Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

زاهر الغافري على خطى أورفيوس بحثا عن بلد الأعماق

"حجر النوم" مختارات ترسم خريطة شعرية لتجربة عمانية مهمة

الشاعر العماني زاهر الغافري (صفحة الشاعر على فيسبوك)

يقول الناقد الفرنسي إيتيان سوريو لدى إجابته عن تساؤله حول هوية "الأنا" في الشعر: "إن الأنا هي الشاعر المطلق، بل هي الصورة المشعرنة عن ذاته التي يود الشاعر بثها للقارئ". ويمكنني أن أضيف أن هذه الأنا الشعرية الماثلة في النصوص التي ينشئها الشاعر، ويشيع فيها، بوعي منه، أو من دون قصد واعٍ، سمات عن أناه المثالية أو المطلقة، قد ترقى إلى مقام الأسطورة التي يتسنى للقارى إعادة تكوينها ولملمتها من مدونة النصوص الشعرية، على ما اقترحه شارل مورون، في كتابه، بعنوان "من الصور الهاجسية إلى أسطورة الذات".

في المختارات الشعرية الصادرة حديثاً عن دار "العائدون" عام 2020، تحت عنوان "حجر النوم"، والمنتقاة في غالبيتها العظمى من مجموعات شعرية حديثة ("صناع الأعالي" قيد النشر، و"في كل أرض تحلم بالحديقة"، و"غيوم فوق جسر أبريل"، و"هذيان نابليون")، يواصل الشاعر العماني زاهر الغافري (1956) مسيرته الشعرية وتكوين عالمه الشعري، ومن ضمنه صورة الذات التي سبق الكلام عليها، علماً بأن هذين – أي العالم الشعري وصورة الذات - يعتبران جزءاً لا يتجزأ من إبداعية الشاعر، ولا تنقص الإشارة إلى أحدهما من مكانته ولا تنقض شيئاً من قيمة شعره أو جمالية بنيانه، مما يأتي الحديث عنه لاحقاً.

ولما كان من المحال الإحاطة بكل القصائد التي تتشكل منها المختارات (173 صفحة)، فقد رأيت التركيز على أهم الظواهر اللافتة في عالم الغافري الشعري، والتعليق عليها، من وجهة نظر القارى المعني بهذا الشأن، من دون إكراه في الرأي أو الاستنتاج.

قد لا يكفي القول إن شعر الغافري، واستناداً إلى مجموع القصائد في المختارات، هو غنائي الطابع، بدليل أن ذاتية الشاعر لا تني تتقدم على ما عداها من صيغ، وأن هذه الغنائية مصبوغة برومنطيقية تسعى لمحاكاة جذورها الألمانية المتمثلة بنتاجات كل من ريلكه، وهولدرلن، ومالارميه، ممن يذكرهم ويجعلهم شركاء في رسم صورة عن ذاته أثيرة، الذات المعانية والحاملة رسالة الشعر والجمال، والذات العارفة الفنون، والذائقة صنوف اللذات، على سمت ديونيسوس، والنقية الجوهر:

"أنا آخر الآتين إلى باب الجحيم..." (ص7)، "أنا لست من هنا..." (ص10)، "أنا حامل الرسالة يا ماريا " (ص27)، "أنا أنظر في خريف/ يصعد الأنفاس" (ص45)، "لست أنا من يغني/ إنها الموسيقى..." (ص58)، "أنا رجل طيب يشرب النبيذ" (ص67)، "أنا رجل أعمى يسير في ليل الصحراء" (ص74).

غنائية الأسى

بيد أن هذه الغنائية، وإن بدت موشحة بالأسى، من فقد الأهل، وفراغ المنزل منهم، ومغادرة الحبيبة، فإن الشاعر سرعان ما ينسج بخيطها، ومن دون نواح، المزيد من سمات شخصيته، بل أسطورته الشعرية النامية إلى عالم أورفيوس، حيث الغناء هو الغاية، وحيث تتلاقى أطياف الموتى، وذكريات أعمالهم، مع تموجات الطبيعة الشاهدة والشريكة، بحسب الرومنطيقيين. ثم إن استحضار الفن، في نسيج الشعر نفسه، رسماً وغناءً وموسيقى ونحتاً، قد يكون بديلاً عن الاستغراق في التأسي على النهج الرومنطيقي الأولي، ودليلاً إضافياً على الخط البرناسي والمتأنق الذي ينفرد به الشاعر زاهر الغافري، في إطار شعر قصيدة النثر العربية التي يعد فاعلاً فيها منذ أواسط الثمانينيات من القرن الماضي: "الحياة لا تكفي لطريقين/ ولا لنهار واحد تحت الشجرة/ هناك المنزل وأمواته الكثيرون..." (ص25)، "تمشي وأنت تسمع نغمةً القيثار وصوت فتاة/ يغني بالأشورية/ ويمسح الظلام عن الفجر" (ص28)، "سأسلك الطريق ذاتها يا مالارميه/ وأنا أنظر في خريف/ يصعد الأنفاس إلى يد النحات الأعمى" (ص45).

ولكن من قال إن تلك السمات الأورفية (نسبة لأورفيوس) التي استخلصتها من بعض القصائد هي وحدها دالة دلالة تامة على ذات الشاعر، أو صورته المثالية التي يود ترسيخها في أذهان القراء؟ ألا يمكن اعتبار المسلك الرمزي الرديف الذي اختطه الشاعر الغافري، إذ استثمر أقنعة الشخصيات في تاريخ الفن والموسيقى، أمثال باخ وفيفالدي، والشعراء الألمان والفرنسيين، أمثال هولندرلن، وريلكه، وغوته، وجورج تراكل، ومالارميه، ورينه شار، وغيرهم، والرقص مثل إيزيدورا دانكين، طمعاً بمزيد من المناخات المصاحبة لتلك الأقنعة، وتوسيع مدى الذات بحيث تتجاوز كل حد مكاني وزماني كان قد وضع لها بالأصل.

"أنا أمشي سريعاً إلى غابة هولدرلن/ أمسكت بيدي وهي تشير إلى ثدييها: من أجلك استيقظ هذان الحملان يا رجل الغابات" (ص91)، "أنصت أيها الغريب إلى مجرة الجاز والبلوز/ هذه هي الليدي بيلي هوليدي" (ص96)، "حتى يسطع البرق بقداديس باخ/ وتحتل سلماً حجرياً يؤدي إلى الضفاف" (ص117)، "لأنني أكتب بغصن الخريف/ الذي تركه جورج تراكل/ في الحرب العالمية الأولى" (ص121).

وعلى الرغم من هذا الجهد المتقن من أجل تغريب الذات عن عالمها وإخراج المزيد من الأجواء (الصادقة) الملازمة للتعبير الفني عن وشك ختام المسيرة، لا يزال ينسرب من متون القصائد الأخرى الكثير من الشواغل الفكرية العميقة، وتتعالى أنسام الغنائية الخفرة من مقطعات شعرية شديدة التكثيف، والإيجاز والإيحاء في آنٍ معاً.

الزمن والذكرى

ومن هذه الشواغل الموت بمعنييه الحقيقي والمجازي، بل الموت الذي تسبقه اللذة في الزمن، وتتوازى معه في الذكرى، كما في قصيدة "قبل": "قبل هذا الزمان/ على يميني ينام الأب والأم والإخوة والأخوات/ مات الجميع تقريباً/ ولكن قبل هذا الزمان/ كانت تأتي صبية لتنام بقربي/ أمرر أصابعي على الحلمتين..." (ص142). ومن هذا القبيل، كان حديثه عن الموت الحقيقي، بل القتل الذي كان يمكن أن ينهي حياته، قبل أوانه حيث كان، في الشرق، على ما أسر به سركون بولص له، في إحدى قصائده: "شايف كيف يا زاهر يصنعون لنا التوابيت/ قبل أن نولد/ دعني أخبرك عن غاري سنايدر/ الذي زار عمان في الخمسينيات وكتب عنها..." (ص48).

على أن الناظر إلى معجم الموت، ومرادفاته في أغلب القصائد المختارة، لا بد أن يلفته هاجس الموت، موتاً عادياً، أو قتلاً في حرب لم يطأها بقدميه، أو اغتيالاً على يد طاغية كان هرب من أمام وجهه، مولياً الهرب صوب الغرب، موتاً هو مآل آونات الحياة القصيرة التي يحياها الشاعر، بقوة الحواس وتوابعها الفنية حيناً، وبلا مبالاة حيناً آخر، ولا يزال ينشد نشيدها العالي والشاهد على تلك الحياة.

أما الموت الآخر وتواتره في القصائد، على نحو غير لازم، وغير دال على معنى انتهاء الحياة، فيمكن اعتباره عنصراً لازماً في بنيان العالم الأورفي، حيث تشارك أطياف الموتى في صنع المناخ الإيحائي، نظير ما يلقاه القارئ لدى ريلكه أو هولدرلن أو مالارميه، أو غيرهم.

"لكن هنا أيضاً يبيع أموات أزهاراً كثيرةً تحت الثلوج/ سأسلك الطريق ذاتها يا مالارميه/ وأنا أنظر في خريف/ يصعد الأنفاس إلى يد النحات الأعمى" (ص45).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يمكن للقارئ أن يقول الكثير بعد عن رمز الملاك والملائكة، مما تحفل به قصائد الغافري الأورفية، الذي يحمل دلالة اندماج الكائن بالطبيعة، وانسلاخه عن المثال السماوي. وقد استخدمه الشاعر بدلالته السالفة، ولكن مدمجاً بتجربته الإنسانية العميقة، ولكن ماذا عن إبداعية الشاعر وقدرته التوليدية العالية التي برزت في نصه - النهر (نابليون) الذي يعتبر أحد تجليات الذات الشاعرة؟ وماذا يمكن الكلام على التأنق في بنيان القصائد، وتخفيفها لجعلها مجالاً لإيحاءات لا تكاد تنتهي؟

للشاعر زاهر الغافري، الحائز جائزة كيكا للشعر عام 2008، أكثر من إحدى عشرة مجموعة شعرية أهمها: أظلاف بيضاء، والصمت يأتي إلى الاعتراف، وعزلة تفيض عن الليل، وأزهار في بئر، وظلال بلون المياه، وكلما ظهر ملاك في القلعة، والمجموعات الخمس، وحياة واحدة وسلالم كثيرة، وفي كل أرض بئر تحلم بالحديقة، وحجر النوم.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة