Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تقرير حكومي بريطاني يؤجج الجدال في العنصرية عوض أن يخمده

لطالما استُخدمت التحقيقات الرسمية كما لو كانت سهاماً للتهدئة تُطلق على الرأي العام حين ينتابه الغضب بسبب بعض الظلم أو الإخفاق الحكومي

بحسب تقييم مستقل يتعرض أصحاب البشرة السوداء في بريطانيا بأكثر من الضعفين للوفاة أثناء احتجاز الشرطة لهم (أ ب)

لقد عادت الحكومة إلى أسلوب المفتش كلوزو (شخصية المفتش البوليسي المغفل في فيلم كوميدي يحمل اسمه) الذي جُرِّب على نحو جيد، من خلال التحقيق العام الذي كانت الغاية منه هي تجريد الاتهامات المتعلقة بالعنصرية المؤسساتية من صدقيتها وقد فعل العكس تماماً. وجاء هذا الجزء من الأذى، وهو من النوع الذي يجلبه المرء لنفسه، بعد وقت قصير من الجهود التي بُذلت لقمع احتجاج في منتزه "كلابام كومون"، مع أنها لم تتبلور أو تنضج تماماً، فأدت إلى ضمان شيوع أخبار الاحتجاج في أنحاء العالم.

تشترك هاتان الكارثتان التوأم في خصائص مهمة. والواقع أن الحكومات تقنع نفسها دائماً بسهولة بأنها تتعامل مع مجموعة صغيرة من الخصوم الذين يمكن ترهيبهم أو تهميشهم من دون صعوبة كبيرة. وحين تخفق في إرهاب خصومها أو تهميشهم، يكون رد فعل الحكومة مبالغاً فيه يعتمد بشكل متزايد على خطاب مسيء أو تهديد باللجوء إلى القوة. وهي بالتالي تتصرف على نحو ساذج يجعلها، عملياً ومن دون قصد، تجند المزيد من المتطوعين الجدد لخدمة القضية نفسها التي تسعى إلى تقويضها أو إزالتها نهائياً.

لطالما استُخدمت التحقيقات الرسمية في بريطانيا بنجاح كما لو كانت سهاماً للتهدئة تُطلق على الرأي العام حين ينتابه الغضب بسبب بعض الظلم أو الإخفاق الحكومي. وكي يتمتع التحقيق بالصدقية، ينبغي أن يقوده أشخاص مشهود لهم بالكفاءة العالية ممن يُصدرون في الغالب تقارير تشتمل على انتقادات، ما يجنبهم في نهاية المطاف التعرض لاتهامات بأن تحقيقهم كان يرمي إلى التلاعب بالحقائق. إلا أن تقاريرهم تخرج إلى النور بعدما تكون أجندة الأخبار قد تجاوزت المسألة أو المسائل التي نظروا فيها بوقت طويل. سينحسر الضغط السياسي الذي تتعرض له الحكومة، ما يعني أن التقارير التي تحثّ على اتخاذ إجراءات فعلية تحل عملياً محل الإجراءات المطلوب اتخاذها لمعالجة المسألة ذات العلاقة. والآن تذكر، إن كنت تستطيع، تقرير شيلكوت الذي اتسم بالوقار عن حرب العراق، والذي تم طبعه في نهاية الأمر في عام 2016، وسرعان ما طواه النسيان؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وقد خرق تقرير "اللجنة الخاصة بالعنصرية والتفاوتات العرقية" الذي صدر مؤخرا كل هذه القواعد، وأثبت على نحو يدعو إلى السخرية بأنه حقق نتائج جاءت بعكس ما أُعد من أجله، فأجّج الجدال نفسه الذي كان يفترض به أن يخمده نهائياً. كان الولاء الحزبي لأعضاء فريق إعداده من التطرف ما جعل تقريرهم يبدو غريباً وكأنه نتاج أشخاص غريبي الأطوار. واللافت أنه يحتوي على عبارات تثني حتى على العبودية في منطقة البحر الكاريبي كمؤسسة تقدمية، على حد تعبيره. ولا ننسى أنه خرج إلى النور في خضم محاكمة ديريك شوفين، الشرطي الذي يخدم في مينيابوليس، المتهم بقتل جورج فلويد.

ومن وجهة نظر الحكومة ربما كان هذا عبارة عن عيب بسيط كالفوائد التي جنتها من توزيع اللقاح، غير أن هذا العيب قد يكون مؤشراً على الاتجاه السام الذي تمضي فيه السياسة البريطانية. وفي سياق حماسته المضادة ليقظة الناس ورفع مستوى الوعي، أثار التقرير حفيظة الناشطين المناهضين للعنصرية وبعث فيهم النشاط. إنه مليء بسخافات من نوع التأكيد على أن الإنجازات العلمية في مجال التعليم العالي لأبناء الأقليات تُظهر أنهم لا يعانون من التمييز. مع ذلك فإن تاريخ العنصرية المضادة لأصحاب البشرة السوداء والعداء للسامية في الولايات المتحدة الأميركية وفي أوروبا، يبين أن أولئك الذين يتعرضون للتمييز يدركون أن عليهم أن يحصلوا على خبرات عالية المستوى حتى يستطيعوا التغلب على العنصرية التي تستهدفهم. وقد يؤدي نجاحهم في حد ذاته إلى تأجيج عداء عرقي وطائفي أكبر ضدهم في أوساط أولئك الذين ينافسونهم على الوظائف ذاتها.

والمفارقة التي تميز هذا التقرير عن العنصرية تتجلى في أنه ربما يكون قد ساعد على تحويل المشكلة التي درسها إلى قضية سياسية حية في بريطانيا، وذلك على أكبر وأكثر تأثيراً من المساعدة التي استطاع أن يقدمها أي واحد من التحقيقات الأرفع مستوى منه التي أجريت في الماضي وكانت توصياتها قد نالت الثناء ليوم أو يومين ثم تم تجاهلها وغابت في عالم النسيان. وقد عادت العنصرية لتظهر من جديد على أجندة الأخبار إلى درجة ربما لم يكن ناشطو حملة "حياة السود تهم" يأملون في تحقيقها.

وكان التفكير المشوه نفسه مصدر إلهام لمشروع قانون الشرطة، والجريمة، وإصدار الأحكام والمحاكم" الذي قدمته بريتي باتل وزيرة الداخلية. وهو يزيد بشكل كبير صلاحيات الشرطة بحيث يصبح بوسعهم التحكم في التظاهرات أو حظرها ومعاقبة المشاركين فيها ومنظميها. غير أن هذا يفتقر إلى نقطة جوهرية تهم تأثير أو عدم تأثير الاحتجاجات في أي مكان في العالم.

إن هذه الأعمال تتمتع ببعض التأثير كعرض عضلات من جانب الأشخاص الذين يتبنون معتقدات مشتركة بين بعضهم بعضاً. ومن الأمثلة على ذلك المسيرات الهائلة لأنصار بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي ممن عارضوا البريكست، والتي شهدتها شوارع لندن بين عامي 2016 و 2019. برهنت تلك المسيرات أنه كان هناك، ملايين الناس ممن أرادوا بقاء المملكة المتحدة ضمن الاتحاد الأوروبي، بيد أننا نعرف ذلك سلفاً من نتائج الاستفتاء.

وفي نهاية المطاف، كل هذه المسيرات والمنظمات التي شاركت فيها، قد أحدثت تأثيراً إيجابياً محدوداً. وأرى بحكم تجربتي، أن المشاركة في تلك المسيرات التي تنطلق من دون حوادث تبعث على الملل، وتبعث مراقبتها على الملل أيضاً، كما أنها تكون مملة من وجهة نظر وسائل الإعلام، ولذا فهي تحظى بتغطية إعلامية محدودة.

ومع ذلك فإن المسيرات الاحتجاجية والتظاهرات هي من وحدات الدفع في التاريخ، القادرة على إسقاط الحكومات وإطاحة الأنظمة التي اعتقدت أنها كانت تحكم قبضتها على السلطة. والسمة المشتركة في نجاح هذه الاحتجاجات هي أنها تثير عن قصد ومن دون قصد رد فعل عنيفاً مبالغاً فيه من جانب السلطات. ولعل المثال الأكثر وضوحاً على ذلك هو مسيرة الحقوق المدنية في ديري بإيرلندا الشمالية في 5 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1968، وقد هاجمتها الشرطة - التي كان يهيمن عليها أتباع المذهب البروتستانتي- أمام عدسات الكاميرات التلفزيونية، فبدأت دولة إيرلندا الشمالية تتداعى.

كان ينبغي أن يكون الدرس المستخلص من تلك الحادثة واضحاً إلى حد ما، بيد أن فكرة حمقاء حملت السلطات على تكليف المظليين بمراقبة مسيرة مناهضة للاعتقال كانت ستنظم في ديري نفسها أيضاً، فأردى هؤلاء العسكريون 13 قتيلاً من المدنيين في ذلك اليوم المشهود الذي يُعرف بـ"الأحد الدامي"، وبهذا نزعوا صفة الشرعية عن الدولة البريطانية في عيون الكاثوليكيين.

والواقع أنني لطالما شعرت بالحيرة من سبب مبالغة الحكومات بالرد، واستعمال العنف ضد محتجين مسالمين ليسوا تهديداً خطيراً، وحين يكون من الواضح جداً أن مصلحة السلطات تقتضي منها ألا تتصرف على هذه الشاكلة. هناك يكمن عادة حافزان متناقضان وراء ما يجري هنا. يتمثل الأول في التقليل من شأن المحتجين واعتبارهم مجرد أقلية غير نموذجية يمكن سحقها بأمان من دون أن يثير ذلك اعتراضات على مستوى المجتمع الأوسع. والحافز الآخر، الذي تعتبر الأنظمة الاستبدادية خصوصاً عرضة له، هو المبالغة في تقدير الخطر الذي يتهدد القيادة جرّاء مسيرات الاحتجاج الجماهيرية في الشوارع، والتي يحاولون قمعها بعنف شديد.

شاهدت بنفسي مثالاً بشعاً على رد الفعل المبالغ فيه لقوات الأمن المسؤولة عن ظهور هذه الحركة الاحتجاجية القوية في بغداد في أكتوبر 2019. ولقد تحدثت إلى منظمي بعض الاحتجاجات التي تمتعت بمشاركة ضئيلة وقد نُظمت للمطالبة بفرص عمل والإعراب عن رفض الفساد الحكومي. وكان هؤلاء الذين تحدثت إليهم غير متيقنين من احتمال نجاحهم في تحقيق أي نتيجة. لكن بينما كنت في غرفتي في الفندق القريب من موقع الاحتجاج في مركز المدينة، سمعت جلبة إطلاق عيارات نارية سرعان ما تبين أنها صادرة عن قوات الأمن التي كانت تفتح النار على محتشدين مسالمين لتقتل 18 منهم. وفي غضون أيام، كانت الاحتجاجات تهز العراق من أقصاه إلى أقصاه.

ينجح القمع في بعض الأحيان وتقتل الحكومة أو تخيف عدداً كافياً من الناس لإبعاد الاحتجاجات عن الشوارع، كما يحاول الجيش أن يفعل حالياً في ميانمار. ولكن بمجرد أن تسير الحكومة في هذا الطريق، فإنها تكون قد بلغت نقطة اللاعودة إذ لا مجال للتراجع بعد ذلك، ويصبح وجود الحكومة في حد ذاته موضع أخذ ورد.

لطالما كانت هناك في بريطانيا آليات فعالة لخفض درجة السخونة السياسية وتفريغ شحنات الانتقاد الموجهة إلى الحكومة، وذلك بإجراء تحقيقات مرموقة وتنظيم احتجاجات جماهيرية، غير أن أياً من هذين الأمرين لم يحقق الكثير.

قد تشعر حكومة بوريس جونسون بالندم على التقليل من أهمية أدوات السيطرة التي أثبتت بصورة جيدة فعاليتها. وإذا وُضع قانون الاحتجاجات الجديد موضع تطبيق، فإنه سيثير مواجهات متكررة بين المحتجين والشرطة. لكن إن لم يجد طريقه إلى التطبيق، فإن الحكومة ستشعر عندها أنها تتعرض للتحدي وأن هناك من يصر على جعلها تبدو ضعيفة، وكل هذا يؤدي في النهاية إلى رد فعل مبالغ فيه من شأنه أن يكون ضرباً من التدمير للذات.

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من آراء