Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حكاية الفنون فيما مضى ... هكذا تحدت سعوديات الحظر وأطلقن أصواتهن للعالم

"اندبندنت عربية" ترصد مبادرات فنية وآراء شابات وشباب عاشوا في مرحلة هيمنة "الصحوة" وفرض الصوت الواحد

يبدو أن النهضة التحديثية التي ترسم السعودية ملامحها بخطوات منفتحة نحو رؤيتها الجديدة التي أطلقتها لمواكبة العالم لم تكن حديثة عهد لدى بعض المبادرين من السعوديين والسعوديات الذين ابتكروا آفاقا مختلفة عن واقع بلادهم، لتستوعب إمكاناتهم وأفكارهم المتجاوزة التي لم تكن البلاد مستعدةً لاحتضانها حينذاك بسبب العوامل الدينية والاجتماعية المتشددة، ما دفع هؤلاء الشباب إلى تأسيس عوالم مثاليةٍ خارجةٍ عن مألوف مجتمع محافظ سيطرت عليه أطروحات ما يعرف بحركة "الصحوة" التي لفّت السعودية بأشرطة الكاسيت السوداء لونا ومضمونا، غازيةً بهذه الوسيلة الإخبارية الطابع العام لتغلفه بأفكارها المتطرفة نحو مجريات الواقع.

الصحوة ضد مظاهر الحياة

في مدينة جدة غرب السعودية التي اشتهرت بمناخها الذي يتسم بالانفتاح الكبير حسب مقاييس المجتمع المحافظ الذي ظل لفترة طويلة مُثارا ومتعجبا من خطو هذه المدينة الحالمة مسافات لا بأس بها في مشوار الحداثة الفكرية والتعددية الإثنية وقبول الآخر. هذا الانفتاح النسبي الذي حظيت به جدة بفضل التنوع الثقافي المتركّز في شتى أنحائها، تمخض عنه ولادة مجموعات ومقاهٍ تتخذ من قضايا معينة منصةً للنقاش والمداولة ومنطلقا للابتكار والتجديد في استعراض القدرات والمواهب المستقطبة.

وما إن بدأت بوادر انتشار هذه التجمعات الإنسانية والمقاهي المتنوعة الخارجة عن الإلف السعودي بالشيوع والازدياد لتصبح على بعد خطوة من الاستحالة إلى واقع طبيعي مستساغ؛ توجّه شيوخ الصحوة ومريدوها برمي سهامهم للإجهاز عليها، والحيلولة دون تعالي صوتها واختراق صداها المجتمع المسالم والمتقبل بطبعه؛ إذ تعرضت لهجمات شرسة تقهقر على إثرها بعض روادها، وحثَّ آخرون خطاهم بأصوات مرتابة، وارتفع منسوب التوتر بتزايد التحريض الصحوي على رواد التظاهرات الثقافية المصرَّح لها حكوميا كالأندية الأدبية، ناهيك عن غيرها من الملتقيات الشبابية الخاصة الفاقدة النفوذ التي نشأت في بوتقة صراع بين أقطاب محافظة وأخرى منفتحة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الكسر الفردي للتابوهات مهّد لوعي المجتمع

إحدى أهم التجمعات الثقافية التي لوّنت الحياة بمدينة جدة، وجذبت أعدادا هائلة من المهتمين على المستوى المحلي والعربي هو مقهى أرباب الحرف الذي تعالت فيه أصوات الموسيقى الغربية والشرقية بينما تسود تلك الفترة هجرة الفن السعودي إلى بلدان شقيقة إثر المنع الذي نتج بسببه عدم قدرة الفنانين السعوديين على الغناء أمام مواطنيهم، ولم تكن أضواء السينما بين جنبات المقهى إلا علامةً أخرى على استشراف المستقبل الجديد الحافل في الوقت الذي كان يُوصم المنادي بإنشاء صالات السينما بأقذع الصفات وأقبحها، كما أن الجدل الفقهي وراء اختلاط المرأة بالرجل دون الخلوة المحرمة ونزوع البعض إلى القول بجوازه دعا القيّمين على المقهى إلى استبدال مساحة متبادلة من الاحترام بالحواجز الفاصلة بين الذكور والإناث.

"كانت خطوطا حمراء لا يغتفر لمقترفها"

كسر مقهى "أرباب الحرف" في جدة تلك الحواجز المادية والمعنوية بشجاعة مطلقة مكّنته من البقاء على الساحة إلى يومنا هذا على الرغم من وجود تجمعات ثقافية أكثر عتاقة هي الأخرى جديرة بتسليط الضوء عليها بيد أن ما يجعل من هذا الصرح فريدا هو وجود أشخاص شاهدين على مرحلتين من التاريخ السعودي على الصعيد الاجتماعي والثقافي والفني، ما قبل الانفتاح، وما بعده، وكيف استطاع هؤلاء السعوديون والسعوديات في غمرة جو مكهرب بأحاديث التشدد أن يعيشوا خفيةً الحياة الطبيعية التي كانت أبسط مظاهرها محظورة بشكل رسمي آنذاك، بدلالة إرادة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان التي أفصح عنها قبل سنتين بأن بلاده ستعيش حياة طبيعية من منطلق العودة إلى الإسلام الوسطي المنفتح على العالم.

غايتنا أنسنة الواقع السعودي

"اندبندنت عربية" التقت مؤسس مقهى أرباب الحرف الثقافي عبدالله الحضيف، ليحكي لنا سيرة البدايات الصعبة عند تأسيسه عام 2016 لملتقى معرفي يحوي من المعارف والنشاطات ماهو محرم شرعا ومحظور عرفا خارج أبوابه الصغيرة، حيث يصفه بأنه مشروع لأنسنة الحياة في السعودية، وإعادة الاعتبار لتاريخها الجمالي الذي خنقته الصحوة في الثمانينيات الميلادية.

يمتلك المقهى ثلاثة بيوت تاريخية متنوعة في أعرق أحياء جدة - منطقة البلد تحديدا- وهي المصنفة كأحد مواقع التراث العالمية في اليونسكو التي يجري العمل عليها لإعادة تأهيلها فنيا، وفتحها أمام السياح، منها بيت الحضيف الذي يعود بناؤه إلى مائتي عام، ومتحف الحضيف الذي أقيم على بيت تاريخي عمره أكثر من 130 عاما كمزار فني، وآخرها بيت زرياب الذي يبلغ عمره 120 عاما للموسيقى الشرقية.

يقول مؤسس المقهى بأن أرباب الحرف أصبح أيقونة لمدينة جدة الساحلية ونبضا لثقافتها الحيّة، معتقدا بأن الناس ترتبط معا على أساس ما يجمعهم من الاهتمامات ويشاركونه من العادات، وهو الأمر الذي سعى إلى تحقيقه، وصولا إلى منبر حر يهتم بالفكر والفن، ويدعم مبادرات الشباب والفتيات، وترفده التحديثات الأخيرة في السعودية لإشباع حاجة الشباب للحوار والمعرفة.

الربح ليس هدفاً

لا يسعى الحضيف من خلال مشروعه إلى عوائد مادية، قائلا: "غايتنا تتجاوز البحث عن المال، نحن وفرنا مساحة رحبة للنقاش والتواصل بين الشباب والفتيات بطريقة تظهر وعي المجتمع السعودي، منحنا لهما حرية عرض مواهبهم من تمثيل وغناء، ونأمل بأننا بذلك نعزز نشر المعرفة، وصقل التجارب".

ويعتقد بأن بلاده بحاجة لمشروعات تنويرية تجابه الأزمة التي مرَّ بها الشباب من الانغلاق لعقود سابقة والحاجة الحالية للانفتاح على الآخر، في ظل التغييرات التى شهدتها البلاد لاسيما مع السماح باستقبال السياح الأجانب من مختلف دول العالم.

السينما بأعين خائفة

السينما في السعودية شكلت لعقود إحدى العناوين الرئيسة للحظر الرسمي لمظاهر الترفيه العالمية في السعودية، فلم يكن أحد يجرؤ على المطالبة بها، إلا وكان نصيبه سيلا من التعنيف والتجريم، وعلى الرغم من السلوك العدائي الذي يُمارس على المطالبين بافتتاح دور السينما فإن المقهى الكائن بمدينة جدة تحدى العرف وعراقيله قبل سنوات، ليعيش مرتادوه تجربة سينمائية مصغرة، قبل أن تسمح السعودية في إبريل (نيسان) العام الماضي بالترخيص لصالات السينما العالمية، واستقطاب أشهر المشغلين، بل والممثلين السينمائيين أنفسهم للحديث في مؤتمراتها العالمية الموجّهة إلى أبناء شعبها.

ويستنكر مؤسس المقهى الذي تنطلق أنشطته من قلب جدة تصرفات فئات الصوت الواحد المحاربة للتغيير والانفتاح على العالم إذ يعتقد أن تقبل الآخر يمثل الخطوة الأولى في مشوار تغيير الصورة الذهنية الخاطئة عن بلاده، وإبراز حضارتها المتجذرة.

الثورة على "البارتشن"

صورة النساء اللواتي ينزوين في مبانٍ منفصلة لسماع متحدثي مؤتمر ما في مبنى آخر لم تكن الوضع المثالي المفضل لدى مرتادي مقهى أرباب الحرف بجدة، فبينما كانت الجهات الحكومية تحظر الاختلاط بين الرجل والمرأة في أماكن العمل وغيرها؛ أعطى المقهى المرأة المساحة الكاملة لبثّ أفكارها وأطروحاتها في جو حر صنعه مجموعة من الشباب والفتيات الذين أرادوا عيش حياة طبيعية يتبادلون فيها الميزات والمهام بمساواة كاملة في الحقوق والواجبات، وترجع المؤلفة السعودية هديل الشبيلي الفضل إلى الموجة التحديثية الجديدة التي قادتها حكومة بلادها، أن أسهمت في خلق فرص جديدة مليئة بالوفرة التي اتسعت بالحرية المهنية والاجتماعية حيث عززت عطاء المرأة ليحلق صوب فضاءات أرحب.

ولم يحدَّ نزيف العقود التي عاشها الشباب السعودي وسط بيئة متشددة من تطلعهم في الخروج بمشروعات عمليّة صارعت في مستهل صعود نجمها عقبات اجتماعية معقدة، وخلافات دينية متشابكة، على إثر ذلك يعتقد أحد مرتادي المقهى راكان العسكري بأن استمرار المشروعات الخلّاقة الرامية إلى تغيير آليات التفكير لدى المجتمع على إيقاع متوازن وفعال ضمن حوار حر ومنفتح؛ يساعد على إيصال رسالتها المثلى إلى المجتمع، فعلى سبيل المثال لم يكن يلقي الناس بالا إلى المجالس الأدبية التي تستضيف الأدباء والشعراء كأحد ضروب الثقافة المتجذرة في مجتمعنا، لعدم جاذبيتها أو شموليتها، لكن من الممكن أن نوصّف مقهى أرباب الحرف باعتباره الصورة المحدَّثة من الديوانيَّات الأدبية التي تحتضن تحت سقفها الرجل والمرأة على حدِّ سواء.

الموسيقى ضد ضجيج مكبّرات الهيئة

الجامعات السعودية أو قلعة التقاليد كما يصفها المفكر السعودي عبدالله الغذّامي، كان لها نصيب الأسد من قبضة التيار المتشدد على مرافقها، وليس ببعيد عن الأذهان الحادثة الشهيرة عام 2006 التي احتضنتها أروقة جامعة اليمامة عندما اقتحم محتسبون مسرحية "وسطي بلا وسطية" التي تناقش صراع التيارات الفكرية محليا، ويبدو أن تعرية الحركات الفكرية وآيديلوجياتها أثار مريدي الصحوة ودفعهم لاقتحام المسرح والتعدّي على الممثلين بالضرب.

كذلك حرمان الناقد السعودي سعيد السريحي من الحصول على درجة الدكتوراه قفزًا على دلائل استحقاقه لها، كان ملمحا بارزا يمثل الاضطهاد الذي مورس تجاه المحسوبين على التيّار الحداثي آنذاك، وعلى الرغم من النفوذ الصحوي فإن هناك جامعات سعودية خرجت بمبادرات فردية تنم عن انفتاح مبكر سابقٍ على الموجة التجديدية التي تقودها الحكومة في الوقت الحالي.

الدكتور محمد حبيبي العميد السابق لشؤون الطلاب بجامعة جازان ذكر "أنه في مرحلة ما، دارت فيه مسرحية على العديد من مسارح الجامعات السعودية، ولم يوافق لها على العرض في أي مكان، سوى مسرح جامعة جازان، ولم يكن ذلك نتيجة ضعف أو قصور فني وإنما فقط لاحتوائها على مؤثرات موسيقية"، مضيفًا "أنه في عز التشديد والتضييق على الفنون حصدنا جائزة عالمية في الموسيقى هي جائزة أفضل عزف موسيقي مصاحب في مهرجان المسرح والعلاج في جمهورية بولندا".

محرم في المناهج مباح في الواقع

وعلى صعيد التمكين النسوي فإنَّ بعض الجامعات السعودية مازالت تمارس بعض التضييق على الطالبات والأكاديميات لاسيّما في حضور الملتقيات والمؤتمرات التي قد تُعزل فيها المرأة، إضافة إلى تحريم المناهج السعودية في مراحل التعليم الثانوي الاختلاط بوصفه داعيا من دواعي جريمة الزنا، بيد أن جامعة جازان منذ تأسيسها المبكر عام 2006 بادرت في تمكين المرأة لتقديم أهم احتفالاتها، وكذلك اكتتبت الشاعرات في الأوبريتات الغنائية، ويشير حبيبي إلى أنه في الفترة نفسها كانت المؤتمرات العلمية الطلابية تقام في موقع واحد للطلاب والطالبات ولا أحد مشغول وقتها سوى بتقديم ورقته العلمية لأننا في بيئة حرم جامعي، والجميع محل ثقة، مضيفاً بأنه في إحدى المرات تناقلت أكثر من 30 وكالة أنباء خبرية احتفال جامعة جازان باليوم الوطني بسبب التقاط صورة تستنكر وجود اختلاط بين الطلاب والطالبات.

مؤسسات بلا قوانين

من جهة أخرى لعبت الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون دورا محوريا ساعد في تهذيب الخطاب العام، كونها رافدا أساسيا للحراك الثقافي والفني في السعودية باعتبارهما الذراع الرسمية التي تمثل وجه الثقافة المحلية بمختلف فئاتها النخبوية والشعبوية، وتراوحت على إدارتها أسماء بارزة في المحيط الفكري والأدبي على الصعيد العربي، بيد أن ذلك لم يساعد بشكل مبكر في سن اللوائح والتشريعات القانونية التي تحكم النشاط الثقافي والفني الذي كان يرزح في مرحلة النمو المتسارع نحو تحقيق النضج المؤهل للإفادة من المكونات المعرفية وإمكاناتها.

هفوة قانونية وراء مهرجان سينمائي

الشاعر أحمد الملا مدير مهرجان أفلام السعودية، روى قصة تأسيس مهرجان أفلام السعودية الذي انطلق في مايو (أيار) 2008، وتكمن المفارقة العجيبة أن يتأسس مهرجان سينمائي في بلد تُمنع فيه السينما، غير أن المهرجان أثبت نجاحه ليصبح منصة محلية تحتضن الإنتاج السينمائي للشباب السعوديين خلف عدسة الكاميرا وأمامها، في إطار تلبية الاحتياجات التي تتطلبها الصناعة السينمائية من دعم مادي وتشجيع معنوي من قبل المؤسسات والأفراد.

ويشير إلى معاناته حين توليه الإدارة التنفيذية لنادي المنطقة الشرقية الأدبي مع الافتقار إلى النصوص القانونية المقرة للنشاط الثقافي عدا بعض الصفحات التي تتضمن توصيفا للأنشطة بشكل عام، صادرة منذ الثمانينيات حين كان الشأن الثقافي والفني تابعا للرئاسة العامة للرياضة والشباب.

وحين وجد الملا سطرا قصيرا في ملفات رئاسة الرياضة والشباب السعودية، يتضمن أحقية النادي الأدبي في عرض أفلام وثائقية وثقافية "هادفة"؛ بادر بعرض فكرة الاستناد إلى هذه المادة في عرض أفلام سينمائية للجمهور، منتزعا من مجلس إدارة أدبي الشرقية الموافقة عليها، ليشهد العام 2005 انطلاقة أولى لعروض السينما في السعودية بعد منعها في الثمانينيات، إذ بدأت بعرض الفيلم الوثائقي العالمي "بركة"، واستمرت العروض مساء كل يوم أحد طوال عامين حتى نضجت فكرة أول مهرجان سينمائي سعودي بمسمى "مسابقة أفلام السعودية"، ثم مهرجان أفلام السعودية المستمر في 5 دورات، وسيعلن خلال الشهر الحالي دورته السادسة المقررة في أبريل (نيسان) 2020.

مطاردات لا تتوقف

لم تكن الطريق ممهدة أمام البدايات الخجولة لعروض السينما في السعودية، إذ جابه منظمو عروض الأفلام المستمرة في المنطقة الشرقية طوال السنوات الماضية من العام 2005، مواجهات حادة مع تيار الصحوة الذي أحكم قبضته على مفاصل الحياة الاجتماعية والسياسية متمكنا من التحكم بالمجتمع، ومزاج سواده الأعظم، فمع الإعلان عن كل فيلم، تُشن حملات منظمة في اتجاهين متواليين، أولها شيطنة الفعالية، عبر الافتراء والكذب وتوزيع رسائل تحمل فتاوى منع السينما مع طلب الاحتساب على إدارة النادي، بإرسال البرقيات إلى جهات رسمية ومنها إدارة النادي، مع استخدام منابر المساجد لشحذ التأييد، بضرورة إيقاف ومنع كل عرض، ثم بعد شحن الرأي العام، تُوجه شكاوى رسمية إلى عدد من الجهات كوزارة الإعلام وهيئتي كبار العلماء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما ينتهي بتكدير صفو الفعاليات المنظمة كما حدث في إحدى المرات مع وقوف رجال الهيئة بسياراتهم الرسمية أمام مدخل الجمعية لإغلاق مهرجان شعري، بالإضافة على مهرجان الطفل والعائلة على كورنيش الخبر بسبب علو صوت الموسيقى، والحفلة الموسيقية بعنوان "رائدات الغناء في العراق والخليج العربي".

غزوة البطريق

وبعدما سطعت أضواء السينما في الشرقية، وذاع صيتها مع انطلاقتها في عام 2005، احتدم الصراع وتأهبت الحشود الصحوية لتعرقل مسيرة العروض السينمائية معيدةً إلى الأذهان الحادثة الشهيرة التي كان بطلها الشاعر الحداثي محمد الثبيتي في نادي أدبي جدة منتصف الثمانينيات الميلادية، حين تدفقت الجموع الصحوية الهائجة لإيقاف أمسية الشاعر الذي اتهموه بالردة والخروج عن الثوابت الدينية.

"الحشود الصحوية التي اقتحمت مقر العروض السينمائية بالمنطقة الشرقية حرّضتها العاطفة الملتهبة نفسها التي حرّكت الجموع الغازية لمقر النادي الأدبي بمدينة جدة".

حسب الملا فإنه على الرغم من الهجمات العنيفة التي يتلقاها منظمو الأمسيات السينمائية آنذاك، فإنه لم يحدث أن ألغي أي فيلم تلك الفترة، ما عدا فيلم روائي واحد غُيّر إلى فيلم وثائقي، منعا للمصادمات، على إثر وصول أفواج من شباب الصحوة يطلق عليهم "المحتسبون"، وسميت الحادثة في وقتها "غزوة البطريق" نسبة إلى الفيلم البديل "مسيرة البطريق".

ويضيف، اعتمد التيار الصحوي النافذ في تلك الفترة على سلطته العميقة واثقا من توقف العروض في أي وقت، سواء بدافع رضوخ إدارة النادي وخشيتهم من المواجهة، أو استجابة من جهة عليا نافذة، بيد أن إدارة النادي كانت واعية تماما لظروف المرحلة، فمع إصرارها على استمرار العروض، حرصت بدقة على اختيار المحتوى المناسب، مشيرا إلى أن الاستقلالية من أحد العوامل التي أسهمت في نجاح التجربة أيضا حيث ساعد امتلاك الإدارة لقرار الموافقة من عدمه دون الرجوع إلى أي جهة مسبقا في مواصلة مسيرة العروض السينمائية بالسعودية.

مهرجان سينمائي في بلد يحظر صالات السينما

بعد استمرار عروض الأفلام السعودية القصيرة لصناع أفلام سعوديين، اختمرت فكرة مهرجان الأفلام واختير موعد الاحتفال بمرور 75 عاما على نشأة عملاق النفط العالمي شركة أرامكو السعودية، ليواكب تدشين مهرجان الأفلام حضورا إعلاميا دوليا هو الأخير اندهش من وجود مهرجان سينمائي في بلد تمنع فيه دور السينما، وكان هذا أحد عناوين وكالات الأنباء العالمية، واستطاع المهرجان لمدة أربعة أيام عرض أكثر من 70 فيلما سينمائيا.

يعتقد الشاعر أحمد الملا بأن إدارة الصراع في ذلك الوقت هو ما أسهم في تحقيق النتائج، فإلى جانب الإيمان العميق بالفعل الثقافي والفني، كان الحرص الشديد على عدم الدخول في مماحكات إعلامية، اختيار المحتوى بدقة عالية، تنفيذ الفعالية بمظهر مقبول اجتماعيا، مد علاقة مباشرة واضحة مع صاحب القرار، ثم عدم استفزاز المخالفين اعتباطا مع عدم الرضوخ لهم في الوقت نفسه.

ثمرة النجاح... تعهدات خطية

ومع عودة المهرجان بعد توقفه لفترة زمنية معينة بعد استقالة مجلس إدارة أدبي المنطقة الشرقية، وانطلاق المهرجان بحلته الجديدة تحت مظلة جمعية الثقافة والفنون ألغي الفصل بين الجنسين في حضور الفعاليات، إضافة الى السماح بمشاركة المرأة على المسرح محاضرةً ومقدمة، وتنظيم الأنشطة، كما تحققت ثلاث دورات من مهرجان أفلام السعودية متوالية، بشكل أكثر دقة وتنظيما، إلى جانب مهرجان بيت الشعر وجميعها مختلطة من الجنسين، إضافة إلى الإحتفالات بالموسيقى والمسرح والفنون الأخرى، الأمر الذي جعل الجمعية تواجه هجوما متواصلا في كل نشاطاتها، وشكاوى كيدية وتعهدات خطية بعدم التكرار.

يجزم الملا بأن النشاطات الفنية المستمرة التي قادتها بعض المؤسسات الحكومية والخاصة في السعودية أثرت في المزاج العام، ومهدت إلى تقبل الفنون وهيأت المجتمع لتفهم التحولات التي تشهدها البلاد منذ عامين تقريبا وعند سؤالنا له كيف يصف المتغيرات الجديدة نحو الانفتاح العالمي، أجاب: " بجملة واحدة، استبدل مهرجان أفلام السعودية شعاره "في لمح البصر" الذي استمر في دوراته السابقة على مرحلة الانفتاح، إلى شعار جديد هذا العام هو "أحلام تتحقق" وكان تعبيرا لا يقتصر على مشاعر صناع الأفلام والمهتمين بالسينما فقط، بل أثق بأنه يعبر عن كل مواطن سعودي يعيش التطورات الأخيرة في بلاده.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات