Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ثلاثة رجال فوق التسعين: من تبقى من "أغوات" الحرم النبوي

يرجح التاريخ أن نور الدين زنكي هو أول من جلبهم إلى المدينة المنورة عام 1162

"نحن ننقص ولا نزيد لأن الظروف التي أفرزت هذه الفئة من حروب وغزو انتهت"، كان هذا هو العنوان الذي كتبه شيخ خدّام الحرم النبوي التاريخيين، وأحد أبرز بيوت المدينة المنورة المعروفين بـ "الأغوات".

فهذه السلالة المعروفة في مجتمع المدينة لم يتبقَّ منها سوى 3 أشخاص فقط بعد رحيل رابعهم قبل نحو عام، فباتوا على مشارف أن يصبحوا جزءًا من التاريخ بعد أن تخطّى عمر أصغرهم حاجز الـ 90 سنة، ما يجعل من الضروري العودة إلى قراءة السطر الأول قبل أن يكتب العمر سطرهم الأخير.

وكانت  وكالة شؤون المسجد النبوي نعت الأربعاء 13 يوليو (تموز)، الآغا حبيب محمد العفري أحد أقدم أغوات المسجد النبوي الذي كرس حياته لخدمة المسجد والحجرة النبوية حيث قبر النبي محمد وأبي بكر وعمر، وأقيمت صلاة الجنازة عليه في الموقع الذي ظل ملازماً له طوال حياته بعد صلاة المغرب، وتم دفنه بمقبرة "بقيع الغرقد" التي تضم رفات خير أصحاب النبي وآله، ومشاهير أئمة المسلمين القدامى والمحدثين.

المراجع حول أيامهم الأولى في المدينة كثيرة ومتضادة، بخاصة أنهم عُرفوا بخدمتهم للكعبة في مكة المكرمة في عهد حكم معاوية بن أبي سفيان، بحسب الباحث عبد الرحمن الأنصاري في كتاب "تحفة المحبين والأصحاب".

إلا أن الدراسات الراجحة أشارت إلى أن من جلبهم إلى المدينة النبوية هو السلطان نور الدين زنكي في 558 للهجرة (1162 للميلاد)، ولا يبدو أنه استحسن فكرة إرسال الخدام بكثرة إليها في بادئ الأمر، لذا لم يستقدم سوى 12 "آغا"، حتى تزايدوا شيئاً فشيئاً وصولاً إلى مئات "الأغوات" ليكونوا مجتمعاً وأسرة كبيرة، من دون سبب واضح. الروايات اتفقت على أن "الأغوات" هم طائفة من الأفارقة في الغالب الذين عرف عنهم عدم الزواج أو الإنجاب، نتيجة لتعطّل جهازهم التناسلي بسبب خصيهم في قديم الزمان، إما لغزو اقتحم بلادهم أو لمعتقدات خاطئة.

وعن تلك المعتقدات، يشير الباحث في التاريخ المكي والمدني منصور الدعجاني إلى أن "الأغوات فقدوا ذكورتهم بسبب الاستعمار في بلاد الحبشة والسودان حتى لا يتكاثروا، إلا أن هناك منهم من قام أهلهم بهذا العمل لبيعهم للأثرياء أو إهدائهم كهبة للحرمين"، نظراً إلى كثرة المخصيين ممن كانوا يعملون في خدمة المناطق المقدسة لكونهم أكثر زهداً بعد تجريدهم من الشهوات.

أسطورة الحلم تنتهي بتعيين "الأغوات"

ظهرت أسطورة تروي أن حلماً للسلطان نور الدين زنكي قد يكون وراء استحداث خدام للمسجد النبوي في عهده، إذ يُروى أنه رأى النبي محمد في إحدى الليالي المظلمة والنوم العميق، مستنجداً به وهو يشير إلى رجلين أشقرين طويلَي القامة، إلا أن الحلم لم يدُم طويلاً قبل أن يفزع السلطان، كما روى الكتاب المخطوط فلاح الفلاح لخير الدين إلياس المدني.

والكتاب المخطوط الذي يحفظ تاريخ المدينة المنورة زراعياً واجتماعياً لما قبل 300 عام، لفت إلى أنه على الرغم من انقطاع الحلم في مرّته الأولى، إلا أنه تكرر على السلطان مرتين إضافيتين، ما دفعه إلى استدعاء أحد وزرائه مستشيراً إياه عن القرار الصائب والتفسير وراء الحلم، الذي أشار إليه بضرورة سفره إلى المدينة التي تضم قبر النبي محمد للتحقق مما رأى.

ونزل السلطان إلى المدينة بحثاً عن أجوبة وراء تكرار الرؤية، وفي محاولة لتأمل كل الوجوه من سكان المدينة، أخبرهم بأنه سيخرج صدقات ومساعدات للسكان، شرط أن يأتي كل فرد لاستلام حصته، وبدأ الناس بالتوافد والسلطان بالتأمل والبحث في وجوههم عمن تنطبق عليهم أوصاف الأشقرين.

 

ويبدو أن كل الملامح لم تأخذه إلى أبعد من الحلم، ما دفعه إلى سؤال أهل المدينة في ما إذا كان يوجد من لم يستلِم الصدقة، ليعرف أن هناك شخصين غريبين نزلوا المدينة قبل فترة، فطلبهما للقائه، لتتطابق الأوصاف معهما تماماً، فأمر السلطان بمراقبتهما.

ويضيف فلاح الفلاح في قصته أن "السلطان أمر بمداهمة منزلهما وتفتيشه ليجد نفقاً كانا قد شرعا في حفره تخطيطاً للوصول إلى الحجرة النبوية، وبعد التحقيق معهما اعترفا بأنهما نصارى، وحكم نور الدين بقتلهما".

وسرعان ما حفر السلطان خندقاً وصبّ فيه الرصاص رغبة في حماية الحجرة من تكرار الحادثة، إلا أن الرصاص لم يكن كافياً للحماية في نظره،  ما دفعه إلى إرسال الخدام للمسجد النبوي لحماية الحجرة وخدمة المسجد.

ومع أن مصادر مختلفة نقلت الرواية ذاتها، إلا أن بعض الروايات يرجح قصصاً مختلفة للشخصيات والمواقف، إذ يذكر حسن طاهر، المدير التنفيذي لمتحف دار المدينة، أن "هناك روايات تذهب إلى أن معاوية بن أبي سفيان هو أول من استخدمهم ووضع خدماً من العبيد للكعبة، وأول من اتخذ الخصيان لخدمة الكعبة هو يزيد بن معاوية".

وعلى الرغم من الاختلاف في التفاصيل، أجمعت الروايات تقريباً على كون خدام الحرمين بدأوا عبيداً، وانتهوا إلى تعيين وإرسال الخصيان دون سواهم لخدمة الضريح النبوي.

الزواج للاستقرار

واستمر اختيار السلاطين لهم من دون غيرهم للخدمة الدينية "لكونهم أطهر وأنزه وأكثر براء وأكثر فراغاً من الأشغال، فلا أهل ولا ولد يشتغل بهم وهم أبعد من دنس الجنابة ومباشرة النساء"، كما يسرد الرحالة المغربي عبد الله العياشي في "ماء الموائد".

لكن اللافت أن "الأغوات" اعتادوا شراء الجواري، إلا أن إلغاء الإماءة دفعهم إلى الزواج، كي ترعاه الزوجة عند مرضه أو حاجته لذلك، ويقال لها عند عقد النكاح، "أملكت عليك مكحلة من دون مرود، فهي لديها مكحلة أما المرود فهو لديه لكنه معطل"، كما تشير دراسة نشرتها جامعة أم القرى.

وكانت هذه الفئة تعمد إلى التعدد، فكانت لهم زوجة واثنتان وثلاث في بعض الحالات، حتى إن بعضهم امتلكوا جواري أفريقيات، يتخذونهنّ للتمتع بهنّ في غير الجماع، كما يشير العياشي في الكتاب ذاته.

 

وعن المتعة المقصودة، تذهب الدراسات إلى أنها متعة الاستقرار وشعور العائلة، إذ كانوا غالباً ما يتزوجون الأرامل والمطلقات ممن أنجبن أولاداً من أزواجهن السابقين، ليؤسس "الأغا" أسرته رغماً عن الإشكالية الجسدية، كما يؤكد المهتم والباحث في تاريخ المدينة المنورة حسان طاهر، "يتزوجون ليس لأجل العلاقات المعروفة والمتعة الزوجية، إنما من أجل مراعاة شؤونهم وحاجاتهم".

وعند زواج خدام الحرمين من جنسهم، فهو يحضرها إلى السعودية مع أولادها إن كان لها أولاد على كفالته بتأشيرة خدم، من دون أن يتم إعطاؤهم الجنسية السعودية، ويطلق "الأغوات" على زوجاتهم، وينادونها بالخادمة.

شروط الانضمام لم تحرم الآسيويين

كان السلاطين المتعاقبون على حكم الأراضي الحجازية يخضعون الخدم لفحص دقيق قبل ضمّهم للعمل في المسجدين، إذ يشير الدعجاني إلى أن "من طرق وصول الجدد منهم، تكليف الحكام للأغوات العاملين، البحث عن زملاء لائقين للخدمة في المسجدين".

وعلى الرغم من الاعتقاد السائد في ذلك الزمان بأن أحد أهم شروط الانضمام إلى العمل كـ "آغا" أن يكون أفريقياً، إلا أن حسان طاهر يوضح أن "هناك شرطين أساسيين للأغوات، أن يكون مخصياً ويتمتع بصحة جيدة، ويقبل بتطبيق النظام عليه من الالتزام وتأدية الواجبات وطاعة الأوامر"، وتشير الدراسات إلى أن حفظ القرآن كان شرطاً أيضاً للترشيح.

وفي العهد السعودي، عندما يجد "الآغا" مرشحاً للانضمام، يخبر به شيخهم ليرفع بدوره للمقام السامي الذي يكتب لوزير الحج بالأشخاص الذين تنطبق عليهم الشروط، ليتم تعيينهم وإعطاؤهم الجنسية السعودية.

 

وليتم التعيين بشكل رسمي، يؤخذ الأمر إلى شيخ "الأغوات" الذي يقوم بإحضارهم عبر سفارات السعودية في بلادهم، وقبل مباشرة "الآغا" الجديد للعمل، يكشف عليه الشيخ كشفاً طبياً ليتأكد من حالته، "فلا بدّ من أن يكون رجلاً ليست لديه شهوة، ثم يعرّف بنظامهم وعاداتهم المعهودة ليرفع الشيخ ملفه إلى الوزارة ويباشر أعماله"، كما جاء في حوار سالم فريد يمني عبر مجلة اليمامة.

ونظراً إلى أصول "الأغوات" الأفريقية، فلم يكن يتم تعيين الجدد من بلاد مختلفة، إلا أن الحج رمى بـ "آغا" جديد في المجموعة، بعد أن جاء إلى مكة رجل ماليزي الأصل تنطبق عليه الشروط الشرعية والجسدية، وطلب الالتحاق بهم بإلحاح، ولم يكُن من شيخ "الأغوات" حينها إلا أن يوافق على الطلب لكن من دون منحه الجنسية السعودية كما جرت العادة.

واستمر الماليزي في الخدمة مدة قاربت ست سنوات، فضّل بعدها العودة إلى بلاده وإعفائه من الخدمة، مبرراً موقفه أن "جميع الأغوات في الحرم حبشيون وأنا الوحيد الماليزي بينهم، ولا أعرف ما يقولون"، بحسب ما أورده سالم فريد يمني، المشرف على شؤون "الأغوات" ووكيلهم الشرعي سابقاً عبر منشور في مجلة اليمامة.

مهمات حصرية ونظام دقيق

وعرفت هذه الشريحة بمهمات تصل إلى 40 مهمة لا يقوم بها أحد غيرهم، بداية بغسل وتنظيف الحجرة النبوية الواقعة شرق المسجد النبوي، بماء الورد ونهاية بتعطيرها بالمسك والعنبر.

ويضيف الدعجاني، "تشمل المهمات الموكلة لخدام الحرمين حفظ المسجد نهاراً والمبيت فيه وحراسته وإضاءته ليلاً، وتفريق الرجال والنساء بعضهم عن بعض، وتغيير كسوة قبر النبي سنوياً".

ويمتلكون سلّماً وظيفياً أقرب ما يكون إلى الرتب العسكرية، فيكون منهم "شيخ للحرم ونائب له، وشيخ للأغوات، والأمين، والمشدي، ويليهم خبزي ونصف خبزي، ثم شيخ بطال، وولد عمل، وأخيراً المتفرقة".

 

ويبدو أن الخبرة هي الشرط الأساس للتنصيب على المراتب الوظيفية، ويقول حسان طاهر، "يصبح الأقدم هو شيخ الأغوات وهو الناظر على أوقافهم والمسؤول الأول عن سير عملهم في الحرمين، وإذا توفي تتم ترقية النقيب ليكون شيخاً عليهم والأمين نقيباً وهكذا".

ويشير العياشي في "ماء الموائد" إلى أنه "إذا خلت وظيفة من الوظائف بالموت أو أي سبب آخر، فإنها تملأ من الرتبة التي تليها"، إلا أن الزمن الطويل كان له تأثيره في سلّم رتب "الأغوات" ومهماتهم لتصبح واجباتهم تشريفية ومراعية لأوضاعهم الصحية.

ويقول المؤرخ والباحث في شؤون المدينة حسان طاهر، "كانوا يقومون بعدد من الوظائف المهمة داخل الحرمين المكي والنبوي، وصلت إلى أكثر من 40 مهمة، وتحولت مع الوقت إلى مهمات تشريفية مثل استقبال الملك والوفود الرسمية وتنظيف الحجرة النبوية".

الدولة السعودية لم تغيّر شيئاً

وعن مهماتهم في العصر الحالي تحت إشراف الدولة السعودية، يقول الدعجاني، "منحتهم الدولة الجنسية السعودية ويتبعون وظيفياً شؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، لتتولّى شؤونهم وتصرف مستحقاتهم ورواتبهم وأي إكراميات تمنح لهم وتدير الأوقاف الموقوفة لهم".

وكان قد صدر مرسوم ملكي في عهد الملك عبد العزيز 1927، جاء فيه، "بخصوص أغوات الحرمين، لا يحق لأحد أن يعترض عليهم أو يتدخل في شؤونهم"، ويشير الدعجاني إلى أنه لحق هذا المرسوم نظام خاص بهم وقرار لمجلس الوزراء في 1971، ينص على أن يبقى "الأغوات" على عاداتهم وتقاليدهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتشير بعض المصادر إلى أنه تم منع تعيين "الأغوات" عام 1978، على إثر فتوى أصدرها المفتي العام للسعودية آنذاك الشيخ عبد العزيز بن باز، مبرراً ذلك بضرورة "عدم تشجيع الاعتداء على الغير بهدف الوصول إلى شرف خدمة الحرمين"، بعد أن شاع أن آباءهم كانوا يتعمّدون إخصاءهم لإرسالهم إلى الخدمة في السعودية.

ليسوا زاهدين بالضرورة

جاء جلّهم من بلاد عانت الفقر والجوع، وكانوا معدمين ومسلّمين أنفسهم لخدمة المسجدين، إلا أن البعض منهم تحولوا إلى أثرياء، على الرغم من أنهم معينون على المرتبة الـ 33 من نظام المستخدمين، أي أن مرتّباتهم تبدأ بـ2400 ريال سعودي (639 دولاراً أميركياً) وصولاً إلى 2910 ريالات (775 دولاراً أميركياً)، ويتسلّم شيخهم 3350 ريالاً (893 دولاراً أميركياً)، كما أشارت دراسة أم القرى.

والسبب وراء الثراء الشديد لم تكن الرواتب بالطبع، بل المكافآت والهبات التي تصلهم والتجارة التي مارسها بعضهم.

وتُقدّم لخدام الحرم هبات بشكل مستمر من الحكام والسلاطين، ويقول العياشي في "ماء الموائد" في وصفهم، "طائفة لهم ديار، وخدم، وأتباع، وضياع، وخير وسعة دنيا، ولا يشغلهم همّ، هم بصدده من خدمة المسجد".

 

ويمتلك "الأغوات" عدداً من الأوقاف الموزعة في المدن المختلفة، فهم أغنياء مالياً لكنهم لا يورثون ولا تحقّ لهم هبة أموالهم من الأوقاف أو التصرف بها، بل تحوّل بعد موتهم إلى أقرانهم الأحياء على شكل أوقاف أيضاً، وعلى الرغم من أنهم كانوا يتلقّون الهبات والأوقاف الزهيدة، إلا أنها الآن أصبحت تساوي مئات الملايين، وتتوزع بين فنادق وعمائر وأراضٍ.

ويوضح الوكيل السابق سالم يمني في المصدر ذاته المشار إليه سابقاً، أنه "بحسب النظام، فإن الآغا يرث الآغا عند وفاته، إلا أنني فضّلت في السنوات الأخيرة معرفة إذا كان للمتوفي منهم أقارب، إخوة أو أخوات أو والدان لنرسل إليهم ما نجده في منزله من مبالغ وما شابه، لأنه ليس من الجائز حرمان الأهل من تركته".

وأما في ما يخص أوقاف خدام الحرمين، فيقول يمني "تموت حصته معه من الوقف ويوقف راتبه".

أثرهم في الحرم

وينبغي على كل من زار المسجد النبوي أن يرى مكاناً كثرت حوله الروايات، يبدو مرتفعاً عن الأرض وتحيط به حواجز من النحاس الأصفر اللامع، فيه رجال بأزياء زاهية هم "الأغوات".

وتقع الدكة التي ترتفع عن الأرض نحو 40 سنتيمتراً يسار الحجرة النبوية، كانت تستخدم في عهد الرسول كمكان لأهل الصفة الذين كان يصرف لهم ما يحتاجون إليه من غذاء وكساء، وكان أهل الصفة يخدمون الرسول ويجاهدون في سبيل الله.

ويضيف الباحث التاريخي الدعجاني، "تعرف الدكة قديماً بدكة شيخ الحرم، وكان خلفها دولاب صغير يضع فيه الأغوات حوائجهم".

وأما في مكة، فلم يعلق مكانهم في ذاكرة الزوار، إذ وجد لهم مكان يسمّى بـ"مقعد الأغوات" يجمعهم خلال اليوم، ليتغيّر بعد مشاريع التوسعة إلى مكان بجوار أحد الفنادق.

أصل اللفظ

الكلمة التي تكوّنت من ثلاثة أحرف جعلت التاريخ حائراً بين أصولها التي تتناقض تارة مع المدينة التي اشتهروا فيها وتتقارب تارة أخرى، فالكلمة تم استعمالها في اللغة الكردية والتركية والفارسية على حد سواء.

ويشير حسن الباشا في الفنون الإسلامية إلى أن معناها في الكردية مرتبط بلقب يطلق على الشيوخ والكبار، كما أنها كانت منقوشة على نقودهم.

 

أما في تركيا، فيشير البيتوني في الرحلة الحجازية إلى أنها "تستعمل بمعنى رئيس أو سيّد في الجزء الغربي من تركيا، أما في الجزء الشرقي من البلاد، فتستعمل بمعنى الأخ الأكبر".

وعلى الرغم من التاريخ الممتد لـ"الأغوات"، لا تزال الضبابية تحيط بعنوانهم، إذ يشير الباحث منصور الدعجاني إلى أن "مدلولاتها تختلف بحسب الدولة فتعني شيخاً، وتعني مخصياً عند البعض الآخر، وأما في الحجاز، فهي تطلق على الخصيان الذين يقومون بوظائف خاصة لخدمة الحرمين".

ويبدو أن الفارسية لم تذهب بمعناها بعيداً من الحجاز، وتشير دراسة تاريخية حضارية لـ "أغوات" المسجد الحرام والمسجد النبوي أصدرتها جامعة أم القرى، إلى أنها استخدمت لديهم بمعنى المخصي، ويوضح الدعجاني، "لعل الكلمة أطلقت على أغوات الحرم لهذه الأسباب مجتمعة".

توثيقهم قبل الانقراض

وفي وصفهم عبر الرحالة العربي لابن بطوطة، "الأغوات على هيئات حسان وصور نظاف وملابس ظراف، وكبيرهم يعرف بشيخ الحرم، وهو في هيئة الأمراء الكبار"، ووصفهم ابن جبير قائلاً، "ظراف الهيئات، نظاف الملابس والشارات".

ويتكون زيّهم الذي خطف أنظار المؤرخين، بحسب وصف الرحالة السويسري بيركهارت من "عباءة لطيفة على ثوب حرير مطرز بكثافة، ومفصل بأسلوب إسطنبولي، وله خنجر مرصع بالجواهر يربط على وسط الآغا بحزام، وتعتلي الزي طاقية عالية على رأسه".

وفي حديثنا مع المصور عادل القريشي والذي وثّق حياتهم في كتاب مصور،يقول، "شاهد أمير منطقة المدينة المنورة أغوات المسجد النبوي في أول زيارة له، وأحس بأهمية توثيق حياتهم، خصوصاً بأنهم آخر جيل من خدام الحرمين، فبدأت رحلة البحث مع رسّام سعودي ليرسمهم".

ويبدو أن التجاعيد التي اعتلت وجوههم كان لها من عدسة القريشي نصيب، إذ يضيف، "ربما لم تجد الإمارة رساماً مناسباً، ليتم تكليفي بمهمة توثيق حياتهم من قبل أمير المنطقة".

ووصف القريشي المعارض التي أقامها والكتاب الذي حمل تفاصيلهم بـ"العالم الذي يعيشون فيه"، ويقول، "انطلقت من تكليف التوثيق إلى تصوير المسجد النبوي القديم بأكمله".

وعلى الرغم من أن تاريخ خدام الحرم يمتدّ مئات السنين، إلا أن الجماهير تتضوّر جوعاً للمزيد من التفاصيل حولهم، ويروي عادل القريشي أنه "منذ أوائل الصور التي نشرتها إلى آخرها، قوبلت بنجاح شديد، فالناس يهتمون بشكل كبير بمعرفة تفاصيل هذه المجموعة المهمة".

والمعارض التي احتضنت ملامحهم وجالت المدن المختلفة لم تكن بعيدة من نجاح الصور الأولى، ويوضح القريشي، "كان للأغوات نور وبركة على العمل الذي نجح في كل مكان عرضته فيه، إلا أن أصحاب الشأن نفسهم لم تكن لديهم حماسة كبيرة لزيارة المعارض، وفي أول معرض أقيم في المدينة حروف وإضاءات لم يحضره إلا واحداً منهم فقط".

واختار القريشي اسمهم ليضعه على الكتاب الذي نشره أخيراً، على الرغم من أنه ليس حصراً عليهم بل على المسجد النبوي القديم بتفاصيله كاملة، وعن سبب ذلك يقول، "هم العنصر الذي فرض نفسه، لأنه إذا صنع أحدهم كتاباً عن المسجد بعد 10 سنوات ربما لن يكون هناك وجود للأغوات، وأنا وجدت في هذا حقاً لهم لإبرازه إعلامياً وتاريخياً".

والمسرح الذي ضم شخصياتهم وشهد على أدوارهم ووظائفهم وقصصهم عبر مئات السنين هو لُبّ الكتاب، إلا أن القريشي يقول بأسف، "في وقت توثيقي لهم كانوا كباراً في السن، فلم يكونوا يعملون في المسجد، يحضرون للصلاة فقط ويغادرون بعدها، المهمة الوحيدة التاريخية التي شهدت عليها هي مفتاح الحجرة النبوية".

ويبدو أن فضول القريشي لم تشبعه الصور الأولى، حتى خاض جهاداً مدة ثلاثة سنوات في محاولة للكشف عن سر مفتاح الحجرة، "بعد انتهاء معرض المدينة الأول، انتهت علاقتي بالموضوع، إلا أنني عرفت لاحقاً بقصة مفتاح الحجرة النبوية من أحد المقربين منهم، وهو الذي لم يرَه أيضاً، كونه كالسر المكنون وهو ما أثار حماستي لتوثيقه".

وحاول القريشي بشتّى الطرق إقناعهم بالسماح له بتصوير مفتاح الحجرة الذي يخفونه، إلا أن "شيخ الأغوات تماماً بسبب وصية الشيخ الذي سبقه، عندما سلّمه إياه واشترط عليه عدم إظهاره للعامة. وبعد محاولات، اقتنع الشيخ شرط أخذ التصاريح اللازمة، ليكون بذلك أول ظهور لمفتاح الحجرة النبوية".

وعبر موقفهم من مشروعه، قال القريشي، "لم يكن الأغوات متحمسين لتوثيقهم وتصويرهم في بداية الأمر، بل كان التوثيق كأي مهمة يطلبها منهم رئيسهم، إلا أن الكتاب بعد نشره كان فارقاً، وعبّروا عن سعادتهم في حفظهم التاريخي للأجيال المقبلة".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات