Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

في "خيمة المعجزات" آمادو يصفي حسابه مع العنصريين والتافهين

حين انتزعت الترجمة العربية من البطل اسمه وهويته بشكل غامض

جورج آمادو (1912 – 2001) (غيتي)

أن يترجم الفرنسيون عنوان رواية هو في الأصل "خيمة المعجزات" إلى "حانوت المعجزات" أمر يمكن تحمله بالنظر إلى أن الحانوت يمكن أن يكون خيمة والخيمة حانوتاً من دون أن يحدث التبديل فارقاً كبيراً في المعنى والمبنى، أما أن يترجم العرب العنوان نفسه بـ"زوربا البرازيلي" فأمر يثير من الدهشة بقدر ما يثير من السخرية ويدفع القارئ إلى التساؤل والاستنكار حتى بعد مرور نحو ثلث قرن على تلك "الفعلة". وذلك على رغم أن الترجمة، الرائعة على أية حال والتي جرت من الإنجليزية وليس من اللغة الأصلية للرواية وهي البرازيلية البرتغالية، كانت من إنجاز واحد من كبار الشعراء العرب في تلك المرحلة كما كان واحداً من أبدع المترجمين، إذ جعل لغته الشعرية وثقافته الواسعة في خدمة ترجماته، ونعني به الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان.

الأدب على هوى التجار

ويخيل إلينا على أية حال أن هذا التبديل السخيف للعنوان لم يكن من صنع عدوان بل من صنع دار النشر في زمن كانت دور النشر في لبنان، وتلك واحدة منها، تقرصن وتغير على هواها من دون رقيب أو حسيب، إلى درجة أنها هي نفسها اختصرت صفحات رواية غابريال غارسيا ماركيز "مئة عام من العزلة"، من أربع مئة إلى مئتين وخمسين في ترجمة عربية أصدرتها. لكن ماركيز لم يخسر كثيراً يومها فحين صدرت تلك الترجمة كانت الرواية نفسها قد صدرت في ما لا يقل عن ترجمتين إحداهما بديعة تمت عن الإسبانية مباشرة بقلم المترجم المبدع صالح علماني. لكن "المسكين" آمادو كان أسوأ حظاً حيث أن "خيمة المعجزات" لم تصدر إلا في ترجمة واحدة. وعلى أية حال حسب القارئ اليوم أن يمزق الغلاف ليقرأ بلغة عدوان الرائعة هذه الرواية التي يمكن اعتبارها واحدة من أجمل الروايات التي انتجها أدب أميركا اللاتينية، البرازيلي هنا طبعاً.

رواية الروايات

صدرت "خيمة المعجزات" للمرة الأولى عام 1969 ما يجعلها واحدة من آخر الروايات الكبرى في مسار جورج آمادو الأدبي. والحال أن هذا البعد الزمني يتجاوز تقنيته ليعني أن الكاتب قد جمع في هذه الرواية، كما كان فعل قبلها في معظم رواياته المتأخرة، من "دونا فلور" إلى "اكتشاف الأتراك أميركا" (والأتراك هنا هم طبعاً اللبنانيون وكانوا يسمون سوريين وأتراكاً عند بدايات القرن العشرين) مروراً بـ"تييتا" و"تيريزا باتيستا"... جمع كل خبرته التي تنامت طوال نصف قرن وأكثر عبر عشرات النصوص لتحوله إلى واحد من أكبر الروائيين في القارة اللاتينية وتنقل أدبه هو نفسه من حال لحال. فبعدما كان آمادو مناضلاً سياسياً يغلب البعد الأيديولوجي على نصوصه الأولى التي راح ينشرها منذ ثلاثينيات القرن العشرين، تخفف لاحقاً من البعد الأيديولوجي ليتحول أدبه إلى أدب ساخر حاد ممتع يتحول فيه الصراع "السياسي" المباشر إلى نوع من تصفية حساب ضد كل الذين يرى في ممارساتهم ومواقفهم افتئاتاً على حقوق البائسين والمهمشين، وعنصرية ضد السود وكل الملونين والخلاسيين، ناهيك بتصفية حساب فتاكة ضد "دكاترة الجامعات" ورجال الدين المزيفين من دون أن يفوته أن يطل بسخريته على العسكريين وكبار رجال الأعمال. ففي المرحلة الأخيرة من حياته، وهي مرحلة تمثلها "خيمة المعجزات" خير تمثيل، ظلت معارك صاحب "قباطنة الرمال" و"دروب الجوع" و"البحر الميت" و"كاكاو" هي نفسها، لكن أسلوب النضال وأسلحته تبدلت. هدأت لكنها صارت أكثر قسوة حيث بات على القارئ أن يشارك من طريق الوعي والضحك، لا من طريق الإتباع الأعمى.

بطولات فردية

وواضح أن هذا بالتحديد ما يميز "خيمة المعجزات". ففي هذه الرواية لم يعد ثمة مجال للبطولات الجماعية "الملحمية" ولا للصراعات الطبقية الفصيحة، ولا حتى للصراعات السياسية، بخاصة أن الحقبة التي كتبها آمادو فيها كانت تلي انقلاباً عسكرياً ناجحاً وفاشياً كان همه الأساس كمّ الأفواه. فكمّ آمادو فاهه ليكون هذا لصالح العمل الأدبي، حتى وإن كانت مشاكسته التاريخية قد جعلته يوجد في الرواية شخصية مدير للأمن فاسد، من دون أن يجعله معبراً عن الطغمة الإنقلابية الحاكمة بشكل واضح... فمرّت الحيلة بشكل لا بأس فيه ولم يبتعد آمادو كثيراً عن مشاكسته وإن كان قد اقترب أكثر من الأدب الممتع في فعاليته. أي الأدب الثوري الحقيقي في عرفه. ولم يكن بعيداً عن الصواب طبعاً.

باهيا الأثيرة لدى عاشقها

تدور أحداث "خيمة المعجزات" في باهيا تلك المدينة التي ينتمي آمادو إليها وجعلها مكان العدد الأكبر من تحفه الأدبية. لكنه هنا تعاطى معها عبر زمنين يفصل بينهما ما يقارب نصف القرن بحيث أن الرواية تتحرك كالمكوك بين الزمنين: الزمن الأول ذلك الذي عاش فيه ومات بيدرو آرشانجو، الذي حولت الترجمة العربية المقرصنة اسمه إلى "زوربا" من دون أن يكون للأمر أثر في الرواية. المهم أن بيدرو هذا كان ملوناً من أبناء باهيا عاش حياته الصاخبة خلال النصف الأول من القرن العشرين. وهو لئن كان اشتغل رسمياً كساع في جامعة المدينة فإنه كان قارئاً ممتازاً من دون شهادات، ومناضلاً في سبيل الدفاع عن فكرة تقول إن كل أبناء البرازيل خلاسيون ملونون بمن فيهم الأرستقراطيون "البيض" الذين يمارسون أعتى صنوف العنصرية ضد الملونين والمهمشين الآخرين. ولقد وضع بيدرو حول هذا الموضوع كتاباً وحيداً من دون أن يتمكن، أو حتى يرغب، في وضع غيره هو الذي كان ينفق وقته بين الشراب والنساء والثرثرة مقيماً في تلك الخيمة التي تعتبر حانوتاً ومعبداً ومنتدى... مع رسام لا يقل عنه هامشية وإبداعاً. صحيح أن بيدرو مات غارقاً في ساقية ككومة من القذارة من دون أن يتنبه أحد في حينها إلى أهميته، ولكن ها هو الآن عالم إنتروبولوجيا وصاحب جائزة نوبل من أميركا الشمالية يأتي بعد كل تلك الغقود ليقول لأهل باهيا أن بيدرو آرشانجو كان مؤلفاً عبقرياً غُمط حقه ويجدر أن تُستعاد ذكراه ويكرم الآن.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عودة الحكاية إلى الحياة

وهكذا إذ يصل العالم الأميركي إلى باهيا لتلك الغاية، يفيق أهل المدينة من سباتهم الطويل ويبدأ كل واحد منهم بالعودة إلى الأرشيفات والتواريخ الشفوية وإلى ذكريات من لا تزال لهم ذاكرتهم للتعرف إلى "ابن البلد" الراحل والمشاركة في الاحتفال بذكراه. ومن جديد تعود قصة بيدرو إلى الحياة عبر ذلك الظرف الجديد الذي يخلق له وصول العالم الأميركي دينامية لم تكن متوقعة. ونتعرف نحن إذا بدورنا إلى بيدرو من خلال الأحداث الراهنة حيث تستعاد حياته ونعرف عنه بالتدريج أموراً كانت الذاكرة قد طوتها. ولعل أول ما سوف نعرفه هو الكم الكبير من الأبناء الذين أنجبهم ويملأون اليوم المدينة حتى من دون أن يعرف معظمهم أن بيدرو كان والده الحقيقي. إنهم يعرفون أمهاتهم في أغلب الأحيان لكنهن كن قلة الأمهات أولئك اللواتي كنّ أخبرن الأبناء بهوية الوالد الذي سيبدو لنا الآن وكأنه المسؤول عن ولادة العدد الأكبر من أبناء باهيا. وذلك لأنه كان زئر نساء حقيقياً، إضافة إلى مشاكساته وتدخله في قتالات لا تنتهي.

المدينة تجند نفسها

غير أن الأمر الأكثر أهمية هنا هو ذلك المناخ الذي يخلقه الكاتب من حول تلك الدينامية حيث يجند الإعلام والجامعة وأهل المجتمع والنقابات والخمارات... باختصار يجند الجميع أنفسهم للاحتفال بذاك الذي لم يكن سوى شريد أفاق في تاريخ مدينتهم فإذا بالبروفسور الأميركي يأتي ليخبرهم أنه كان مؤلفاً عبقرياً ورجلاً استثنائياً وعليهم الآن التعامل مع هذا الواقع. ولنا أن نتصور الجو الساخر والعبثي الذي يخلقه آمادو، والقدر الكبير من تصفية الحسابات الذي يمارسه بلغته البديعة المواقف الساخرة التي يخلقها في عمل يقول الكثير مما أمضى جورج أمادو (1912-2001 ) حياته وهو يقوله ويكرره في إبداعاته. ولكن أيضاً في نضالاته السياسية التي جعلته أحياناً نائباً عن الحزب الشيوعي البرازيلي وأحياناً نزيل المنافي والسجون ما أثرى في نهاية الأمر تجربته الأدبية بشكل استثنائي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة