Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحراك الثقافي في السعودية بين "المركاز" والمقهى

أسهم غياب التشريعات الخاصة بالمراكز والنوادي الأدبية خلال السنوات الماضية في بروز الصالونات المنزلية

تنوعت وسائل ممارسة الثقافة في المجتمعات على مر العصور بين النوادي والصالونات الأدبية إلى المقاهي الثقافية، إذ أسهمت كل وسيلة في نقل الحركة الثقافية من دائرة إلى دائرة أوسع، واكتسبت هذه الوسائل أهميتها من خلال توفيرها منصات لتأصيل أساليب الحوار وتبادل المحتوى المعرفي في ظل محدوديتها في فترة من الفترات.

فقد قامت الصالونات الأدبية في السعودية على جهود أفراد متعلمين، يمتلكون نصيباً من المعرفة والثقافة التي سخرت في سبيل تحقيق حراك ثقافي في أحلك الفترات التي عاشتها الحركة.

البداية من الحجاز

وعند تتبع بواكير الصالونات الأدبية في السعودية، نجد أن بدايتها كانت في منطقة الحجاز غرب البلاد، وكانت هذه البداية مما يسميه الحجازيون "المركاز" أي مجلس الحي الذي تجتمع فيه نخبه الاجتماعية.

ويعتبر المركاز نموذجاً أقدم من الصوالين والمقاهي الثقافية الحديثة نسبياً، التي لا تزال مستمرة حتى وقتنا الحاضر بشكل محدود في المناطق التراثية.

ويصفه مؤرخو المنطقة الغربية في السعودية، بأنه عبارة عن مجلس مكشوف به كراسي خشبية ترتب على شكل حلقي، إلا أنها مفتوحة من إحدى جهاتها المقابلة لصدر المجلس حيث يجلس المتحدث.

وللمركاز دور اجتماعي وثقافي كبير، فهناك يتم التعارف بين أهل الحي وعقد الصفقات التجارية، وتحتضن اللقاءات الأدبية والشعرية والقصص والحكايات القديمة، وعادة ما يقدم صاحب المركاز القهوة العربية والشاي لمرتاديه.

وكانت مكة حاضنة لكثير من التجمعات الثقافية، وأشهرها قهوة الشيخ صالح عبد الحي، الذي كان يهيئ لهم المركاز ويخصص من يقوم على خدمته، بحسب رصد الكاتب سهم الدعجاني في كتابه "الصالونات الأدبية في السعودية"، الذي ذكر أن بداية النوادي الأدبية الخاصة تبلورت عام 1959 من خلال منتدى عبد العزيز الرفاعي المسائي الذي كان يقيمه في منزله بالعمارية في جدة.

بديل النوادي الأدبية

ووجد المثقفون السعوديون ضالتهم في الصالونات الثقافية الخاصة، بعد يأسهم من صلاح حال الأندية الأدبية الرسمية، ليطلقوا صالوناتهم المنزلية التي يدعون إليها الأدباء والشعراء والمثقفين المختلفين من دون قيود ورتابة الأندية الأدبية.

وأهم ما يميز الصالونات أن ملاك الصوالين هم من يضعون رؤيتهم وتوجههم الخاص، فهناك من اختار التخصص في الشعر والأدب، والبعض الآخر فضل الانفتاح على كل المجالات، وهناك صالونات تهتم بالاحتفاء بالناجحين وتكريمهم، وعادة ما تقام إما أسبوعية أو شهرية.

ويلاحظ أن معظم الأندية الأدبية كانت تأخذ أسماء الأيام التي تعقد فيها، مثل أحدية وإثنينية وثلوثية وخميسية، وأصبحت هذه الجلسات الثقافية لا تقتصر على الحضور فقط، بل تُصور وتحفظ على شبكة الإنترنت ليسهل الحصول على المعلومة في أي وقت.

أبرز الصالونات الأدبية

انتشرت الصالونات الأدبية في غالبية مدن السعودية، وتفوقت على بعض المؤسسات الثقافية الرسمية مثل خميسية الرفاعي، وأحدية راشد المبارك، وثلوثية عمر بامحسون في الرياض، وثلوثية محمد سعيد طيب في جدة، وخميسية الشيخ حمد الجاسر بالرياض.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن أبرز الصالونات الأدبية السعودية التي عرفت في العالم العربي، صالون عبد المقصود خوجة الذي كان يقام كل إثنين في جدة ويسمى "منتدى الإثنينية"، وتم من خلاله تكريم 440 عالماً ومفكراً وأديباً منذ تأسيسه عام 1982، وكان يحضرها جمع من رجالات الفكر والصحافة والأدب من داخل السعودية. ففي عام 1985 كرمت الإثنينية زكي قنصل من الأرجنتين، والشيخ أبو الحسن الندوي من الهند، وفي 1988 كرمت أحمد ديدات من جنوب أفريقيا، ووصلت شرقاً حتى روسيا بتكريمها ألكسي فاسيليف في 2005، وأوليق بريسيسلين في 2008، والسفير بنيامين بوبوف في 2010.

وقد حصلت إثنينية خوجة على جائزة "مكة للتميز"، وعلى وسام الثقافة من وزير الثقافة والإعلام ضمن فعاليات معرض الكتاب بالرياض في 2010.

المركاز نقطة انطلاقة الصالونات الأدبية

وأشار الكاتب والناقد الأدبي حسين بافقيه، إلى أن الصالونات الثقافية الخاصة ليست وليدة اليوم، بل هي تقليد ثقافي عربي ضارب في القدم، وأضاف أن "الأدب والمحاورات هما شكل اجتماعي اختصت به المجتمعات الأهلية قبل ميلاد الدولة الوطنية الحديثة، إذ رأت في تلك المجالس شكلاً من أشكال التعبير عن الفضاء العام، وكان ذلك في بيوت علية القوم"، وبخصوص التحول يضيف "لما عرف العالم العربي القهوات تحولت النوادي إليها، لكن في الحجاز حافظت على محليتها (المركاز)"، مؤكداً أن الحركة الأدبية والثقافية في السعودية وفي مدن الحجاز مدينة للمركاز بتطورها.

وأضاف الناقد الأدبي السعودي أن المجالس الثقافية "الصالونات" هي "تقليد طبيعي ضارب في القدم، فثلوثية محمد سعيد طيب في جدة ليست جسماً ثقافياً مصطنعاً، إنما إحياء لتراث عربي قديم، بل إن ثلوثية الابن إنما هي إحياء لثلوثية الأب، تلك التي جمعت الأصحاب والأحباب في مكة، وخاض روادها في قضايا الشأن العام الذي ورثته ثلوثية محمد سعيد طيب عن مجلس أبيه".

وأشار إلى أن القهوة والمركاز بوصفه الشكل الأول للمؤسسة الثقافية، إذ كانت تقوم مقام الصالونات الأدبية التي "تحتضن ضروباً مختلفة من الفنون والآداب، فالحكواتي وشاعر الربابة والمداحون هم أفراد عرفتهم القهوة القديمة".

وقال بافقيه، إن "المثقف يحتاج إلى مساحة يتحدث فيها أياً كانت، مقهى أو مجلساً خاصاً، ففي المدينة المنورة كانت البساتين هي المساحة الأدبية، وعندما أسست الصحف تحولت مكاتبها إلى أمكنة يجتمع فيها الأدباء والمثقفون"، ويضيف "تاريخياً كانت المكتبات التجارية القديمة التي كانت تحيط بباب السلام بالمسجد الحرام بمكة مجتمعاً للأدباء والمثقفين قبل أن تعرف السعودية المؤسسة الثقافية وقبل ميلاد الأندية الأدبية".

المقاهي الثقافية

يحتار المثقفون في توصيف بدايات نشوء المقهى الثقافي، بين من يرى بدايته في الأساس كموقع ثقافي تنوعت أنشطته فيما بعد، ومن يرى أن ارتياد المثقفين له أكسبه صفته الثقافية بعد أن كان مكاناً تجارياً بحتاً.

وفي هذا الصدد، تسعى وزارة الثقافة السعودية إحياء المقاهي الثقافية بإطلاقها مبادرة "الشريك الأدبي" في 7 مارس (آذار) بهدف عقد شراكات أدبية مع المقاهي التي تشارك في ترويج الأعمال الأدبية بشكل مبتكر لرفع الوعي الثقافي، إذ سيحصل أفضل شريك أدبي في العام على جائزة بقيمة 100 ألف ريال (27 ألف دولار).

وتستهدف المقاهي جمهورها من خلال عمل فعاليات أدبية وثقافية تثري زوارها، وتجعل منها تجربة مختلفة عن المعتاد، وتمكن الجمهور من التفاعل مع القطاع الثقافي.

ويعتبر عبد الله الحضيف، صاحب مقهى ثقافي في السعودية، أن المقاهي الثقافية قوة ناعمة يجب استغلالها لما لها من دور في تشكيل الصورة العامة للدولة "تعتبر مروجاً لثقافة البلد، ولنا في هذا أمثلة في المقاهي العربية التي استمدت طاقتها من أدباء رحلوا، مثل مقهى الفيشاوي والبستان والندوة الثقافية في القاهرة، التي كانت فضاء ملهماً للإبداع والحوارات الجادة، وامتدت إلى ما هو خارجها لتكون صورة الدولة العربية في محيطها".

وتعتبر تجربة الحضيف في مقهى "أرباب الحِرف" من أوائل التجارب الثقافية الحديثة في السعودية، وهو الذي بدأ تجربته في 2015، وتحدث عن إنجازات المقهى خلال السنوات الماضية، إذ "قدم 35 فعالية داخل البلاد، وتسعمئة أمسية وأصبوحة ثقافية، استفاد منها أكثر من ثلاثين ألف شخص زاروا المكان".

ويؤكد الحضيف أن هذا دليل على تعطش الناس للفعاليات الثقافية، لذا قدم المقهى "جدولاً أسبوعياً منوعاً، يحتوي صالوناً موسيقياً باسم الفنان السعودي الراحل طلال مداح، ومجلساً فكرياً حوارياً باسم الأديب العقاد، يتطرق للعديد من المواضيع الثقافية"، وغيرها من المجالس المتخصصة.

ويرى عبد الله الحضيف محدودية أثر الصالون الثقافي الخاص، إذ "لا يمكن أن تقوم بدور المقاهي الثقافية، كونها خاصة في بيوت ومجالس، وتأثيرها كما نعلم محدود، وأقيمت وانتشرت في السعودية لعدم وجود تشريعات لإقامة الجلسات الثقافية في المقاهي السعودية آنذاك"، ما حصر تأثيرها على النخبة.

المزيد من ثقافة