Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لعبة الأمم ونزوات التاريخ في "الصلوات الصقلية" لفردي

موسيقى وميلودراما وإبداع مفاجئ لخدمة العلاقات بين الدول

من تقديم معاصر لـ "الصلوات الصقلية" (غيتي)

ما من عمل أوبرالي أتعب الإيطالي جوزيبي فردي بقدر ما أتعبته أوبراه "الفرنسية" المعنونة "الصلوات الصقلية"، التي استغرقه التفكير فيها والعمل عليها نحواً من ست سنوات قطعتها الأحداث الثورية الأوروبية التي اندلعت عام 1848، موقفة كل نشاط فني في العديد من الدول الأوروبية، لا سيما في فرنسا حيث كانت دار الأوبرا فيها هي التي طلبت من فردي ذلك العمل. ولكن، في نهاية الأمر تم إنجاز الأوبرا في 1855 لتقدم في عرض فرنسي أول صيف ذلك العام. ولقد عاد فردي وحوّل النص الذي كان فرنسياً في الأصل من كتابة الفرنسي سكريب، إلى نص إيطالي لتقدم الأوبرا في إيطاليا ومن ثم تنطلق لتصبح جزءاً أساسياً من "الريبرتوار الأوبرالي" العالمي وواحدة من أكبر أعمال فردي على الإطلاق. وهذه المكانة لا تزال هذه الأوبرا تحتلها حتى اليوم، لا سيما في فرنسا حتى وإن كان موضوع الأوبرا يندد بـ"الاحتلال الفرنسي" لجزيرة صقلية في القرن الثالث عشر ليتحدث عن مقاومة الصقليين للمحتلين. ولقد حظيت هذه الأوبرا بأكثر النصوص النقدية تقريظاً بأقلام فرنسية منها قلم هكتور برليوز، الذي امتدح في نصّ شهير له ما في هذا العمل من "كثافة تلحينية معبرة، وتنوع رائع في الأداء التوزيعي الأوركسترالي وفساحة في الشاعرية والتلوين البديع الذي يشع في كل لحظة فيها معطياً لهذه الأوبرا طابع العظمة الإستثنائية". ومن هنا لن يكون غريباً أن يكون النجاح الدائم الذي تحققه هذه الأوبرا في فرنسا يفوق نجاحها في أي مكان.

من قلب تاريخ قاس

هذه الأوبرا التي انبنت على أساس مسرحية بالعنوان نفسه للكاتب كازيمير ديلافينيْ قُدمت للمرة الأولى عام 1819، تنطلق كما حال أوبرا "دوق آلب" لدينوزيتي (1838) من أحداث تاريخية حقيقية عرفتها صقلية في عام 1282 تحديداً، يوم اندلعت تلك الثورة التي استعارت كاسم لها اسم نوع خاص من الصلوات الكاثوليكية الصقلية يعرف باسم I vespri siciliani، في تعبير سياسي بأكثر مما هو ديني.

ولكن وكما يحدث في هذا النوع من الأوبرات عادة، تنحو هذه الأوبرا إلى "شخصنة" الأحداث الثورية بشكل يجل عدداً محدوداً من الشخصيات يتولى التعبير عن الحالة التاريخية بشكل يحفل بالميلودراما والحكايات العاطفية والجهود الوطنية والخيانات واللقاءات التي تدين للصدفة أكثر مما تدين لأي شيء آخر. ونعرف أن تلك هي الأعراف التي على أساسها يقوم هذا النوع من الأوبرا. غير أن الجديد هذه المرة أتى في دقة المزج الذي أحدثه النص والموسيقى عبر خمسة فصول تحبس على المتفرج – المستمع أنفاسه طوال ما يقرب من ساعتين مليئتين بالأحداث المتعاقبة والمواقف الصاخبة والعلاقات المتغيّرة. باختصار بكل ذلك الحشد من "الخبطات المسرحية" التي تأتي موسيقى فردي لتضفي عليها أبعاداً مدهشة مع تجديدات لعل من أبرزها العودة إلى استخدام الباليه بوفرة في عدد من المشاهد، ناهيك بتعمد الموسيقي الكبير أن يكون ثمة في موسيقى الأوبرا قطعة سيمفونية طويلة نسبياً أراد من خلالها أن يجرب حظه في هذا النوع الموسيقي الذي لم يشتهر به الموسيقيون الإيطاليون اشتهارهم في مجال الموسيقى الأوبرالية. 

ونعرف أنه حتى لو كان فردي قد استخدم افتتاحيات أوبراته الضخمة الأخرى، مثل "نابوكو" و"لا ترافياتا" وبخاصة "عايدة" و"قوة الأقدار" لتجربة حظه في التلحين السيمفوني، فإنه كان يعرف دائماً أن للافتتاحيات أعرافها وللسيمفونيات أعرافها هي الأخرى. ومن هنا تلك الفرصة السانحة في "الصلوات الصقلية" التي ابتهلها ليخوض الموسيقى السيمفونية من أوسع الأبواب فحقق من النجاح هنا ما جعل المقطع السيمفوني يسجل على حدة في بعض الأحيان ويقدّم مستقلاً بذاته في أحيان كثيرة. بالتأكيد أضاف المقطع كثيراً إلى الأوبرا ولكن يبقى المهم هنا هو المتن الأوبرالي. فعمّ يتحدث؟

أحداث التاريخ ولعبة الفن

على خلفية تلك الأحداث التاريخية التي وجدها فردي مناسبة لتقديم ذلك العمل الأوبرالي التاريخي الذي يبدو واضحاً أنه يعني الإيطاليين والفرنسيين معاً، ما يلائم الإنتاج المشترك للعمل، تنطلق الأوبرا ومكان أحداثها باليرمو في صقلية، من المرحلة الزمنية التالية مباشرة لغزو قوات دون آنجو الفرنسية للجزيرة ملحقة الهزيمة بالقائد الثوري الصقلي بروتشيدا الذي يصاب بجروح ثخينة تضعه خارج المعركة. وإذ يحتل الفرنسيون الجزيرة يعينون القائد غي دي مونفور قائد القوات الفرنسية الغازية حاكماً، ويكون من أول الأوامر التي يصدرها مونفور منع الوطني الشاب آريغو من الدخول إلى قصر الدوقة إيلينا شقيقة فردريك ملك النمسا، والتي تكن كراهية عميقة للفرنسيين الذين تشتبه بأنهم هم الذين قتلوا أخاها ومن هنا تحرض أهل باليرمو على الثورة ضد الغزاة. ويعتبر الحاكم الفرنسي أن أي لقاء غرامي بين آريغو وإيلينا سيكون قاتلاً للوجود الفرنسي هناك. في تلك الأثناء يكون بروتشيدا قد شفي من جروحه وعاد من منفاه باحثاً عن حلفاء يناصرونه في حربه ضد الفرنسيين، وهو إذ يتمكن من دخول المدينة يُدبَّر له لقاء مع إيلينا وآراغو، فيبلغهما خلال اللقاء أن بيدرو أمير آراغون وعده بإرسال قوات تطرد الفرنسيين من الجزيرة وأن عليهم في انتظار ذلك أن يطلقوا شرارة الثورة من جديد لنسف جهود التهدئة والسلام التي كان مونفور قد توصل إليها. خلال اللقاء يعلن آراغو حبه لإيلينا مقسماً أنه سوف يساعدها في الانتقام لمقتل أخيها.

"القلبة" الميلودرامية

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهنا وكما يحدث عادة في الحكايات الميلودرامية يكتشف غي دي مونفور أن آراغو هو في حقيقة أمره ابنه. ولكن آراغو يقرر على رغم كشف مونفور هذه الحقيقة له، أن يبقى على ولائه للصقليين. ولكن ذات لحظة، وخلال حفل راقص مقنّع يقام في قصر الحاكم يتجمع عدد من المتآمرين لقتل مونفور... فلا يكون من آراغو الذي أخذته حميّا عائلية مباغتة إلا أن يندفع منقذاً أباه ما يكشف المؤامرة ويؤدي إلى اعتقال المتآمرين ومحاكتمهم ومن بينهم إيلينا التي تواجه آراغو وتبدي له كل احتقارها. أما هو فتوجه إلى السجن لملاقاتها مخبراً إياها بحقيقة كونه ابن الحاكم، واعداً إياها بأن يواصل، على أية حال، نضالهما المشترك ضد المحتلين الفرنسيين. فتهدأ إيلينا وتستعيد حبها له. وهنا يصل دي مونفور مسبغاً الوعد بالعفو عن المتمردين إن قبل آراغو بأن يعترف بأبوته له علناً. يقبل آراغو هذا الشرط وسط سرور مونفور الذي في المقابل سيوافق على زواج آراغو من إيلينا.

وهكذا، يتم التفاهم الذي توافق عليه إيلينا ولكن في تلك اللحظة بالذات يصل بروتشيدا الذي يخبر إيلينا سراً أن الثورة سوف تبدأ ما إن تنطلق أجراس الكنيسة معلنة اقترانها بآراغو. تضطرب إيلينا... لكنها في الحقيقة تحب وطنها وما باليد حيلة. وهكذا فيما هي واقفة قبالة عريسها داخل الكنيسة التي امتلأت بالمحتفلين، وهم يصغون جميعاً إلى صوت الأجراس تُقرع... تنطلق الثورة وتتوقف الأحداث الأوبرالية مع موسيقى حرص فردي على أن تكون من أقوى ما كتبه لأية واحدة من أوبراته الكبرى!

المجد من باب عريض

من الناحية الزمنية، تتوسط هذه الأوبرا المسار الإبداعي والمهني لجوزيبي فردي (1813–1901)، وهي كما أشرنا تعدّ من بين أوبراته الكبرى ناهيك بكون كثر يعتبرونها إلى جانب "عايدة" و"نابوكو" من الأوبرات التاريخية الأكثر جدية التي لحنها فردي محاولاً فيها أن يجعل من نفسه مؤرخاً من طريق الكتابة الأوبرالية من دون أن يفوته جعل البعد الموسيقي فيها نوعاً من التلخيص لمساره الموسيقي حتى ذلك الحين مع محاولة منه للتنويع على الأجناس الموسيقية ومن ذلك مثلاً اشتغاله المستقل على القطعة السيمفونية التي تبدو في نهاية المطاف آتية من خارج سياق العمل ككل وقد أعطيت في هذا السياق عنواناً مستقلاً بدوره هو "الفصول الأربعة"، ويقيناً أن فردي نجح في مسعاه وبخاصة في القطع الكورالية التي جاءت من الضخامة بحيث رأى كثر أنه حقق فيها بعض التفوق حتى على منافسه الأكبر في هذا المجال: ريتشارد فاغنر. وكانت هذه المقارنة تكفي في حد ذاتها للقول إن "الصلوات الصقلية" حققت لصاحبها مجداً يضاهي كل المجد الذي كان حققه حتى ذلك الحين.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة