه أراد أن يحكي على الطريقة السينمائية حكاية حقيقية كانت قد شغلت الأميركيين في ثلاثينيات الركود الاقتصادي وتتحدث هنا عن لقاء جرى بين صبية حلوة (بوني) كانت تعاني من الملل في الحياة الروتينية في ريفها التكساسي، وبين شاب وسيم مغامر كان يجوب الآفاق لا يلوي على شيء حتى وقع في الحب. وإذ لم يكن لدى كلايد – هو اسم الشاب - ما يهديه إلى بوني تمخض عقله عن فكرة رآها جيدة: سوف يهديها حياة مليئة بالمغامرات عمادها السطو على المصارف الصغيرة المعزولة في البلدات التكساسية. وهكذا انطلقت حكاية حب رومانسية وحياة مغامرات مسلية وفيلم طريق شيق، من دون أن يدري بطلا المغامرة ومن سار برفقتهما أنهم سائرون إلى مصير قاتل لأن السلطات التي لم تكن بارعة في حراسة المصارف الصغيرة ستتبدى بارعة في مطاردة العاشقين اللصين ورفاقهما.
الجانب الآخر من الحكاية
ولعل الطريف أن هذا الجانب الأخير من الحكاية سيحتاج إلى فيلم آخر يحقق بعد نصف قرن تقريباً ليرينا الوجه الآخر من الحكاية، الوجه الذي لم يرنا "بوني إند كلايد" سوى نتائجه أي انطباق الفخ على الشابين ومقتلهما بمئات الرصاصات التي أطلقت عليهما إثر خيانة في مشهد من أقوى مشاهد القتل في تاريخ السينما. الفيلم الآخر هو "رجل الطريق السريعة" الذي مثل فيه كيفن كوستنر دور الضابط هامر الذي نعرف تاريخياً أنه هو الذي قضى على اللصين الشابين كواجب مؤسساتي ولكن كانتقام شخصي. فهو الذي كنا شاهدناه يهان في "بوني إند كلايد" ويتعرض لسخرية مشاهدي الفيلم، ها هو في الفيلم الجديد يلعب دور البطولة إذ يركز الفيلم على مطاردته لبوني وكلايد وقد أضحيا هنا شخصيتين ثانويتين. ولنذكر قبل أن نطوي هذا الملف الصغير حول الفيلم الجديد الذي يرينا الحكاية من جانبها المقابل، أن شقيقة الضابط الحقيقي هامر كانت أقامت دعوى قضائية على أصحاب فيلم "بوني إند كلايد" تطالبهن فيها بنحو مليوني دولار تعويضاً على تشويههم صورة أخيها فأتى "رجل الطريق السريعة" ليرد له اعتباره، وربما أيضاً ليعلن انتهاء تلك المرحلة "الثورية" التي جعلت من اللصين بطلي مرحلة، وولادة مرحلة جديدة تجعل منهما مجرد لصين!
العوالم الجديدة
في "بوني إند كلايد" ليس بوني وكلايد مجرد لصين بل هما علامة على ولادة عوالم جديدة أقل براءة كما أشرنا. لكن الحكاية حين ولدت على يد صحافيين يعملان في مجلة "إسكواير" كانت مجرد حكاية بسيطة عن فتى وصبية سلكا طريق العصابات من دون تحسب. ولقد وجد الصحافيان الحكاية في أرشيفات مجلتهما عام 1963 ليعلما بعد ذلك أن التلفزة الأميركية كانت قد تناولتها في حلقة وثائقية، كما أن المخرج فريتز لانغ دنا بعض الشيء منها في فيلمه "لي الحق بالحياة". ولقد شجعتهما هذه المعلومات على السفر إلى تكساس حيث راحا يطاردان الحكاية من بلدة إلى أخرى ويكتشفان أشخاصاً يقولون إنهم عايشوا اللصين عن كثب، وما إلى ذلك. وهكذا اكتمل المشروع لكن أياً من الشركات الهوليوودية لم ترغب في إنتاجه وكاد الشابان يطويان مشروعها لولا أن إعجابهما المشترك بفرانسوا تروفو قد عاد إلى ذاكرتهما، وهكذا سلما المشروع، وهو عبارة عن سيناريو يقع في 300 صفحة إلى منتجة صديقة لهما عرفت كيف تترجم النص إلى الفرنسية لترسله إلى تروفو في باريس. والحقيقة أن تروفو أعجب بالمشروع واستغل فرصة لقاء له مع النجم الصاعد آنذاك وارين بيتي ليسلمه النص وينصحه بالحصول على إنتاج للفيلم. وكان ذلك في أواسط عام 1965.
غودار لا يريد الأميركيين
ومنذ تلك اللحظة أو بالأحرى منذ انتهى بيتي من قراءة السيناريو عاد المشروع ليولد من جديد. لكن الأمور لم تكن بالسهولة التي تخيلها بيتي الذي كان قد حقق تحت إدارة إيليا كازان أحد أول وأكبر انتصاراته السينمائية. فهنا مرة أخرى لم يجد منتجاً يرضى بأن يجازف بالإنفاق على فيلم يقتل بطلاه في مشهده الأخير. لكن بيتي لم ييأس بل راح يغري المنتجين واحداً بعد الآخر حيناً بالقول إن دور بوني سيسند إلى ناتالي وود نجمة النجمات حينها، أو أنه سيعمل الفيلم مع أخته شيرلي ماكلين أو حتى مع الفرنسية لسلي كارون. ثم حين وجد أن صبر تروفو قد نفد توجه صوب جان لوك غودار الذي كان اسمه على كل شفة ولسان. لكن هذا رفض العمل مع الأميركيين هو الذي كان حينها في ذروة مرحلته المعادية للأميركيين وللإمبرياليين. وهنا مرة أخرى لم يغز اليأس طموح وارين بيتي الذي تمسك بالمشروع بشكل مدهش إلى درجة أنه حين تناهى إليه أن المنتج جاك وارنر قد يهتم بالمشروع، راح يحاصره ويتزلف إليه بل يقال إنه ذات مرة ارتمى على قدميه مقبلاً حذاءه وكله أمل في أن يرضخ المنتج السبعيني ويمول الفيلم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حسابات وارنر الخطأ
وبالفعل رضخ جاك وارنر لكنه طلب من بيتي أن يكون، بعمله شريكاً في الفيلم بنسبة النصف، وهو واثق من أن هذا سيحمل بيتي نصف الخسائر التي كان يتوقعها. لكنه لم يكن يعرف أنه بذلك الشرط سيجعل بيتي يكسب عدة ملايين مقابل عمله في الفيلم. وفي النهاية تمكن بيتي، بصفته شريكاً هذه المرة من أن يفرض لبطولة الفيلم ممثلة حسناء شابة كان اكتشفها على الخشبة في برودواي. تعاقد معها على دور بوني مقابل ألف دولار رضيت بها فرحة غير عارفة في تلك اللحظة أنها ستدخل تاريخ السينما من الباب العريض وفي جيبها ألف دولار لا غير. كان اسم الفتاة فاي دانواي... وهي الفنانة التي ستصل مع فيلم "بوني إند كلايد" إلى ذروة النجومية محققة ما لم تكن تحلم به على أي حال.
لو كان يعرف!
في النهاية ولد الفيلم بنجمة جديدة ومخرج (آرثر بن) بالكاد كان يريده أحد وبسيناريو (تبدل كثيراً بعد ذلك)، ليحقق من الإيرادات ما أذهل منتجه جاك وارنر نفسه، وربما جعله يندم على إدخاله وارين بيتي شريكاً. فلو كان وارنر يعرف مسبقاً النجاح الهائل الذي سيحققه الفيلم، لكان من شأنه أن يدفع لبيتي بضع عشرات الألوف من الدولارات بدلاً من الملايين العديدة التي كسبها هذا الأخير من فيلم كان كل ما فيه ينبئ بفشل ذريع. لكنه انتهى بنجاح حوله إلى واحد من أكثر الأفلام ربحاً مادياً في ذلك العام، كما إلى ظاهرة اجتماعية استثنائية!