Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"يوميات وجيه غالي" علامة فارقة في الكتابة الأنغلو عربية

انتحار الكاتب المصري المنفي في لندن لا يزال لغزاً بعد 53 عاماً

لندن المدينة التي نفي إليها الكاتب المصري وجيه غالي (غيتي)

صدرت ترجمة "يوميات وجيه غالي، كاتب مصري من الستينيات المتأججة"، للباحثة مي حواس إلى العربية (الكتب خان- القاهرة) بتوقيع محمد الدخاخني، في مجلدين، الأول يغطي الفترة من 1964 إلى 1966، والثاني يغطي ما بين عامي 1966 و1968.

وهذه اليوميات لصاحب رواية "بيرة في نادي البلياردو"، كانت أصلاً في حوزة ديانا آثيل التي انتحر غالي في شقتها وترك لها وصية بأن تحرر تلك اليوميات وتنشرها، لكنها اكتفت بكتابة (ونشر) مذكرات تدور حول علاقتها به بعنوان "بعد الجنازة" في العام 1986.

وتبين أن النسخة التي كانت لدى آثيل من تلك اليوميات فُقدت، لكن عُثر في بداية 2014 على نسخة طبق الأصل منها، حفظتها ديبورا ستار من جامعة كورنيل، بعد أن صورتها خلال زيارة للندن سبقت ذلك التاريح بنحو عشرة أعوام. وجرى نسخ المخطوطة وتحريرها بدقة شديدة، وتضمنت حوارين أجرتهما ديبورا ستار، الأول مع ديانا آثيل، يسلط الضوء على كيفية تعرفها على غالي، ولماذا كتبت مذكراتها حول علاقتهما بعد وفاته، والثاني مع سمير بسطا، ابن خالة وجيه غالي ويسلط فيه الضوء على حياته العائلية وطفولته في مصر.

على طريق الجنون

تبدأ اليوميات بتاريخ 24 مايو (أيار) 1964 (رايدت، ألمانيا)، "على طريق الجنون، بما أن هذا ما أبدو ماضياً فيه، لعله سيكون من الأفضل أن أدون يومياتي (...) ولو كان ذلك فقط من أجل التشبث بمسحة من سلامة العقل".

ثم تمضي حتى النهاية بيقين صاحبها في أنه سيموت منتحراً، لا محالة... مستعرضة أزماته العاطفية والمادية والنفسية، وفشله في أن يكتب رواية ثانية، "لا يمكنني العيش من دون حب، وعندما أحب وأكون تماماً وكلياً واقعاً في الحب أصبح مضجِراً..." 30 / 5 / 1964. وفي التاريخ نفسه كتب كذلك، الذهاب إلى طبيب نفسي لن يكون سوى مزحة. أعرف في أعماقي أنني منحر محتمل" صـ 38.   

 

تستهل حواس مقدمة عملها باقتباس تصدّر رواية "بيرة في نادي البلياردو"، كان غالي انتزعه من كتاب "من قبوي" لديستوفسكي، "بالأحرى، إننا نتوق إلى أن نكون شخصيات من صنف عمومي... أقصوصي". وفي المقدمة ذاتها، "في اليوم التالي لليلة عيد الميلاد لعام 1968، انتحر الروائي والمنفي السياسي المصري وجيه غالي في شقة في لندن تعود لمحررته، وصديقته وعشيقته السابقة، ديانا آثيل، وكان قد ترك لها رسالة موجزة يطلب فيها أن تقوم بتحرير ونشر يومياته. ولكن ولأسباب مختلفة، لم تفعل آثيل ذلك، على الرغم من أنها قد نشرت في آخر الأمر مذكرات تدور حول علاقتها به". 

بتاريخ الأول من يونيو (حزيران) 1964 كتب وجيه غالي، "لا أستطيع كتابة أي شيء مثير للاهتمام على الإطلاق. شرعتُ في كتابة خمس عشرة قصة قصيرة، لم أُنه أياً منها. هذه الرواية الثانية التي أحاول كتابتها لا تمضي قُدماً على الإطلاق أيضاً". 

وفي اليومية ذاتها يعلق على مقال يشير إلى الكراهية باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الاكتئاب، قرأه في "الأوبزرفر" "ربما هي تلك الكراهية التي لطالما شعرتُ بها تجاه أمي، لأنها لم تحبني. وهي أيضاً تلك الكراهية التي تحول كل علاقاتي إلى فشل مروع مع النساء اللواتي أحببنني أو اللواتي أحببتهن".

وحيد ومنبوذ ومحبوب أيضاً

وبحسب المقدمة التي كتبتها مي حواس فإننا بصدد "يوميات شخصية أدبية أخاذة وملغزة في صورتها غير المحررة"،  تصل المخطوطة إلى 700 صفحة، كلها ممسوحة ضوئياً عن نسخة مصورة عمرها عقد من الزمن بخط غالي، "غير المقروء والمسطور في حالة سُكر، الذي بالكاد يمكن فك رموزه أصلاً". تأتي اليوميات في ستة دفاتر، وتغطي الأعوام الأربعة الأخيرة في حياته، علماً أنه من مواليد 1929 أو 1930 وقضى نحبه منتحراً في بداية 1969.

جاء المجلدان في 810 صفحات، وسبق أن صدرت تلك اليوميات بالإنجليزية عن الجامعة الأميركية في القاهرة في 2016. في المجلد الأول نتعرف على شخصية غالي "المثيرة والقلقة"، وعلى "تقلباته المزاجية الحادة وعطشه الدائم للحب والفهم والنشوة، في عالم يموج بتغيرات رهيبة على المستويين الثقافي والسياسي، ونستمع إلى صوت الفرد المثقف الرافض والقلق، الوحيد والمنبوذ، والمحبوب أيضاً، كما تقدم اليوميات بانوراما هائلة للمجتمع الإنجليزي في تلك الفترة، وأهم التيارات السياسية والثقافية وقتها، فضلاً عن عديد من النماذج الإنسانية المتنوعة. كل شيء حول وجيه غالي محفوف بالأسئلة، تاريح ميلاده، وانتحاره، وكتابته، وعلاقته بعائلته، وعلاقته بالنظام الحاكم في مصر، ورحلته إلى إسرائيل بعد هزيمة 1967"، بحسب مي حواس.

 

بتاريخ 26 أبريل (نيسان) 1966 كتب وجيه غالي، "بدأ ينتابني اشتباه في اكتئاب: العلامات نفسها عندما أجبر نفسي على النوم، وعدم الاستيقاظ... وخوفي من الواقع. لقد أتيحت لي الكثير من الفرص لاستجماع قواي وترتيب حياتي، لكنني إما أجلس وأقرأ وأقرأ، أو أسكر... وأترك الحياة تمر بي دون فعل أي شيء بناء" صـ 388.

في الأجزاء 3، و4، و5، المتضمنة في المجلد الثاني من اليوميات، ينتقل غالي إلى لندن، ويبدو (بحسب مي حواس) تحسنت معنوياته على الرغم من وجود لحظات صعود وهبوط، بما أنه حظي بفرصة أكبر للاختلاط الاجتماعي. يقدم هذا المجلد منظوراً فريداً عن "الستينيات المتأرجحة" في لندن، وبغض النظر عن كيف بدا غالي مبغِضاً للتشكيلة الثقافية والسياسية، رافضاً مختلف الحركات، بداية من حملة نزع السلاح النووي إلى اليسار الراديكالي، فقد كان شأنه شأن آخرين، مُشبعاً بروح "التأرجح".

هنا يحكي غالي كذلك عن علاقته شبه الطفيلية بديانا آثيل، لأنه كما أوضح قد تعيّش على مالها وفي شقتها لمدة عامين. ويبني كذلك الأحداث التي وصفتها ديانا بدقة في مذكراتها، بما في ذلك رحلتهما إلى يوغوسلافيا، وعلاقات غالي مع عديد من عشاقها، والعراك المروع الذي دار بينهما عندما قرأت يومياته... يقدم النصان (كما تلاحظ مي حواس) طباقاً خارقاً بين صوتين أدبيين.

الأيام الأخيرة

توضح الأقسام الأخيرة زيارة غالي إلى إسرائيل، والأيام الأخيرة من حياته بعد عودته إلى إنجلترا، وتقدم يومياته في إسرائيل تقريراً يسير يوماً تلو يوم عن أكثر تصرفات حياته شهرة وإلغازاً. إن وصف الأجواء (تضيف مي حواس) والمزاج العام بعد حرب الأيام الستة في الدولة التي كانت في ذلك الوقت في العشرين من عمرها، لهو أمر نادر الحدوث. تخلو يوميات غالي في إسرائيل، بحسب محررتها، من حدة أوإلحاح أورعب الوضع الإسرائيلي – الفلسطيني، الذي تفاقم منذ ذلك الحين. وعلى العكس يبدو غالي إلى حد كبير في صورة سائح، أو كرجل عالق في وضع لم يستطع، شأنه شأن آخرين غيره، استيعاب عوامله المتغيرة بشكل كامل. يصف في يومياته لقاءاته بسائحين يهود وصحافيين ونشطاء إسرائيليين غير راضين عن الحرب مع مصر، ويحكي عن زيارته لكنيسة قبطية لا طائفية في القدس، ويذكر إحساسه بالعجز في مواجهة حقائق إسرائيل – فلسطين. وهو لا يقدم إفادات سياسية قوية وشاملة في هذه المرحلة، وأولئك الذين يبحثون عن مواقف نقدية نهائية لا بد أن يصابوا بخيبة الأمل، فهو يسهب (أكثر من أي شيء آخر) على نحو شديد الأهمية أيضاً، في الحديث عن الارتباك الصادق الذي يشعر به باعتباره مصرياً دمرته حرب 1967.

 

إن الرحلة العقلية للمعرفة، التي يجب عليه القيام بها من أجل تطوير موقف حازم تجاه إسرائيل، تأتي في وقت لاحق. من تجربته الخاصة مع النشطاء والفنانين الإسرائيليين، تتزايد وتيرة نقده لكل من المشروع الصهيوني والسياسة الإسرائيلية تجاه الدول العربية، وكذلك الدولة الناصرية. مع ذلك سيتم تجريد غالي من جواز سفره المصري، ليشعر بالوحدة أكثر من أي وقت مضى، وتدريجياً يتفاقم اكتئابه، ومع وجود عديد من المحفزات، مثل فقدان صديقه المقرب بيتر شيلو في ألمانيا، وزيادة المشكلات المالية، يقدم غالي على الانتحار، وفي آخر يومية كتبها يشرح كيف ولماذا يفعل ذلك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وخلافاً ربما لرغبته الأخيرة، فإن اليوميات تؤسس سمعته باعتباره من أصحاب العمل الأدبي الواحد بسبب عدم كتابته لرواية ثانية (على الرغم من أنه يشير إلى كتابته مسرحية بالألمانية). علاوة على ذلك (تقول مي حواس) فإن اليوميات تؤطره كخروف أسود للأكاديمة الأدبية وتقدم تأملاً مدهشاً (وإن كان مروعاً في بعض الأحيان) عن هدر رهيب للموهبة ومزاج غير مستقر، لكن في هذا أيضاً، وكما أحدثت "بيرة في نادي البلياردو" في الرواية الأنغلو – عربية، تمثل يوميات وجيه غالي علامة فارقة، في هذا النوع من اليوميات العربية وانفتاحها على تابوهات الصراع العائلي والرضّة النفسية والانقياد الكحولي والتهتك الجنسي.

إن هذه اليوميات كما تلاحظ مي حواس، تطرح سرداً على درجة فريدة من الصدق بين السير الذاتية العربية، حول عيش المرء من أجل متعته الخاصة، لا سيما أنه لا وجود، كما يكتب عالي، لاعتبار أخلاقي في هذه القصة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة