Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"صائد غزلان" افتتاح صاخب للسينما المعادية للحرب

لعنة فييتنام تطارد المخرج مايكل تشيمينو حتى آخر سنوات عمره

مشهد من فيلم "صائد الغزلان" (موقع الفيلم)

قد يكون من المبالغة مجاراة البعض في القول إن السينما الهوليوودية المشاكسة ساهمت إلى حد كبير في الهزيمة التي أحاقت بالسياسات والحروب الأميركية في فيتنام. صحيح أن ثمة أفلاماً حققت والحرب لا تزال قائمة هناك، ولعبت دوراً ما (فيلم لبيتر واتكنز من هنا، وأفلام لسينمائيين أوروبيين من هناك...)، ولكن الأفلام الأكثر مشاكسة وشعبية، والتي ارتبطت بحرب فيتنام، لم تحقق إلا بعد أن انتهت تلك الحرب فعلاً باستعادة الفيتناميين سايغون عام 1975. ومن هنا قد يكون من الأصح القول إن السينما الهوليوودية الجديدة ساهمت في راحة الضمير التي غمرت الشعب الأميركي لاحقاً إزاء حرب رآها معظم ذلك الشعب ظالمة ومكلفة بالأرواح خاصة. ولقد أتت تلك الأفلام لتشرف الشعب الأميركي وتقول إن القسم "الحربجي" منه كان فئة ضئيلة من سياسيين وتجار أسلحة وأيديولوجيين، أما أكثرية الشعب فلم تكن مؤيدة لهؤلاء. وحسب السينما أن لعبت هذا الدور عبر أفلام مفصلية أحدثت ثورة كبرى في الذهنيات الأميركية، وفي هوليوود نفسها.

السينما ضد الحرب

كان "صائد الغزلان" واحداً من تلك الأفلام التي يمكن عادة وصفها بالمفصلية، بمعنى أن السينما التي تليها لا تأتي بالضرورة مختلفة عن تلك التي سبقتها. فإذا كنا نعرف أن نوعاً معيناً من السينما الهوليوودية قد لعب في سنوات السبعين دوراً أساسياً في مناوأة تلك الحرب الظالمة التي كانت القوات العسكرية الأميركية تشنها على بعد آلاف الكيلومترات من التراب الأميركي بحجة أن الأعداء يشكلون هناك خطراً على الأميركيين، وإذا كانت عناوين عدد لا بأس به من أفلام ذلك النوع تظل ماثلة في الأذهان حاملة تواقيع نحو نصف دزينة وأكثر من كبار سينمائيي "هوليوود الجديدة" في ذلك الحين (مارتن سكورسيزي في "سائق التاكسي"، وفرانسيس فورد كوبولا في "يوم الحشر الآن"، وستانلي كربريك في "سترة معدنية كاملة"، يتبعهم تيرنس مالك وأوليفر ستون، وغيرهما)، فإن البداية كانت مع صاحب الاسم الذي يبدو اليوم الأقل شهرة بين تلك الأسماء، ومع فيلمه الذي يبقى الأكثر قسوة، وربما الأكثر التباساً على أية حال. ومن نتحدث عنه هنا هو مايكل تشيمينو صاحب "صائد الغزلان" الذي شهد ما يمكن اعتباره بداية تلك الموجة السينمائية التي ساهمت في رد الاعتبار للأميركيين وهزيمة البيت الأبيض والبنتاغون بشكل واضح مؤلبة عشرات الملايين من الأميركيين ضد حرب كانت أميركا تخسرها بشكل متواصل دون أن يدرك سياسيوها مغزى تلك الخسارة وأسبابها غير متنبهين إلى ما راحت السينما تقوله لهم في وقت تحدث فيه ثورة جديدة في أذهان الأميركيين ستنعكس على السينما وعلى السياسة وعلى المجتمع وذهنياته. وطبعاً من الصعب هنا أن نفترض بأن تشيمينو كان صاحب الدور الأول، ولا أن "صائد الغزلان" كان فاتحة كل ذلك، ولكن الفيلم لراهنيته والمخرج لجرأته قدما مساهمة أساسية لا شك أنها تشرف فن السينما.

النسيان عقاب قاسٍ

والحقيقة أن مايكل تشيمينو لم يكن في حاجة لأن يرحل عن عالمنا قبل سنوات قليلة، شبه منسي من المتفرجين كما من أهل المهنة أنفسهم، كي تهدأ السجالات من حوله وحول سينماه. فهذه السجالات كانت قد هدأت منذ زمن بعيد. والمواضيع نفسها التي حركتها اندثرت كما يبدو أمام تغيرات في العالم كان من شأنها أن تذهل تشيمينو لو كان على وعيه التام خلال سنواته الأخيرة، لكن صاحب "صائد الغزلان" و"باب السماء" كان غائباً عن كل شيء، ولا سيما عن السينما، هو الذي كان منذ سنوات السبعين كلي الحضور في الفن السابع. ولا سيما بفضل "صائد الغزلان" الذي حققه أواخر سنوات السبعين، حين كانت ذكرى الحرب الفيتنامية لا تزال ماثلة إثر الهزيمة الأميركية، وكان الفن السابع قد بدأ اهتمامه بها. ونعني بهذا الأفلام الجماهيرية وليس السينما النخبوية التي كانت قد غاصت في الحرب الفيتنامية منذ البداية بأفلام توجه الإدانة إلى الأميركيين دون لف أو دوران.

الصورة الأكثر التباساً

أما تشيمينو، فلم يوجه تلك الإدانة، بل سيكون في مقدمة سينمائيين جعلوا الصورة أكثر التباساً. صحيح أنهم، ومن بينهم فرانسيس فورد كوبولا، ثم ستانلي كوبريك، وربما حتى إيليا كازان ومارتن سكورسيزي، لم يبدوا راضين عما فعلته أميركا هناك، لكن الجريمة بالنسبة إليهم كانت في حق الأميركي أكثر مما في حق الفيتنامي. وفي هذا الإطار بدا وكأن تشيمينو قد سبق الجميع في "صائد الغزلان" الذي لا يدور إلا جزؤه الأوسط في فيتنام، ولا يعطي شفعة للفيتناميين أنفسهم، إنما دون أن يقول في المقابل أن قضيتهم ليست محقة. قد تكون محقة، يقول الفيلم، لكن أصحابها لا يقلون وحشية عن المعتدين الأميركيين. وكان واضحاً أن "وحشية" هؤلاء الأخيرين، غير المرغوبة أصلاً، كانت هي ما هم تشيمينو. ومن هنا، إذا كان الأميركيون قد تقبلوا فكرته وتعاطفوا مع شخصيات الفيلم غير عابئين بمصير الأعداء لم يرَ الأوروبيون هذا الرأي، فهاجموا المخرج واتهموه بالعنصرية حين عرض فيلمه في مهرجان برلين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ليس في الحرب أبرياء

كما قلنا، الجزء الأساس من "صائد الغزلان" يدور في أميركا لا في فيتنام. في هذه الأخيرة لا نجدنا إلا أمام حرب يستشرس ويتوحش فيها طرفاها، حيث إنه في مشهد كان هو محور الفيلم ومدار سجالاته الأوروبية خاصة، نواجه من عنف الفيتناميين و"وحشيتهم" عبر فرضهم على أسراهم الأميركيين القيام بلعبة "روليت روسية" مرعبة، تفوق في قسوتها كل مشاهد القتال في فيتنام مجتمعة. ومن حول المشهد المركزي لتلك اللعبة القاتلة التي تقول لنا إنه ليس في الحرب أبرياء، رسم تشيمينو حكاية مجموعة من شبان أميركيين كانوا رفاقاً في وطنهم الأصلي يعيشون حياتهم اليومية وأشغالهم وغرامياتهم وعلاقاتهم بدعة وهدوء حتى هجمت عليهم الحرب الفيتنامية فسيقوا إليها مجندين لينقلبوا وحوشاً كما حدث مع أعدائهم. كلهم هنا ضحايا، وكلهم جلادون. حتى وإن كان ثمة من اعتدى وثمة من اعتدي عليه. ففي خضم القتال تنتفي هذه التصنيفات ويصبح الجميع وحوشاً. وطبعاً كان يمكن السجال طويلاً حول هذه الفرضية، وكان السجال قوياً وعنيفاً بالفعل، لكن الفيلم قال كلمته في نهاية الأمر، وافتتح سينما ما بعد فيتنام، واضعاً حداً لسينما البراءة، سواء أكانت حقيقية أو مفتعلة، لكن تشيمينو نفسه لم ينفد بجلده من المعمعة.

لم ينفد المخرج بجلده

منذ تلك اللحظة صارت هناك تلك اللعنة التي لاحقت المخرج حتى نهايات حياته، منغصة عليه حتى فوزه بخمس جوائز أوسكار أساسية عن "صائد الغزلان"، واعتبار كثر له واحداً من أفضل أبناء جيله من السينمائيين. ولقد زاد الطين بلة الفشل التجاري الذي كان من نصيب عمله، الكبير التالي "باب السماء" الذي أحبه الأوروبيون هذه المرة، ولم يستسغه الأميركيون، فكان أن بات واحداً من أكثر الأفلام فشلاً في تاريخ هوليوود، بل أوصل منتجته شركة "يونايتد آر تستنر" إلى الإفلاس.

بعد ذلك، تباطأت وتيرة إنجازات تشيمينو السينمائية، وكأن لعنة "فيتنام" أصرت على ملاحقته، فكان مجموع ما حققه، حتى عام 1996 حين توقف نهائياً عن تحقيق الأفلام سبعة أفلام في 21 عاماً، بدأها بـ"تاندربولت أند لايتفوت" الكوميدي مع كلينت إيستوود وجيف بريدجز في عام 1972، لينهيها بـ"سانتشايزر" مع وودي هارلسون في عام 1996، حيث كان آخر ظهور سينمائي كبير له، ورشح لسعفة ذهبية لم ينلها. وهو منذ ذلك الحين أخلد إلى الراحة والصمت معترفاً بأنه بات جزءاً من الماضي، معتبراً أنه واحد من المخرجين الذين أساء النقاد فهمهم مدافعاً حتى لحظاته الأخيرة وإن برهن عن أفلامه، ولا سيما "صائد الغزلان"، و"عام التنين"، وبخاصة "الصقلي" عن حكاية سلفاتوري جوليانو، الفيلم الذي ربطه عام تحقيقه بجذوره الإيطالية، لكنه لم ينقذ سينماه من خط الانحدار الذي راحت تغوص فيه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة