Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مروة أبو ضيف تحمل نسائم الصعيد المصري إلى برد كندا

"منهك كأنه المعجزة" ديوان الغربة المضاعفة في المكان والذات

 الصعيد المصري كما استوحته الرسامة أنجي افلاطون (الهيئة العامة لقصور الثقافة - مصر)

في ديوانها "منهك كأنه المعجزة"، الصادر حديثاً في القاهرة عن سلسلة "إبداعات" في الهيئة العامة لقصور الثقافة، تفتش الشاعرة المصرية المقيمة في كندا مروة أبو ضيف بأصابع مرتعشة عن أشعة شمس ملموسة، تنتشلها من جليد المنفى، وتخلصها من الوحدة، التي تعتصرها بجناحين قاسيين: الابتعاد عن أرض الوطن، والاغتراب في داخل الذات.

على امتداد مقاطع/ قصائد الديوان التي جاوزت الستين، وحملت أرقاماً متسلسلة من دون عناوين، تلجأ الشاعرة إلى كل ما هو قريب وحقيقي ومباشر، لتؤمن بوجوده، وتتدثر به، على أمل الخلاص من محنة الشتات، وتجاوز الخيبات والخسارات و"الإنهاك" الذي يسم كل الخطوات الضالة، ويعتري كل المشاوير القاحلة: "كأنني غابة، كلما التأمت على ساكنيها، اشتعل بها حريق جديد".

وهي في تحسسها الجمالي والإنساني لكل التفاصيل والأشياء والعلاقات من حولها، تعلن ببساطة منذ البداية أن استعادة القلب النابض من جديد، بكل عنفوانه وصخبه وربما بهجاته، مرهونة بالعثور على بيت دافئ يضمها ويحتضنها ويقيها التفتت والضياع: "الشارع صار حوتاً عظيماً، يبتلعني ويلفظني/ وعظمي الصلب لم يتفتت بعد".

وفي مساعيها إلى إدراك هذا البيت في الواقع المحيط بها أو محاولة بنائه في الخيال غير البعيد، تتكشف تدريجياً فلسفة الحياة التي تقترحها، كما تتجلى سمات مشروعها الشعري الذي تؤسسه. وقوام هذه الفلسفة وذلك المشروع أن الحياة والشعر معاً يتحققان بالانصهار الروحي والقلبي والجسدي مع أناس صادقين، غير متلونين، في مكان صغير آمن، غني بالمشاعر والألفة والائتناس: "يعوي قلبي هذا الصباح، يبحث عن ضمادة نظيفة، ضمة صادقة".

شعرية الحواس

في عملها الرابع، بعد "ذاكرة رحيل" (نصوص حرة) و"أقص أيامي وأنثرها في الهواء" (شعر) و"بيننا حديقة" (ديوان مشترك مع الشاعرة سارة عابدين)، تمضي مروة أبو ضيف (42 عاماً) في طريقها نحو تفعيل الحواس وشحذها من أجل التقاط ما يجري حولها وفهمه عبر القنوات الأولية المباشرة (الإبصار، اللمس، السمع، التذوق، الشم). وذلك من دون إهدار الحدس والاستبطان والاستشفاف والملكات الفطرية، التي تردها إلى حالتها البدائية وخميرتها الأولى، كما يليق بإنسان يريد أن يجد نفسه، في عصر لاهث ابتعد كثيراً عن طريق الهداية، لأن بوصلته الاصطناعية معطلة، رغم الادعاء بتطورها.

لا تحتاج الذات الشاعرة إلى معجزة، وفق عنوان الديوان، للفكاك من إنهاكها الملغز، أو التصالح معه بوصفه سمة إنسانية نبيلة، شأنه شأن الحزن. فكل الحلول لكل المطبات الوعرة تكمن في مواصلة البحث والتنقيب عن النوافذ، وإيقاظ الحواس، وإعادة ترتيب العلاقة مع الآخرين الطيبين: "ليعبرني أحدهم دون خوف، وأسمع خلاخيل وخطوات خفيفة وواثقة/ منهك كأنني المعجزة، يحكيها الناس ولا يبحث عنها أحد/ منهك كأنني إنسان".

هذا التعيين الإنساني للمدركات، وهذا الوصول الفني إلى المراد من أقصر الطرق، يقترنان عادة بآلية القنص، بحيث تقبض الشاعرة ببراعة على اللحظة التي تعيشها، وتعمل على تثبيتها نسبياً، وتحاول فتحها على مدارات أوسع من حدود المشهد المنقول، وطبقات أعمق من طبيعة السرد الحكائي المذكراتي.

وهنا يكمن الفرق الجوهري بين السرد الشعري، والسرد القصصي. فالسرد في تجربة "منهك كأنه المعجزة" ليس وصفياً استدعائياً في المقام الأول، ولا تسجيلياً سلبياً للوقائع الدائرة من خارج الحدث، بقدر ما هو بوابة تصويرية تقود إلى اشتباك ذاتي تفاعلي سلس، مع سائر الشخوص والكائنات والموجودات وعناصر اللقطات الجاري التعبير عنها، ما يمثل في نهاية المطاف رؤية متكاملة للأشياء والوجوه، والتحاماً إيجابياً بالمواقف المشحونة بالانفعالات.

وإذا كانت التفاصيل والأحداث تبدو هشة وصغيرة، فإنها في زخمها وتناميها وإسقاطاتها تبلور أيضاً أبعاداً ذهنية وفلسفية ثرية، تصب في المجرى الرئيس للديوان (العثور على الذات الحقيقية والآخرين الحقيقيين وسط متاهة المنفى). ويأتي ذلك الاشتغال بحس طفولي، من دون قصدية أو إعمال عقلي متعسف: "لأني جالسة مثل كهف ساكن، ورهافتي تدعو الكائنات للطمأنينة/ لا جلبة، لا ضجيج/ البئر في عيني حية، ماؤها رقراق وعذب/ تشرب العصافير/ إنسان بكر، خارج من الجنة بلا ذنب، ولا عورة/ عريي يدعو الكائنات للمكوث".

تمارين ناضجة

ينتصر ديوان "منهك كأنه المعجزة" للأنوثة، ولو على نحو ضمني، بالإحالات والإشارات المتكررة إلى تجليات هذه الأنوثة وصيغها ودلالاتها المتنوعة: الأمومة، الخصوبة، النماء، التفتح، الازدهار، التجدد، الإنجاب، الهدهدة... وكأنما الطاقات الإشراقية الحنون كلها ذات صلة دائماً بالمرأة، عنوان الإرادة والمقاومة والتحدي. الأمر الذي قد ينطلي أيضاً على القصائد التي تكتبها امرأة، فهي في مجملها صيحة اخضرار وسعادة وحياة في مواجهة الجدب والشقاء والموات: "رأسي يصنع الموسيقى، لأني جميلة/ لأن الماء يعرف صفاء روحي، وقلبي يرقص كل يوم/ لأن الحياة تخرج من أناملي الصغيرة، من الحروف التي أنطقها، تخلق الحقيقة/ لأن الطين الذي شكلني، كان رائقاً وسعيداً/ لأني حلوة".

يعكس الديوان مرحلة من مراحل نضج قصيدة النثر المصرية والعربية في الآونة الأخيرة، ليس فقط بتجسداتها النسوية، وإنما على وجه العموم، في تجارب شعراء ما بعد جيل التسعينيات، من الذكور والإناث على السواء. ويواجه هؤلاء الشعراء الجدد عقبات أصعب في سبيل تحقيق ذواتهم وإبراز ملامح اختلافهم وتميزهم، وذلك بعد إرث طويل لقصيدة النثر خلفه المؤسسون وشعراء الأجيال السابقة، وكذلك بعد عثرات انتابت هذه القصيدة في بعض الأوقات، بسبب كتابات استسهالية ملأت الساحة ضجيجاً، ولم تقدم جديداً.

هذا النضج في ديوان أبو ضيف، يتبدى في خصوصية النظرة العريضة للأمور، وخلق متنفس للحياة وسط الأشواك والقيود على هذا النحو الحي، وممارسة الكتابة الجمالية على نار هادئة. وهي تلك الكتابة القائمة على التكثيف والاختزال، وتقنية المحو، بحذف حالات الانكسار والهزائم مثلاً، رغم استشعارها على طول الخط في خلفية النصوص، وتنحية ما لا طائل منه من العبارات والمفردات. وكذلك استبعاد اللحظات العابرة، التي لا تحمل مدلولات مبتكرة مدهشة، والتحليق بعيداً خارج السياق المكرور من مستنسخات قصيدة النثر المتهمة بالميكانيكية والقولبة في رصد المألوف، إلى جانب الحرص على المباغتة والتفجير وخلخلة أفق التوقعات لدى المتلقي: "أحببت المقامرة، لكنك لم تجد نرداً لتلقيه بحثاً عن الحظ، فألقيت قلبي على أسفلت الطريق".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تنتهج الشاعرة في نصوصها مناورات فنية ذكية تؤسطر الحالة، وترفع مستوى التفاعلية مع الآخر، مثل تلك التمارين المثيرة التي تصفها لتوليد الإحساس بالدفء، والتدريبات النظامية الأخرى التي تعالج بها قلبها، بعد ما صار ذئباً عجوزاً. وذلك لكي يسترجع تلقائياً ذاكرة الحب، ويتعلم من جديد مهارات ضخ العشق، وتذوق السعادة والقناعة، والقفز من إشارة الى إشارة ومن غصن الى غصن كطائر غريد.

تنخرط الذات الشاعرة مع شركائها في هذا العالم انخراطاً كلياً، حد التماهي، خصوصاً مع البسطاء والعاديين والمهمشين، الذين يقتسمون معها أرغفة المحنة والاغتراب والبؤس والمحبة، وأرجوحة التذبذب بين الآلام المريرة والآمال الحلوة: "أعطي من أشاء قلبي بحمله الثقيل/ والهشاشة أوزعها على التعساء، الذين أحسنوا مصاحبتي/ لكن الأيام ملكي وحدها، ليس بإمكاني إعطاؤها لأحد".  حتى الذات الفردية المتكلمة لا تتبرأ من اندماجها بالمجموع، فلا تزال الشاعرة تحمل خلايا خضراء متصلة بالشجرة الأم، وذاكرة مفتوحة على جذورها كصعيدية من الجنوب المصري قبل أن ترتحل إلى كندا في الشمال الأميركي.

إن ما هو شخصي لا ينفصل أبداً لدى الذات الشاعرة عما هو جمعي، وروح المشاركة المستقرة في باطنها هي صاحبة الكلمة العليا دائماً: "كنت تحب الخبز، معجوناً برائحة الأمهات، وريح الأيام القديمة/ أسمر، مثل قامات أعمامنا، وصلابتهم التي كسرتنا جيداً/ ليناً، مثل الحب الصعيدي/ مدوراً، مثل أقراص الجبانات الجافة، وحلوق معددات القرية المتمرسات/.. / الملح الذي دائماً ما لوث حلاوة محبتك، استقر بجوفي، صار يميناً بيني وبين الخلائق، أن الخبز وحده يصنع الدراويش".  

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة