Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الاستراتيجية الدفاعية البريطانية من الترسانة النووية إلى التجارة

لندن تحاول الاستفادة مما بعد بريكست بتعزيز نقاط قوتها في السياسة الخارجية

رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون (أ ب)

تعلن الحكومة البريطانية، الاثنين، 22 مارس (آذار)، عن خطة لتحديث القدرات العسكرية، هي الجزء الثاني من الخطة الشاملة لرؤية بريطانيا بعد عقد من الزمن، التي بدأ العمل عليها قبل أكثر من عام وأعلن الجزء الأول منها الثلاثاء بعنوان "المراجعة المتكاملة".

وسيكشف الجزء الثاني، بعنوان "ورقة قيادة الدفاع"، عن توفير أكثر من 111 مليار دولار (80 مليار جنيه إسترليني) لوزارة الدفاع البريطانية "كي تصبح جاهزة لحروب المستقبل"، على أن يصل تمويل خطة التحديث حتى 2030 نحو 278 مليار دولار (200 مليار جنيه إسترليني). وذلك ضمن خطة الحكومة التي كشف عنها لتأهيل "بريطانيا العالمية" لما بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي (بريكست).

وتضمنت المراجعة الكاملة أهداف بريطانيا لتصبح "قوة عالمية في زمن تنافسي"، بعدما كانت أوروبية ضمن الاتحاد الأوروبي، الإعلان عن وقف سياسة خفض عدد الرؤوس النووية البريطانية والبدء في زيادتها بنسبة 40 في المئة وتحديث سلاح الردع النووي.

وشملت الخطة، التي جاءت في وثيقة من 114 صفحة وأعلنها رئيس الوزراء بوريس جونسون، الثلاثاء، استراتيجية عسكرية جديدة وسياسة خارجية ومواجهة مخاطر واعتماداً على ما أسمته "القوة الناعمة" لبريطانيا، لتعزيز مكانتها في العالم لما بعد خروجها من أوروبا. واعتبرت المراجعة المتكاملة أن أهم المخاطر التي تواجه بريطانيا هي الإرهاب وتصاعد نفوذ قوى كالصين وروسيا.

ومن الأهداف الرئيسة التي يمكن استخلاصها من الوثيقة، أن الشرط الضروري لبريطانيا العالمية هو ضمان أمن المواطنين البريطانيين وسلامتهم وأمن منطقة أوروبا والمحيط الأطلسي باعتبارها عمق الأمن لبريطانيا. ولتحقيق ذلك، يتعين تعزيز سلاح الردع النووي البريطاني بزيادة الأسلحة النووية من 180 حالياً (بعض التقديرات تقول 195 رأساً نووياً) إلى 260 رأساً نووياً، وأن تكون مواجهة التغير المناخي وتدهور التنوع الحيوي أولوية عالمية، وأن تتجه بريطانيا نحو منطقة الهند والمحيط الهادئ بتعزيز الروابط الدبلوماسية والتجارية، والسعي لجعل بريطانيا "قوة عظمى علمية وتكنولوجية" بحلول عام 2030، وبناء قدرات بريطانيا لمواجهة الطوارئ في المستقبل، وزيادة تمويل أجهزة الاستخبارات لمواجهة خطر الإرهاب، وتشكيل النظام العالمي للمستقبل بقواعد لحماية القيم الديمقراطية في العالم الواقعي وفي العالم الافتراضي عبر الإنترنت وفي الفضاء.

تحديث القدرات العسكرية

ستشمل خطة تحديث القدرات العسكرية، التي سيكشف عنها مطلع الأسبوع المقبل لتكمل المراجعة، تمويل تطوير أفرع المؤسسة العسكرية البريطانية من الجيش والقوات المسلحة إلى الأسطول الملكي وسلاح الجو الملكي والقيادة الاستراتيجية التي تتولى مسؤولية الهجمات الإلكترونية.

وقد تتضمن الخطة تقليل عدد القوات البريطانية، لكن المسؤولين العسكريين صرحوا للصحف البريطانية بأن ذلك لا يعد "نخفيضاً" وإنما إعادة هيكلة لتناسب طبيعة حروب المستقبل التي تعتمد أكثر على التكنولوجيا. ولم تحقق بريطانيا هدف عدد قواتها عند 82 ألف منذ سنوات، ويتوقع خفض العدد إلى 73 ألفاً.

وإضافة إلى ما أعلن عن زيادة الترسانة النووية، تسعى بريطانيا لاستخدام الأسلحة الذكية، التي يطلق عليها "كاميكازي درون" وهي سلاح ما بين صواريخ كروز والطائرات المسيرة المسلحة، التي تستخدمها دول تعتبرها بريطانيا معادية مثل روسيا وإيران.

كذلك، سيتم تحديث وتطوير أكثر من مئة من دبابات تشالنجر 2 القديمة لدى الجيش البريطاني، وإجمالاً سيتم تحديث وتطوير ما بين 150 و170 دبابة من إجمالي الدبابات لدى بريطانيا وعددها 227. وسيتم تسريع إدخال نحو 500 ناقلة جنود ميكانيكية من طراز بوكسر إلى الخدمة.

وسيتم إدخال أنواع جديدة من الفرقاطات. ويتوقع أن تتراجع بريطانيا عن خطط شراء 138 طائرة من طراز "أف-35 برق2"، وهي أغلى طائرة مقاتلة الآن. لكنها ستحصل على بقية طائرات الشبح متعددة الأغراض التي تعاقدت عليها حتى عام 2025، وعددها 48 طائرة بكلفة نحو 13 مليار دولار (9.1 مليارات جنيه إسترليني).

وفي إطار أهداف الاستراتيجية البريطانية الجديدة بالتوجه نحو منطقة الهند والمحيط الهادئ، ستتوجه حاملة الطائرات الجديدة "أتش أم أس كوين إليزابيث" الشهر المقبل في أولى مهماتها عبر البحر المتوسط إلى المحيط الهندي وشرق آسيا لتراقب حرية خطوط الملاحة الدولية في خلفية الصين البحرية. وهي إحدى حاملتي طائرات جديدتين كلفتا أكثر من 8 مليارات دولار (6.2 مليارات جنيه إسترليني).

ويدرس العسكريون خططاً لزيادة الوجود العسكري في "قواعد متقدمة" في الشرق الأوسط ومنطقة المحيط الهادئ، مثل القواعد والموانئ في أستراليا واليابان وسنغافورة. وكانت بريطانيا أعلنت عن زيادة حجم قاعدتها العسكرية على شواطئ عمان ثلاثة أضعاف في إطار "تعزيز وجود الأسطول الملكي شرق السويس".

الترسانة النووية

على الرغم من أن خطة المراجعة المتكاملة تتضمن كثيراً من الأهداف التي تسعى بريطانيا لتحقيقها حتى 2030، إلا أن خبر زيادة الترسانة النووية حظي بالتغطية الإعلامية الأوسع. وذلك مفهوم في ضوء مشاكل انتشار السلاح النووي والقلق العالمي من زيادة الرؤوس النووية سواء لدى القوى النووية التقليدية أو الدول التي تسعى لتطوير أسلحة نووية.

وحين أعلن جونسون الجزء الأول من المراجعة، الثلاثاء، علق زعيم حزب العمال المعارض كير ستارمر مردداً ما صرحت به جماعات الحد من الانتشار النووي وغيرها، بأن ذلك لا يتسق مع التزام بريطانيا بالحد من انتشار الأسلحة النووية. وقال ستارمر "لقد صوتُّ لتحديث نظام ترايدنت ولا شك في دعم حزب العمال للردع النووي، لكن هذه المراجعة تخالف هدف رؤساء الوزراء السابقين وجهود الأحزاب جميعاً لخفض مخزوننا من الأسلحة النووية... وهي لا توضح متى ولماذا ولأي غرض استراتيجي (نزيد أسلحتنا النووية) وعلى رئيس الوزراء الإجابة عن هذه الأسئلة".

بالطبع جاء موقف الجناح اليساري في حزب العمال مطابقاً لموقف الناشطين ضد الأسلحة النووية، ويرى أن الاستراتيجية الدفاعية الجديدة ربما تجعل العالم أشد خطراً وليس أكثر أمناً، على حد تعبير زعيم الحزب الأسبق جيريمي كوربين. وكتب كوربين في موقع "لايبورليست" مقالاً منتقداً المراجعة المتكاملة والاستراتيجية الدفاعية. وجاء فيه "إنها ليست خطة للدفاع الوطني. إنها خطة لمزيد من العمليات طويلة الأمد ما وراء البحار من دون محاسبة ومساءلة – خطة لحروب طويلة كما حدث في العراق وأفغانستان. إنها خطة لسباق تسلح جديد وأسلحة نووية جديدة تنتهك التزاماتنا بالمعاهدة. إنها تثير مخاطر عسكرية بينما تسحب التمويل من مواجهة تهديدات حقيقية وتخفض ميزانية التنمية الدولية".

لكن الحكومة، وعدداً من المعلقين في الصحف والإعلام أيضاً، لا ترى أي انتهاك لمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية التي دخلت حيز التنفيذ عام 1970. ويذكر المعارضون تحديداً المادة السادسة من المعاهدة، لكن ذلك البند لا يحدد سقفاً لمخزون السلاح النووي للقوى النووية، وربما يكون الإعلان البريطاني غير متسق مع روح تلك المادة، لكنه ليس انتهاكاً قانونياً.

ونقلت "بي بي سي" عن متحدث باسم وزارة الدفاع البريطانية قوله إن "صيانة وتحديث عناصر من قدرات الردع النووي لبريطانيا يتسق مع التزاماتنا القانونية الدولية، بما في ذلك البند السادس من معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية".

القوة الناعمة

لم يقتصر تحقيق هدف تعزيز مكانة ودور بريطانيا في العالم على جوانب القوة العسكرية والقدرات الأمنية فقط. بل إن ذلك يعتمد على ما سمي في المراجعة "القوة الناعمة" لبريطانيا، التي وصفتها بأنها "محورية في هويتنا الدولية كبلد منفتح ومحل ثقة وقادر على الابتكار".

ومن بين أدوات القوة الناعمة التي ذكرتها المراجعة، هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) والدوري الإنجليزي (بريميير ليغ) وبطولة ويمبلدون للتنس وغيرها. وذكرت الورقة أن الدوري الإنجليزي يبث في 188 بلداً حول العالم، بينما يستمع 468 مليون شخص حول العالم أسبوعياً للخدمة العالمية من هيئة الإذاعة البريطانية.

وتضمنت المراجعة الإبقاء على ميزانية مساعدات التنمية الدولية التي تقدمها بريطانيا حول العالم عند نسبة 0.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وكان بعض قيادات حزب المحافظين يطالبون بخفض مساعدات التنمية، لكن الحكومة أبقت عليها. وكانت ميزانية المساعدات البريطانية إلى الخارج في 2019 عند أكثر من 21 مليار دولار (15.2 مليار جنيه إسترليني).

ويرى المسؤولون البريطانيون، خصوصاً المناصرون لبريكست، أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يوفر لها ميزات عدة لتعزيز مكانتها في العالم. فالتحرر من القواعد واللوائح الأوروبية يتيح لبريطانيا التفاوض على اتفاقيات تجارية مع الشركاء حول العالم بشروط أفضل. ولن تكون بريطانيا ملزمة معايير أوروبية تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان والشفافية حين تتفاوض على اتفاقيات تجارية مع دول أفريقية وآسيوية تعتبرها أوروبا منتهكة لتلك القواعد والمعايير.

وفي مقدور بريطانيا الآن اتخاذ مواقف في السياسة الخارجية لا تتفق بالضرورة مع المواقف الأوروبية في السياسة الخارجية من القضايا الدولية والإقليمية في مناطق العالم المختلفة.

الأهمية لأميركا والتحالف الغربي

بالطبع، لم تأت كل التعليقات على الجزء الأول الذي أعلن من المراجعة المتكاملة، وما تسرب عن الجزء الثاني الخاص بالمؤسسة العسكرية، كلها بشكل إيجابي. حتى في وسائل الإعلام المعروفة تقليدياً بتأييدها لحزب المحافظين الحاكم. ويرى البعض أن الخطط عبارة عن "إنشاء رائع" لكن التنفيذ والتمويل يظل محل شك.

يذكر أن نظام الردع النووي، "ترايدنت"، يحتاج إلى تحديث منذ سنوات طويلة. وسبق وأعلنت حكومات سابقة عن خطط لتحديثه تتكلف بضع مليارات، لكن في المرة الأخيرة اضطرت حكومة المحافظين برئاسة ديفيد كاميرون إلى وقف الخطة لنقص التمويل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ورأى كبير المراسلين الخارجيين  في صحيفة "الديلي تلغراف" رولاند أوليفانت أن المراجعة والاستراتيجية الجديدة "تمرين ذهني" جيد مدفوع أساساً بالبريكست وصعود دور الصين عالمياً، لكنه ركز على أن أهمية بريطانيا للولايات المتحدة تحديداً تراجعت مع خروجها من الاتحاد الأوروبي. بالتالي، كان على حكومة جونسون أن تسرع بالعمل على تعزيز مكانة بريطانيا في التحالف الغربي عموماً وأهميتها للولايات المتحدة ضمن هذا التحالف خصوصاً.

يتسق ذلك مع ما كتبه عظيم إبراهيم، مدير مركز السياسات الدولية في واشنطن، في مجلة "فورين بوليسي" قبل أكثر من أسبوع، محذراً من خطورة إجراء استفتاء على استقلال اسكتلندا على مكانة وأهمية بريطانيا بالنسبة إلى الولايات المتحدة ومطالباً الرئيس جو بايدن بالتدخل شخصياً لمنع تلك الخطوة. ومعروف أن نظام الردع النووي (صواريخ "ترايدنت" ذات الرؤوس النووية) على الغواصات النووية في قاعدة فرسلين البحرية في غير لوك باسكتلندا. وليس هناك مكان مناسب آخر على شواطئ بريطانيا لنقل القاعدة إليه في حال استقلت اسكتلندا.

وكتب إبراهيم كيف "ظلت بريطانيا الحليف الرئيس للولايات المتحدة، الذي يكرس سياسته لمصلحة التحالف الغربي حتى مع تحول حلفاء أميركا الآخرين مثل الاتحاد الأوروبي واليابان وإسرائيل للبحث عن مصالحهم بعيداً عن أميركا خلال فترة رئاسة دونالد ترمب. لكن استقلال اسكتلندا سيجعل بريطانيا ضعيفة وغير مفيدة في مشروع إعادة البناء الدولي، وتحديداً في هذه المرحلة حيث الحاجة إلى دورها أشد".

تساؤل عن التنفيذ

قد تكون الاستراتيجة البريطانية لما بعد بريكست باهرة على الورق، لكن تنفيذها مرهون بمدى قوة واستدامة التعافي الاقتصادي البريطاني ما بعد الخروج من أزمة وباء كورونا. وهي مرتبطة أيضاً بخطط لم يتم الانتهاء منها بعد لتنظيم قواعد وقوانين القطاع المالي في بريطانيا ليواجه ردة الفعل السلبية بعد بريكست التي أدت إلى خروج مليارات الدولارات من حي المال والأعمال (سيتي أوف لندن) إلى مدن أوروبية مثل أمستردام وفرانكفورت.

حتى تحديث القدرات العسكرية البريطانية لم ترصد له بعد لا الأموال الكافية ولا خطط التوريد واستراتيجيات التجديد والإحلال الكافية لمواجهة ليس المخاطر والتحديات فحسب، وإنما جعل بريطانيا قوة عسكرية كبرى في العالم مجدداً.

وشكك الجنرال ريتسارد دانات، الذي شغل منصب رئيس هيئة الأركان البريطانية في الفترة من 2006 إلى 2009، في مقال له في صحيفة "الديلي تلغراف" بقدرة بريطانيا على إنجاز كل ما وضع في تلك الخطط والاستراتيجيات التي وصفها بأنها "إبداع ذهني مبني على تحليل معلومات باستخدام تكنولوجيا متقدمة"، لكنه خلص إلى أن "أهدافنا الدفاعية جسورة، لكننا لا نستطيع تحمل كلفة كل ما نريده".

ما زال أمام حكومة جونسون أربع سنوات في الحكم، ليحسم المتحمسون والمعارضون موقفهم في ضوء ما يمكنها تحقيقه من بنود تلك الاستراتيجيات الجديدة وطموحاتها على صعيد الدفاع والعلاقات الخارجية، السياسية والاقتصادية، وغيرها.

المزيد من تقارير