Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لم تتورط بريطانيا بعد في حرب ثقافية على الطريقة الأميركية

باعتباري عشت واشتغلت في الولايات المتحدة، فإنني أرتجف لدى التفكير بأن هذه الظاهرة المدمرة يجب أن تنتقل إلى هنا أو أنها قد فعلت ذلك سلفاً

 احتجاجات "حياة السود تهم" نُظمت في أنحاء المملكة المتحدة في صيف 2020 (رويترز)

إن الموضوعات التي سادت نقاشات الناس خلال السنة التي تفشت فيها الجائحة حافلة بالدلالات شأنها شأن تلك التي كان يمكنها أن تهيمن على النقاشات بيد أنها لم تفعل، أياً كان سبب ذلك.

 كان أحد هذه الموضوعات إنجلترا. ولنا أن نتساءل، هل كانت هناك أي إشارة إلى ما يسمى القضية الإنجليزية، وسط كل التكهنات المسبقة باحتمال تفكك المملكة المتحدة، وهي عملية بدت وكأنها كانت تمضي بوتيرة متسارعة في الوقت الذي اتبعت فيه كل من اسكتلندا وويلز وإيرلندا الشمالية سياستها المختلفة حيال كوفيد؟ 

صحيح أن رئيس الوزراء ووزير الصحة والمستشارين الذين قدموا لهما المشورة، قد أدلوا بتصريحات من على منصة رُفعت عليها أعلام المملكة المتحدة، بيد أنه من الصحيح أيضاً أن صلاحياتهم المتعلقة بمعظم القضايا الصحية كانت سارية ضمن حدود إنجلترا فحسب وكلمتهم لا تُسمع في الأجزاء الثلاثة الأخرى للمملكة المتحدة. وهل كان هناك أي حديث عن تسوية دستورية جديدة، أو وهل تحدث أحد باسم إنجلترا تحديداً؟ لم يكن هناك أي شيء من هذا القبيل، تقريباً.

والأمر الآخر، هو غياب أي معارضة لحركة "حياة السود تهم" وكل ما أفرزته بشكل مفاجئ. وكانت هناك مسيرة احتجاجية ضخمة في لندن خلال الإغلاق لم تتخذ الشرطة حيالها سوى إجراءات خفيفة لحفظ الأمن. 

ومع أنه من المفترض أن عناصر شرطة العاصمة لندن غير مسيسين، كنجوم الرياضة، فقد جثوا على ركبة واحدة. وتم تشويه التماثيل، بل إن بعضها قد أُسقط. وعمدت كل مؤسسة يخطر اسمها على البال إلى التنقيب في أرشيفها الخاص عن أدلة على جني أرباح بطرق غير أخلاقية، مؤكدة أنها ستكفر عن ذنوبها تلك في حال عثرت على أي دليل على حصول ذلك. وشرع العالم الأكاديمي "بتحرير" المناهج من أي صبغة استعمارية. وأعلن عمدة لندن عن تشكيل لجنة لمراجعة كل شيء من التماثيل والنُصب إلى أسماء الشوارع. 

وتحمل الجمهور البريطاني العظيم كل هذا برحابة صدر، أو بدا وكأنه فعل ذلك. وكانت الاحتجاجات المعارضة في حدها الأدنى، باستثناء أحدها الذي شهد مشاركة مجموعات من اليمين المتطرف، وتم تفريقه من قبل الشرطة. وكانت الجائحة في تلك الفترة تستقطب جل الاهتمام، فيما "خدمة الصحة الوطنية" (أن أتش أس) تعمل بأقصى طاقتها ومئات الناس يموتون، من دون أن تتمكن الحكومة بعد من السيطرة على الوضع.

ولكن مع ذلك، كان من اللافت للنظر المدى الذي بلغه على حين غرة أسلوب قياس التداخل بين العلاقات الاجتماعية في هذه البلاد وبين التاريخ، بمقياس الصراع الثقافي الأميركي، والأكثر من ذلك مدى جهل الآخرين بحصول ذلك وعدم ملاحظة القاعدة الشعبية كم هو مهم.

وبدا أن الاعتراضات الوحيدة، كانت تأتي من جانب الاشخاص الذين يشتبه فيهم عادة باتخاذ مواقف رافضة للرأي السائد، بيد أنهم كانوا أفراداً وليس جماعات. هكذا بقيت المعارضة فردية من دون أن يتسع نطاقها ليأخذ طابع المراجعة الشاملة، كما لم يكن هناك دفاع عما تربى معظم الناس على رؤيته كتراث لهم، ما خلا بضع كلمات أطلقها بوريس جونسون لتأييد بطله ونستون تشرشل، إلى جانب عبارات مستمدة من الحس السليم حيال التاريخ. فقد غرد قائلاً: "لا نستطيع الآن أن نحاول فرض الرقابة على ماضينا أو تعديله.. ولا يمكننا ادعاء أننا نحوز تاريخاً آخر". 

أما بالنسبة للآخرين، فكان هناك صمت مطبق. أم كانت هناك أصوات؟ وإذا كان هناك صمت، فماذا يعني ذلك؟ وبعد مضي نحو عام تقريباً على وفاة جورج فلويد، بدأ بعض النقاش فجأة حول الأمر، غير أنه لا يزال حتى الآن محصوراً في مجالات محددة هي الجامعات وشركات استطلاعات الرأي فضلاً عن وسائل الإعلام. 

 والسؤال المحوري الذي يطرح نفسه هنا هو ما إذا باتت هذه البلاد متورطة في حرب ثقافية كتلك التي تعصف بالولايات المتحدة، فيما انقسم الناس إلى فريق ممن يُفترض فيهم أنهم مستنيرون ويدركون كل أنواع المظالم، والعرقية منها على وجه الخصوص، في جانب، وفي المقابل هؤلاء الذين ليسوا على علم بهذه المظالم، كي نصف هذا الفريق باعتدال، في الجانب الآخر. 

 أما في الولايات المتحدة، فإن التقسيم على هذه الشاكلة، ليس جديداً. وقد تجلى في الشرخ بين أولئك الأكثر حضرية والأفضل تعليماً من جهة، وناخبي ترمب من جهة أخرى، ومن ثم في طفرة الدعم لحملة "حياة السود تهم" في أعقاب مقتل جورج فلويد. إلا أن ذلك كان بمثابة تنويعات على صراع أساسي تشهده البلاد منذ ستينيات القرن الماضي. والكلمة التي تُستخدم حالياً لتوصيف "المستنير" هي "يَقِظ".

 وباعتباري قد عشت واشتغلت في الولايات المتحدة، فإنني أرتجف لدى التفكير بأن هذه الظاهرة المدمرة يجب أن تنتقل إلى هنا، أو أنها قد فعلت ذلك سلفاً. إن العلاقات الاجتماعية، والعرقية، وعمل الشرطة لجهة حفظ الأمن، والتاريخ، في الواقع، كلها مختلفة للغاية لدينا عن نظيراتها الأميركية. والإلحاح، كما يفعل العديد من مؤيدي حركة "حياة السود تهم"، أن العلل التي يعاني منها البلدان هي أيضاً نفسها، هو مضلل بشكل خطير وخطأ تماماً، في رأي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 ثمة دراستان، تستند إحداهما إلى استقصاء مفصل للرأي أجرته شركة "يو غوف" في الدوائر الانتخابية التي كانت تعتبر معاقل حزب العمال التقليدية المسماة "الجدار الأحمر" في إنجلترا. أما الثانية، التي أُطلق عليها "حروب ثقافية في المملكة المتحدة" وتعاونت شركة إيبسو- موري لاستطلاعات الرأي مع جامعة كينغ كوليج لندن، على إعدادها، فهي تقدم لمحات ساحرة عن حالة الرأي العام في المملكة المتحدة خلال العام الماضي، وتخلُص إلى النتائج نفسها التي انتهت إليها الدراسة الأولى حول بعض النقاط. 

 هكذا تتفق الدراستان، مثلاً، على أن الحديث عن حرب ثقافية على غرار الحرب الأميركية المماثلة، مبالغ فيه. كما أنهما تجدان أن الآراء في أنحاء البلاد أكثر انسجاماً مع بعضها بعضاً مما يقدره الآخرون. ويتضح، على سبيل المثال، أن مواقف ناخبي "الجدار الأحمر" بشأن قضايا اجتماعية تشبه إلى حد بعيد مواقف البريطانيين في طول البلاد وعرضها، أي أن هؤلاء الذين تربوا في كنف اليسار ليسوا أكثر تحفظاً أو أقل تسامحاً بما يخصّ الفروق العرقية من غيرهم من البريطانيين. 

ووجد البرنامج البحثي لدى كينغ كوليج لندن أن هناك فكرة غائمة بعض الشيء، هذا إن وجدت أي فكرة على الإطلاق، لدى غالبية كبيرة من الناس حول العديد من المفاهيم والمصطلحات ذات العلاقة بـ"الحروب الثقافية"، وقليل من المشاعر القوية سلباً أو إيجاباً بشأن كثير من القضايا المعنية والقياسية.

وحتى أولئك الذين اعتادوا للغاية سماع كلمة "يَقظْ"، ويمثلون 50 في المئة من المشاركين، فإنهم غير قادرين تماماً على الجزم بأن دلالاتها إيجابية أو سلبية. وبعبارات أخرى، "الحرب الثقافية" والمخاوف التي تثيرها تبدو، حتى الآن، على الأقل، محصورة بأقلية صغيرة. ويقتضي الإنصاف القول بأن هذه الأقلية من النوع الذي يميل إلى العيش والعمل في المدن الكبرى، وتلك التي تضم جامعات وتتسم بأنها أكثر تعددية، لا سيما من الناحية العرقية، مما هو الحال في مدن أخرى في أنحاء البلاد. 

ومع ذلك، سيكون كما أزعم من الخطأ أن نستنتج من كل هذا أن التقسيمات غير موجودة هنا، وأنها، حتى لو وجدت، لا تشكل خطراً حقيقياً على النسيج الاجتماعي للبلاد. 

 نشرت شرطة العاصمة لندن في 25 مايو (أيار) تغريدة كانت تنم بوضوح عن نية حسنة كما كانت "يَقِظة". وجاء فيها أن "قتل جورج فلويد كان جريمة مروعة وحادثاً صدم العالم. ونحن نعمل من أجل تحسين العلاقات، ومشاعر الثقة، والاطمئنان، المتبادلة بين الشرطة والمجتمعات التي تخدمها"، كما سعت التغريدة إلى توجيه عناية القارئ إلى منشورات حول "كيفية تغير شرطة العاصمة" خلال السنة التي تفصلنا عن تلك الجريمة. 

 ونظراً لاهتمامي بكيفية تقبل الناس لهذا البيان الذي ذهب، في رأيي، إلى أبعد مما يقتضيه نداء الواجب بقليل، فقد تأملت التعليقات عليه، التي كانت كلها تقريباً من دون استثناء مقذعة. وتعود قسوة هذه الردود كلها إلى أن قضية جورج فلويد تتصل من ألفها إلى يائها بأميركا. ولا علاقة لها بشرطة العاصمة التي ينبغي أن تعود إلى عملها الأساسي في حفظ الأمن في شوارعنا ومكافحة الجريمة. وتساءل أحد أصحاب الردود مخاطباً الشرطة "هل ما زلتم تجثون على ركبة واحدة؟"

 والآن، يمكننا، أنا وأنتم، أن نشكّك في استخدامات وسائط التواصل الاجتماعي وإساءة استخداماتها أيضاً. إلا أننا لا نستطيع أن نجادل، كما أعتقد، أن الناس لا يعبرون عن آرائهم بصراحة على هذه المنصات. قد يقررون في سياق أو منتدى آخر أن يتبعوا نهج الصواب السياسي أو يراقبوا كلماتهم، لكن ليس هنا. وما لمسناه في هذه الحالة لم يكن أكثر من زفرة خافتة أطلقتها غالبية كانت صامتة حتى الآن. 

 وتريد هذه الغالبية من الناس، المؤلفة في معظمها من أشخاص بيض البشرة لا يعيشون في قلب المناطق المركزية التي تتسم بالتنوع ويسود فيها الفقر والبطالة، أن ترى المزيد من عناصر الشرطة يتجولون في مناطقها كي تشعر بالأمان. ولا تجد هذه الغالبية أن ثمة خطأ في ظهور الوزراء إلى جانب أعلام المملكة المتحدة، في الوقت الذي تتوقع فيه أن تبقى التماثيل والنُصب قائمة، وأن تظل أسماء الشوارع على حالها من دون تغيير.

حافظت هذه الغالبية على هدوئها حتى الآن. وقد قبلت غالباً وبسخاء أيضاً، الوافدين الجدد، كما أنها تحترم الحقوق المتكافئة وترغب في معاملة الناس، مهما كانوا مختلفين، على قدم المساواة. وهذا ما توحي به استطلاعات الرأي كلها.

 لكن، الميل المبالغ فيه نحو تلبية مطالب أقلية بعينها تجهر بما تريد على نحو صاخب، من شأنه أن يهدّد بإحداث خلل في ذلك التوازن. وهذا يمكن أن يحدث بشكل مفاجئ للغاية، فلا يعود من الممكن للغالبية أن تلزم الصمت. 

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من آراء