Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المقاهي الثقافية بالقاهرة... المكان يحتفظ بحكايات الأجيال

مقهى "البوستة" كان محركا رئيسيا لثورة 1919... ونجيب محفوظ أدخل "قشتمر" و"شهرزاد" التاريخ... ومثقفون: الأماكن فقدت الصحبة وغاب عنها الونس 

إنتاج مصر الأدبي مرّ من هنا، من على هذه النواصي. تلك الكراسي الخشبية والطاولات البسيطة شاهدة منذ قرون على الحراك الثقافي والاجتماعي لهذا البلد، حيث لكل عصر مقهاه، ولكل مقهى حكاياته، ولكل حكاية أبطال يزينون كتبهم بتاريخ وطنهم، فهل ما زال مثقفو مصر يترددون عليها؟

مقاهي المثقفين في مصر تاريخها يبدو مغرياً جداً بالبحث، إذ تشكل فصلا مهما، أو عنوانا رئيسيا لكتب كثيرة بينها "حكايات قهوة كتكوت" لمحمود السعدني، و"المقاهي الثقافية في العالم" لكامل رحومة، و"قهاوي الأدب والفن في القاهرة" لعبد المنعم شميس، وغيرها عشرات، فماذا تبقى منها؟

تمتد المقاهي الثقافية في مصر بطول البلاد وعرضها، بينما تظل مقاهي وسط القاهرة هي الأبرز ومنها "التكعيبة وسوق الحميدية ووادي النيل"، وكذلك "زهرة البستان، وريش، والحرية"، وثلاثتها يتراوح عمرها ما بين 70 عاماً وبين 100 عام، حيث شهدت سجالات أدبية مهمة، وتقتسم معها الشهرة قهوة الفيشاوي بمنطقة الحسين، حيث كانت الجلسة الأشهر لأديب نوبل نجيب محفوظ على مدار سنوات.

نجيب محفوظ والمقاهي

 يعرف كل من عاصر الأديب الكبير أنه كان له طقس مهم في الاستمتاع بمشروب القهوة، حتى أواخر أيامه، إذ كان يشرب فنجانا على رأس كل ساعة وسط الصحبة، وقد تعرف عليه أغلب الكتاب الذين تقربوا منه عبر مقهى ريش، لكنه تنقل بهم ومعهم إلى جلسات أخرى وأماكن مختلفة بطول القاهرة وعرضها.

يعتبر مقهى "ريش" بطابعه البرجوازي المعروف، من أكثر مقاهي اليوم الشهيرة عراقة، على الرغم أنه لم يعد يضم بين جنباته اليوم ذلك الزخم الثقافي والأدبي لكبار وعمالقة الأدب والثقافة.

مقهى الفيشاوي

الأديب الكبير يوسف القعيد، أحد أبرز من كانوا مقربين من محفوظ ورفيق جلساته في مختلف المقاهي، قال لـ"اندبندنت عربية"، إنه بالفعل تعرف على روائي نوبل في مقهى ريش، ثم كان الانتقال فيما بعد لمقاهٍ عديدة، أبرزها الفيشاوي بالحسين، وبحسب القعيد فـ"أديب نوبل كان يحكي كثيرا عن شخصية الحاج فهمي الفيشاوي، صاحب المقهى، الذي لم ينجب إلا الفتيات وكان يدير القهوة سفير مرموق، هو زوج إحدى بناته"، يتابع: "الراحل كان يحب كثيرا أن يتوقف بالتاكسي الذي يقله خارج الحي، ثم يستمتع بالسير إلى المقهى على قدميه، ونفس الشيء حينما يغادر، فكانت له طقوس ثابتة، وكان منضبطا بها بشدة، حتى أنه في جلسة باخرة "فرح بوت" التي كان يتجمع فيها مع الأصدقاء كل ثلاثاء، حتى دخوله المستشفى قبيل رحيله، كان يأتي في السادسة بالدقيقة ويغادر في الثامنة تماماً، يواصل القعيد: "يمكن أن نضبط عليه ساعتنا، فالراحل كان يحب تجمع الصحبة، ويختار مكانا يرتاح فيه، لأنه لم يكن يحب لقاء أحد بمنزله ليحافظ على خصوصية أسرته".

إذن "مقاهي محفوظ" نالت شهرتها بسبب هاجسه الشخصي الأول بإخفاء أسرار عائلته وحماية أفرادها، وهكذا كان يتنقل من كازينو قصر النيل إلى فرح بوت وإلى ريش والفيشاوي، ومقهى فندق شهرزاد، ومعه الأحبة.

مقهى قشتمر

 خلّد نجيب محفوظ اسم مقهى "قشتمر" في روايته الشهيرة، ويعد من مقاهي حي الضاهر التي عصف بها الزمن، ورغم بقاء جدرانها، ولكنها أصبحت مهجورة. ومقهى الفيشاوي نفسه لم يعد كسابق عهده، حيث كانت في البداية مكانا ثقافيا من الطراز الأول، تزين جدرانه القصائد، ويحافظ على خصوصية رواده.

ورغم كل هذه الذكريات فإن الكاتب الكبير يوسف القعيد بات شبه منقطع عن المقاهي حاليا. يؤكد أنه مؤخرا "دخل إلى "ريش" ولكنه شعر بغربة شديدة في المكان"، أما مقاهي مثل الحرية وزهرة البستان، وغيرها، فهو لم يرتدها يوما، لافتا إلى أن جلسة القهوة لها طقوسها وصحبتها، وإذا غاب الأصحاب لم يعد لها قيمة.

ومن المواقف التي يتذكرها القعيد بخصوص مقاهي وسط القاهرة أنه رأى الكاتب البارز الراحل محمود البدوي جالسا ذات مرة على أحد هذه المقاهي بشارع عماد الدين، مندمجا بشدة في الكتابة لدرجة أنه خجل من أن يقطع إلهامه ويذهب لمصافحته. يواصل: "بعض الكتاب كان أيضا يأتيهم الإلهام على هذه المقاهي، رغم الونس الذي هو عكس قيمة الوحدة التي يفضلها الكاتب عادة، حيث كان البدوي يأتي من منزله في مصر الجديدة خصيصا من أجل تلك الجلسة".

البداية كانت مع الأفغاني

الروائي المصري الشهير حمدي أبو جليل، أحد رواد هذه المقاهي حتى الآن، يقول لـ"اندبندنت عربية": "أعتقد أن بداية تبلور هذه المقاهي بهذا الشكل كانت في القرن التاسع عشر من خلال مقهى بمنطقة العتبة يرتاده كبار العصر من المثقفين في ذلك الوقت مثل جمال الدين الأفغاني، وكان يقدم عروضا فنية راقصة وقراءات أدبية كذلك".

والحديث هنا عن قهوة البوستة أو "متاتيا" والتي كانت فيما بعد محركا رئيسيا لثورة 1919، وقد تم هدم المبنى قبل عشرين عاماً.

حكايات المقاهي... أجيال وراء أجيال

أبو جليل يرى أيضا أن المقهى الثقافي، إن جاز التعبير، استعاد رونقه بشكل كبير مع قعدة نجيب محفوظ بشكل دوري على مقهى الفيشاوي الشهير، وبسؤاله حول أكثر كتـّـاب العصر الحديث إخلاصا لفكرة "المقهى"، يؤكد أبوجليل أن "الروائي الراحل مكاوي سعيد، كان آخر المخلصين الكبار لقعدة القهوة"، فيما يشير إلى أن "بعض هذه الجلسات ماتزال تنعقد حتى الآن ويرتادها الأدباء والمهتمون بالشأن الثقافي، حيث هناك "قعدة يوم الجمعة" على مقهى زهرة البستان"، لافتا إلى أن "هناك جلسات أخرى متفرقة بين المثقفين على المقاهي، في محيط سكنهم خصوصا في مدينة الجيزة"، وشدد أيضا على أن "مقاهي القاهرة عموما لا تجمع المثقفين المصريين فقط، بل مشاهير المثقفين العرب لديهم حكايات عنها".

الحرافيش

والمعرف أن الجيزة تضم مقهى مهماً هو "الحرافيش" الذي يحوى كتبا وأركانا مميزة تحمل اسم كبار الكتاب مثل محفوظ ومحمود السعدني وبيرم التونسي، وغيرهم، وما زال مقرا لشباب الأدباء حتى اليوم، ويقدم برنامجا ثقافيا متنوعا، فيما اختفت قهوة عبد الله وأغلقت أبوابها منذ عشرات السنوات وكانت بنفس المنطقة، وكانت ركنا مهماً في جلسات شباب الأدباء في أواخر أربعينيات القرن الماضي، ومن أبرز روادها  أنور المعداوي ومحمود السعدني، والأخير اتخذها ساحة لسرد كتابه الشهير "مسافر على الرصيف".

إذن المقاهي أيضا مصدرا للالهام، ويعتبر نجيب محفوظ مثلما قال أبو جليل "رائد عودة الرونق للمقاهي الثقافية"، ومثلما أعاد للفيشاوي شهرتها كانت معروفة منذ قرون، إذ كان نابليون بونابرت يجلس عليها في سنوات وجوده في مصر، بحسب أكثر من مرجع عن مقاهي القاهرة.

مقهى أم كافيه؟

رغم أن الكاتب يوسف القعيد يقول لـ"اندبندنت عربية" أنه يرى أن فكرة القهوة ككيان ثقافي انقرضت في رأيه، ورغم أن كثيراً من الأدباء الشباب بمصر يفضلون جلسات "الكافيهات المغلقة"، حيث اسم القهوة يُقال بالإنجليزية، وحيث الوضع أكثر هدوءاً، وربما أناقة، ويناسب ذائقتهم.

 لكن يؤكد الروائي حمدي أبو جليل: "أنه من آن لآخر يحن الجميع لجلسة القهوة، نظرا لألفتها وبساطتها، ومكانتها بالوجدان، وهو ما استدعاه أن يُسجل فصلًا كاملًا في كتابه الشهير "القاهرة شوارع وحكايات" يتحدث فيه عن مقاهي الأدباء في مصر تحديداً". 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"ط.ع"، أحد العاملين في أكثر من مقهى بوسط القاهرة، واستقر به المقام في واحدة من أكثرها شهرة، يقول لـ" اندبندنت عربية": "إنه لا يتخيل نفسه يعيش وسط زبائن غير رواد هذه المقاهي، لافتا أنه عاصر الكثير من مثقفيها منذ بدايتهم، وبعضهم صار من نجوم الأدب والثقافة الآن، وبعضهم كان يتعثر في دفع الحساب بسبب البدايات الصعبة مادياً حينما كانوا مازالوا يتلمسون طريقهم".

وأضاف: "سعيد جدا بأنني شهدت على مراحل مختلفة من حياة رجال الثقافة والأدب في مصر، الذين أصبحوا أصدقاء مقربين بمرور الوقت، وأحفظ طلباتهم عن ظهر قلب، وأرتبط مع أغلبهم بصداقة ومحبة واحترام أيضا"، مختتما حديثه: "كان مكاوي سعيد أكثرهم بشاشة وودا للعاملين بهذه المقاهي، فقد عاصرته منذ سنوات على أكثر من مقهى، وكل رواد وسط البلد يفتقدونه ويفتقدون جلسته رحمه الله".

على ما يبدو أنه رغم التقلبات، وتبدل الأحوال، وظهور مساحات بديلة للقاء، فإن "مقاهي القاهرة" ما تزال تمثل شغفاً لدى بعض رواد الحركة الثقافية، ولن تصبح على الأرجح موضة قديمة قريبا.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة