تتناول الروائية اللبنانية زينب مرعي في روايتها الثانية "منزل عائم فوق النهر" (دار نوفل - هاشيت أنطوان) قضية أربع نساء لبنانيات من أسرة واحدة، ينتمين إلى ثلاثة أجيال متعاقبة، تمثلها الجدة والأم والحفيدتان. وترصد كيفية انعكاس اللعنة القدرية على كل منهن، مساراً ومصيراً. وبذلك، نكون إزاء أربع حكايات مختلفة، ترتبط بعلاقات التعاقب والتزامن والتماكن، وتشترك في تحمل تبعات اللعنة وتداعياتها. في الرواية، تطيح هذه اللعنة التي تشبه اللعنات في المسرح الإغريقي، بعلاقات الأمومة بين بديعة وفاطمة، وبين فاطمة وابنتيها ليلى وبانة، من جهة. وتطيح بعلاقات البنوة بين فاطمة وأمها بديعة، وبين الأختين وأمهما فاطمة، من جهة ثانية. وتطيح بعلاقات الأخوة بين الأختين ليلى وبانة، من جهة ثالثة. وتفرد حيزاً كبيراً للغيرة، والحسد، والكره، والتهميش، والتدمير، والانتقام، ما نقع عليه في أحداث الرواية بوقائعها وذكرياتها.
تسند مرعي دور البطولة للحفيدة ليلى، وتمنحها شرف سرد حكايتها المحورية في الرواية، بينما تحجب هذا الشرف عن الجدة، والأم، والحفيدة الأخرى؛ لتمنحه إلى راو عليم يسرد الحكايات الثلاث الأخرى. وإذا كانت الكاتبة تراعي مقتضيات فنية معينة في ترتيب الحكايات، ومنها محورية الحكاية في البداية والنهاية بتخصيصهما حكاية ليلى، وتراعي التسلسل الكرونولوجي في الوسط بتخصيصه للجدة والأم والحفيدة، ما يجعل الحكاية المحورية تحتضن الحكايات الأخرى، ويجعل الشكل يتناسب مع المضمون الذي يتمخض عن تحقيق انتصار ليلى على أمها في نهاية الرواية، فإن هذه القراءة تراعي التسلسل الكرونولوجي للحكايات، بمعزل عن أهمية الحكاية الخاصة، بدءاً من الجدة، مروراً بالأم وانتهاء بالحفيدتين.
حكاية الجدة
في حكاية الجدة، تتعرف بديعة، الفتاة الجميلة المسلمة، إلى الشاب الأرميني الأسمر هاروت، خلال رحلتها اليومية، من البيت في السوديكو إلى محل الأب التجاري في سوق أياس. وتنخرط معه في علاقة حب عاصف، حتى إذا ما طلبها للزواج، ورفضت أسرتها المحافظة الطلب، وأصرت هي على الارتباط بحبيبها، يقوم الأب الحاج وحيد بمعاقبتها وتزويجها من رضوان الشاب الذي يتأتئ، لأنه من الطائفة نفسها. وبذلك، تتغلب الاعتبارات الطائفية على العاطفية، وينتصر التقليد على التمرد، في معركة أولى. غير أن الزواج القسري لا يطفئ نار الحب بين الحبيبين، ولا يقضي على نوازع التمرد عندهما، فيستمران في علاقتهما غير عابئين بأحكام المجتمع وتقولاته. وتأتي شخصية الزوج الضعيفة، الذي نشأ في ظل أب يخجل منه ويعنفه، وفي وسط اجتماعي يمارس التنمر على ذوي الحاجات الخاصة، ويعمل "عتالاً" ليلياً في المرفأ، لتسهل استمرار العلاقة غير المشروعة بين الزوجة وعشيقها.
وبذلك، تتموضع بديعة بين زوج مغفل وحبيب متيم، وتستطيع بقوة شخصيتها وبمالها أن تسكت تقولات المتقولين وتفرض احترامها على أهل الحي، الأمر الذي لا ينطبق على ولديها فاطمة ونزيه اللذين يتعرضان للتنمر والتشكيك في نسبهما، ويقاطعهما أولاد الحي بتحريض من الأهل. ويأتي إيثارها نفسها عليهما في الملبس ليزيد من اغترابهما عنها وعن الحي، فيقوم الصبي بالانتحار، وتطوي البنت النفس على ما يتفجر لاحقاً في سلوكيات ومواقف معينة. وهكذا، يأكل الأهل الحصرم والأولاد يضرسون. ولعل حرمان بديعة من حقها في الحب يجعلها تعجز عن منحه الآخرين بمن فيهم أولادها. وإذ يقتل هاروت، على خلفية دين، ورضوان، على خلفية ثأر، ويشيعان في اليوم نفسه، تغدو بديعة أرملة مزدوجة، وتعيش ابنتها يتماً مضاعفاً لا سيما أنها لا تعرف أباها الحقيقي، وتدركها لعنة قابيل، فتقوم الأم بنوع من القتل المعنوي لابنتها حين تموت قبل أن تكشف لها هوية والدها الحقيقي.
حكاية الأم
في حكاية الأم، ترث فاطمة عن أمها بديعة عينين ساحرتين تتحولان بفعل الظروف القاسية التي عاشتها إلى عينين متحجرتين. وتعاني إهمال الأم وأنانيتها والخوف منها، ومقتل "الأبوين"، وانتحار الأخ، ومقاطعة الصغار، وتنمر الكبار، ووعورة العيش، وتنكر الزوج لوعوده، ما يحفر عميقاً في شخصيتها، ويجعل منها ضحية هذه الظروف مجتمعة. وفي مواجهتها، يكون عليها أن تخوض صراع البقاء، فتتحول الضحية إلى جلاد، وتروح تمارس انتقامها من أقرب المقربين إليها؛ فتزرع في ابنتيها كره الرجال، وتحرم عليهما الاختلاط بالصبية، وتطرد زوجها من البيت، وتغريه بالعودة إلى الإدمان على الخمر، وتؤثر إحدى ابنتيها على الأخرى، وتسوسهما بالترهيب والتخويف، وتتقشف في إبداء عاطفة الأمومة. وتقوم برمي ابنتها بانة التي أقدمت على الانتحار، في النهر قبل التأكد من موتها، ولا تبدي أي حزن عليها، وتحاول لاحقاً أن تنحو باللائمة على ابنتها الأخرى في ما أقدمت عليه، وتطعن زميلتها في المدرسة بسكين. وهكذا، تقوم بنوع من تدمير الذات، وتدمير الآخر الذي يطال المقربين منها. وبذلك، تدركها لعنة قابيل، وتكسر الصورة النمطية الجميلة للأمومة، عبر التاريخ، لتقدمها في صورة الوحش الذي يأكل أبناءه.
حكاية الحفيدة
في حكاية الحفيدة، تحظى بانة الجميلة والمتفوقة بحب أمها فاطمة التي تتقشف في التعبير عنه، في الوقت الذي تحرم فيه شقيقتها الصغرى ليلى من هذه الحظوة، ما يولد تحسساً في العلاقة بين الشقيقتين. ويتمخض عن نمطين مختلفين من العلاقة بالأم. ففي حين تركن بانة تحت إبط أمها عملاً بمقولة إن "العيش في ظل الدب الضخم أفضل من التبختر أمامه وهو جائع" (ص 170)، تفضل الأخت أن تبقى بعيدة عنه. وانطلاقاً من هذا الخيار، تحرص على إرضاء أمها، وتعمل بأوامرها ونواهيها، لا سيما منها تجنب الاقتراب من الرجال، حتى إذا ما تعرفت في الجامعة إلى زميلها ربيع، ونجح في التقرب منها بعد طول أناة، تشعر بالذنب وخيانة الأم. وبنمو العلاقة بينهما، تتموضع بانة بين تعلقها بربيع الذي بدأت تكتشف نفسها معه وخوفها من اكتشاف الأم هذه العلاقة، فيحصل ما لا تحمد عقباه. وهو ما يحدث بالفعل، فتقوم الأم باقتحام شقة ربيع لتجد ابنتها تقوم بتنظيف الشقة، في محاولة من ربيع لاستغلالها، وهي التي، على جمالها وتفوقها، تفتقر إلى الخبرة والتجربة، بفعل الانغلاق الذي نشأت عليه في كنف الأم، فلا تجرؤ على مواجهته بعد اكتشافها علاقته بأخرى. وإذ تتخذ الأم قرار تدمير ربيع، وحماية ابنتها منه، تلجأ الأخيرة إلى الانتحار، فتقوم الأم القاسية برميها في النهر قبل التأكد من موتها، ولا تبدي حزناً عليها، مخرجة قابيل الكامن فيها إلى حيز الوجود.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الحكاية المحورية، تروي ليلى حكايتها، منذ الصغر، وكيفية وقوع اللعنة عليها؛ فيطالعنا انحياز الأم لابنتها الكبرى، وإهمال ابنتها الصغرى، وسوء العلاقة بين الأختين، ومغادرة الأب المنزل، وإجبارها على المشاركة في رمي أختها في النهر، وكذلك انفضاض الصديقة الوحيدة عنها، ومنع الاختلاط بالصبية، وكره الرجال، والمحاصرة بالممنوعات والمحظورات، ما يؤثر سلباً على صحتها النفسية، فتروح تنتابها الكوابيس ليلاً، وتتراءى لها الأشباح نهاراً. وفي مواجهة هذه الوقائع القاسية، تلجأ ليلى إلى الخيال، فتخترع شخصية شيرو التي تتكئ عليها في محنتها، من جهة، وتلجأ إلى الطبيب النفسي والأقراص المهدئة، من جهة ثانية. حتى إذا ما أتيح لها السفر، في غفلة من الأم القابعة في مستشفى الأمراض العصبية، والعمل مترجمة في وكالة إخبارية، والارتباط ببنيامين، تروح تستعيد توازنها، وتتحرر من الكوابيس والأشباح شيئاً فشيئاً، يساعدها زوجها المحب بنيامين، وصديقتها الوحيدة أناهيتا. غير أن اتصال الممرضة نجلا من المستشفى لوضعها في مستجدات أمها الصحية وما تتفوه به من كلام يتعلق بجريمتهما المشتركة، يجعلها تعود إلى بيروت على جناح السرعة لتصطدم بإصرار الأم، التي تتظاهر بالمرض خوفاً من السجن، على تدميرها. فتقوم، في محاولة منها للدفاع عن النفس، بنصب مكيدة للأم، تنتهي بإعلان جنونها على الملأ. وبذلك، تسقيها من الكأس التي سقتها منها، وتكون كل منهما قابيل الآخر، وتنتقل ليلى من الإقامة في "منزل عائم على النهر" إلى آخر قائم على الصخر.