Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إبراهيم نصر الله يتجول بين الافتراضي والواقعي في زمن كورونا

"مأساة كاتب القصة القصيرة" رواية تكشف هشاشة الإنسان أمام تناقضات العالم

الشاعر والروائي إبراهيم نصرالله (صفحة الكاتب على فيسبوك)

يبدأ السرد في رواية الشاعر إبراهيم نصر الله "مأساة كاتب القصة القصيرة" (دار "مكتبة تنمية" و"الدار العربية للعلوم") مخلصاً للحظة الراهنة ومجسداً الواقع المعيش بوجهيه الواقعي والافتراضي في آن. فبينما انطلقت الأحداث برسالة من معجبة على "فيسبوك"، انتهج الكاتب مسلكاً موازياً، جسد عبره الواقع الحقيقي المأزوم بوباء كورونا، وما تبعه من هموم ومآس، وحدت بين البشر في شتى بقاع الأرض رغم اختلافاتهم، في تجلٍ ملموس من تجليات العولمة. وقد أكد الكاتب هذه الفكرة بتأخير الإفصاح عن الفضاء المكاني للسرد، حيث بدا الواقع مألوفاً في كل منطقة من العالم العربي، حتى حدد، أخيراً، أن عمان هي مربع الأحداث. ثم راح يراوح بين كلا الواقعين ليأتي بكل منهما تارة في صدارة المشهد وتارة أخرى في الخلفية.

وإمعاناً في واقعية السرد انتهج الكاتب أسلوباً من السرد الذاتي، وجعل شخصيته المحورية كاتباً للقصة القصيرة، ما يدفع القارئ للاعتقاد بأنه إزاء سيرة حقيقية تحكي يوميات كاتبها، لا سيما وأنه تعمد إرجاء الكشف عن اسم بطل العمل "فريد" حتى مرحلة متقدمة من السرد. واستخدم أسلوب الخطاب المباشر للقارئ لخلق حالة من القرب النفسي؛ عززها بأسلوب السرد الذاتي. كما أنه تعمد الإشارة إلى إغفاله بعض الأسماء كي لا يستدل على أصحابها وفقاً لما ذكره الراوي... "لا أريد أن أشير إلى اسمها حتى لا أشغل بال القارئات والقراء بالبحث عن مُعجَبتي الأثيرة في صفحات الفيسبوك" صـ 15.

الولع بالقصة القصيرة

بدأت رحلة السرد بإعلان الكاتب ولعاً بفن القصة القصيرة؛ مرة عبر ذكر ذلك صراحة، وعبر استدعاء عناوين أهم وأشهر القصص القصيرة مثل "بيت من لحم" ليوسف إدريس، "الدانوب الرمادي" لغادة السمان، "قطرة ماء تصعد الدرج" لدينو بوزاتي، ومرة أخرى عبر تقسيم روايته إلى مجموعة من القصص/ الفصول: "قصة أولى، قصة محذوفة، قصة ثانية، قصة ثالثة، قصة رابعة". وبينما توالت القصص، اندفعت بينها قصة دخيلة؛ وظفها نصر الله داخل بنائه الروائي – رغم بُعدها عن سياق الأحداث - ليزاوج بين أكثر من جنس أدبي في نسيج واحد، لا سيما أنه لجأ أيضاً إلى الشعر وأفسح له موضعاً داخل البناء.

كانت "قصة المربع" الشرارة الأولى التي حركت الأحداث، وخلقت مساحة شعورية كثيفة تجاه المعجبة الافتراضية، بعد أن أرسلت دراسة فذة حول تلك القصة. وكانت فكرة الأشكال والخطوط؛ "المربع والدائرة"، وسيلة الكاتب لخلق دلالات نفسية عن الشخوص؛ أبرز عبرها بعض التناقضات. فالمربع يوحي بالوضوح والأمان والاطمئنان، بينما الدائرة- كما رآها الكاتب- تحمل قدراً من الغموض والتيه والالتباس.

وبينما كانت الحبيبة الافتراضية تماثل المربع وتدرك منه الأثر نفسه، كان للدائرة أيضاً من يماثلها، إذ فاجأنا الكاتب بحبيبة أخرى تحمل علاقته معها غموض الدائرة ومعاناتها. لكنه في كلتا القصتين احتفظ بتعاطف القارئ مع شخصيته المحورية مؤكداً حقاً غير معلن في التمسك أو الانصراف، عن هذه أو تلك ما دامت العلاقة في قبضة الانتظار أو القلق.

واصل نصر الله سرده في نسق أفقي دافعاً بالأحداث إلى الأمام. تتوارى الحبيبتان بعض الوقت لتفسح المشهد للوباء وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية. ويبرز الاتجاه إلى العزلة داخل المربعات الآمنة؛ خوفاً من العدوى فتظهر هشاشة الإنسان، واختلاف رؤيته للعالم بعد تفشي الجائحة عما قبلها.

تتجلى بعض المفارقات الزمنية بحيث يمنح الكاتب للذاكرة فرصة العودة إلى الخلف، عبر ومضات من التذكر، كي يستعيد خلالها بعض صباه وعلاقته بأخيه الأصغر، وكذا حبيبة قديمة سئمت انتظاره في مقهى فوق الجبل، فغادرت. وربما كانت قصة الحبيبة القديمة أحد تجليات الرمز، الذي بدا حضوره كثيفاً داخل البناء الروائي. فلا بد أن انتظار الحبيبة كان أطول من سويعات في مقهى. وربما كان الجبل رمزاً لصعوبة الطريق. ولا بد أنها غادرت بعد يأس وخوف من غروب العمر. وهذه هي غاية الكاتب التي استخدم لأجلها الرمز، بهدف حث القارئ على الإبحار في أعماق النص والمشاركة في إنتاج المعنى. فضلاً عن كونه وسيلة ناجزة لاختزال الأحداث على نحو يزيد من قوة البناء وتماسكه.

استدعاء التراث

على مدار رحلة السرد التي امتدت لما يقرب من مئتي صفحة، اعتمد الكاتب تقنية التكرار لتمرير دستوره الخاص للحقوق الإنسانية، تلك التي سقطت من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، فكرر عبارة "لكل إنسان الحق في..."، وربما كان اعتماده هذه التقنية ليس رغبة في تأكيد ضرورة الاحتفاظ بمثل تلك الحقوق وحسب، وإنما تأكيداً لغيابها عن الواقع المعيش.

ومثلما مزجَ نصر الله بين الأجناس الأدبية في نسيجه الروائي، فإنه فعل الشيء نفسه بين آليات السرد، فبدا تأثره بالموروث عبر ما اعتمده من تناص مع النص الديني وما استدعاه من المأثور من التراث العربي، ثم اعتماده نهج الحداثة عبر استخدامه فكرتي المربع والدائرة وتوظيف مدلولاتهما النفسية. وإن كان حتى في استخدامه هذا النهج؛ لم يتحلل من التأثر بالمعاني والدلالات المتوارثة في المعاجم العربية. ويبدو الكاتب عبر هذا المزج متمرداً على التصنيف والتجنيس، ومعلناً اتساقاً مع الواقع الذي يشهد اختلاطاً للمتناقضات. وكذلك يمرر في الوقت نفسه مذهبه الذي يُعلي من الولاء للمتعة دون غيرها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وخلافاً لما استدعاه من شعر صريح، بدت لغته شعرية شديدة العذوبة ومفعمة بالمشاعر، تناثرت في طياتها وعبر مساحات الحوار؛ بعض اللهجة العامية، التي أنعشت النسيج وزادت من جاذبيته. وقد عزز هذه الجاذبية باستدعاء مساحات من السخرية، تحفز الضحك على أشد الأمور مأساوية... "صاحب نظرية الكورونا ستختفي بفضل ارتفاع حرارة الصيف، هو نفسه صاحب نظرية الحذاء الضيق الذي سيرتخي جلده بعد استخدامه" صـ 88.

التناظر والتقابل

اعتمد نصر الله أسلوب التناظر والتزامن في غير موضع من النسيج، فظهور المرأة الدائرية الرهيفة في عالم الراوي؛ يزامنه إزهار نبتة الزنبق في الأصيص، بعد أن شارفت على الموت. بينما غيابها يزامن عودة النبتة للموت والجفاف. ويشي هذا التناظر بين المرأة الدائرية ونبتة الزنبق بعمق احتياج الراوي للحب، وأثره في إزهار روحه وإحيائها، والمعاناة التي يسببها كل ما هو دائري. كذلك أبرز تناظراً بين حال الكلب الغريب المشرد وحال مشرد ضمني لم يسمح له إلا بحضور مستتر... "بدأت أتابع بفرح أحداث علاقة جميلة باتت تتكون بين كلب الدوار والكلاب الصغيرة المرفهة الجميلة، بعد أن اطمأن أصحابها إلى أن ذلك الكلب المشرد غير مؤذ، وأنه فعلاً بحاجة ليس للأكل فقط، بل للهو، هو الذي وجد نفسه وحيداً" صـ 98.

وفي مواضع أخرى أبرز تقابلاً بين بعض المتناقضات، كحال الدائرة "القاتلة" والمربع "الآمن"، والحبيبة الافتراضية والأخرى الواقعية، ومرر العديد من المفارقات. فصاحب العمل الذي سرحه نتيجة كساد سببه الوباء؛ يموت جراء الوباء نفسه، ولا يستطيع أن يشهر إصبعاً في وجه الموت؛ هو الذي أشهر أصابعه في وجه الحياة. كما أن نهاية الرواية تعد مفارقة في ذاتها. فالراوي الذي يمل الإجراءات الاحترازية ويدفعه اليأس وعبثية الحياة إلى اقتراف بعض اللامبالاة؛ يجد نفسه في مواجهة الموت دون تدخل من الفيروس، إذ كان الفاعل نوبة قلبية وضعته في منطقة وسطى بين الحياة والموت، يختلط فيها الواقع بالوهم، ويختلط بهما بعض الأمل، الذي يزهر مع تحرر المرأة الرهيفة من قيودها "الدوائر والخطوط"، لتخطو، أخيراً، باتجاهه، تسأله الغناء. لكن الكاتب يترك القرار للقارئ في أن يسمح له بالغناء أو لا يسمح، ويترك قراراً آخر للحياة تتخذه بشأن النجاة وموعد انقضاء الوباء.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة