Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 اليابانية يوكو أوغاوا تمارس لعبة الإخفاء الملغز

"شرطة الذاكرة" رواية الوقائع المتخيلة بين السلطة وعامة الناس

الروائية اليابنية يوكو أوغاوا (الصورة تخضع لحقوق الملكية الفكرية - دار الآداب)

 في العام 1994، صدرت رواية "شرطة الذاكرة" للروائية اليابانية يوكو أوغاوا. واليوم، بعد حوالى ثلاثة عقود على صدورها، بِلُغَتِها الأم، تصدر بالعربية عن دار الآداب، بترجمة محمد آيت حنّا. والرواية هي الرابعة عن هذه الدار، بعد "حوض السباحة"، و"غرفة مثالية لرجل مريض"، اللتين ترجمهما الشاعر والمترجم الراحل بسام حجار، و"حذاء لك" التي ترجمها المترجم السوري معن عاقل، ما يعني أن الروائية ليست جديدة على اللغة العربية.

في الفصل العشرين من الرواية، يسأل الجدّ "حفيدته" الراوية/الروائية: "هل يستطيع كاتب الرواية أن يكتب مشاهد لم يشهدها؟"، فتجيبه: "نعم، أظنُّ ذلك. حتى وإن لم يرَ المؤلّف أو يسمع، يكفيه أن يتخيّل ليكتب. يبدو أن ليس من الضروري أن تطابق الكتابة الواقع، لا بل إن حتى الكذب مسموحٌ به" (ص 270). وهذا، بالضبط، ما تفعله يوكو أوغاوا في "شرطة الذاكرة"، بحيث تتخيّل، و"تكذب"، وتأتي بنصٍّ  مفارقٍ للواقع. وبكلمة أخرى، نحن إزاء عمل غرائبي بامتياز.

فضاء غرائبي

على جزيرة مغفلة، تدور أحداث الرواية، وتنخرط فيها مجموعة شخوص من موقعين مختلفين؛ موقع الفعل الذي تقوم به سلطة غريبة الاسم والمهام، وموقع رد الفعل الذي يقوم به عامة الناس. ويترتّب على هذا الانخراط وقائع غير واقعية لا تقل غرابة عن فاعليها والمنفعلين بها. وبذلك، تنسحب الغرابة على المكان والشخوص والأحداث. وبموجب هذه الغرائبية، يمكن إدراج الرواية في فئة روايات الخيال العلمي. وكأني بالروائية تتخذ من الخيال الغرائبي إطاراً للتعبير عن عالم واقعي، تتجاذبه سلطة أمنية تُمارس فعل القمع، والرقابة على الذكريات، ومحاكمة النيات، من جهة، ورعيّة مغلوبة على أمرها، يقع عليها الفعل ومشتقّاته، من جهة ثانية. وهي بذلك، تمارس نوعاً من التقيّة الروائية، تنتقد الواقع القائم بالخيال العلمي، فتقول ما تريد، ولا تتحمّل مسؤولية القول.

 

تقع الرواية في ثماني وعشرين وحدة نصية متوسطة الطول، تشتمل كلٌّ منها على عدة مشاهد سردية. ومعظمها يجاور بين السرد والوصف والحوار. وإذا كان السرد يرصد حركة الأحداث وآلية حصولها في الزمن، فإن الوصف يضيء أمكنة الحصول ومحتوياتها. أما الحوار فتتمظهر من خلاله الكثير من الوقائع المتخيّلة في الرواية. على أنه حوار بين طرفين اثنين؛ أحدهما ثابت، والآخر متغيّر. الطرف الثابت فيه واحدٌ، هو بطلة الرواية وراويتها، الحاضرة، بشكل مباشر، في معظم الفصول، من خلال ما ترويه وتنخرط فيه من أحداث، والحاضرة، بشكل غير مباشر، في بعضها، من خلال الرواية التي تكتبها، فتجمع بين دوري الراوية والروائية، في الوقت نفسه، وتشكّل الشخصية المحورية في الرواية. أما الطرف المتغيّر في الحوار فَمُتَعَدّدٌ، هو: الأم، الأب، الناشر، البروفسور إنوي، "الجد"، شرطة الذاكرة، المرأة الثرية، السكرتير، ضابط الشرطة، كلب الجيران، بائع القبّعات، رئيس الحي، وغيرهم. على أن الشخصيتين الأكثر تواتراً من دون سائر الشخوص، في هذا الطرف، هما: "الجد" والناشر.

ظاهرة الاختفاء

تتمحور الحوارات في الرواية حول ظاهرة غريبة، تحدث في الجزيرة، هي اختفاء الأشياء والأعضاء والمخلوقات، في ظاهرة غير طبيعية تثير فضول السكان وخوفهم وقلقهم لكنهم لا يلبثون أن يتكيّفوا معها، ويعتادوا القبول بها والخضوع لها. وفي هذا السياق، تختفي: الأم، الطيور، الورود، آل إنوي، الصور الفوتوغرافية، الثمار، المراكب، الروزنامات، صناديق الموسيقى، القبعات، الروايات، العبّارة، السيقان اليسرى، الأذرع اليمنى، والأجساد. هي مظاهر الحياة تختفي تباعاً. والغريب أنه في كل مرة يختفي فيها شيء معيّن، تقوم شرطة الذاكرة، الجهاز الأمني السري، الغريب الاسم والمهام، بتطبيق قانون الاختفاء غير الطبيعي، ومطاردة الذكريات المتعلقة بالشيء المختفي، ومحوها من الوجود، ومحو حامليها. فينشأ تواطؤ غير معلن بين القوى الخارقة، غير المرئية، التي تتخذ قرار الإخفاء، والقوى البشرية الغريبة التي تطبّق القرار. ويكون الناس على الجزيرة ضحايا هذا التواطؤ. ولكلٍّ من الفريقين آليات عمله، سواءٌ من موقع الهجوم أو الدفاع.

تتمظهر مهمة "شرطة الذاكرة" في "الحرص على أن تتم عمليات الاختفاء دونما إبطاء، والتعجيل بامّحاء الذكريات التي لم تعد فيها فائدة" (ص 142)، في فضاء روائي، يحكمه قانون الاختفاء، ويشكل التذكّر فيه جريمة لا تُغتفر. وفي سياق تنفيذ هذه المهمة، تقوم الشرطة بالبحث عن المعلومات، الاستقصاء، الاستدعاء، مداهمة البيوت، الاعتقال الكيفي، التحقيق، الإخفاء، إحصاء الحركات والسكنات، فحص الجينات، تحليل السكان، وتحويلهم إلى معطيات مسجّلة، حتى إذا ما ضبطت بحوزة أحدهم أو في ذاكرته شيئاً من متعلّقات المختفي، يتم إنزال عقوبة الإخفاء به، ما يثير الرعب في أوساط الناس، ويدفعهم إلى البحث عن آليات دفاع يدافعون بها عن أنفسهم. معظمها سلبي، وبعضها إيجابي.  

آليات الدفاع

بمعزل عن سلبية الآليات أو إيجابيّتها، فهي تتمظهر في القبول بالأمر الواقع، الخضوع للسلطة القائمة، الهرب، الاختباء، التنكّر، تخبئة الأشياء، والكتابة. ولعل هاتين الآليتين فقط هما الإيجابيّتان من دون سائر الآليات المذكورة. وعليه، تقوم الأم النحّاتة بتخبئة الأشياء المختفية في منحوتات صغيرة في مقاومة منها لفعل المحو. يقوم البروفسور إنوي بالاختباء. يهرب آخرون في مركب هزيل، جرى ترميمه سراً، بعد اختفاء المراكب. يمتثل معظم الناس لقانون الاختفاء وأوامر الشرطة ونواهيها. تكتب الراوية بكتابة الرواية. تقوم بالتعاون مع زوج مربّيتها التي تتخذها جدّاً لها، بتخبئة الناشر "ر"، في غرفة سرّية في منزلها، حين يتم استدعاؤه من قِبَل الشرطة، فينجو من الإخفاء. وهنا، ينجح التضامن الاجتماعي في مقاومة القانون الجائر والشرطة السرّية، ما يشي روائياً بأهمية التضامن في مواجهة المحن، ويعبّر عن الإيمان باستمرارية التعبير والنشر، ويقول باستحالة القبض على الذاكرة ومحو الذكريات، على رغم كل أجهزة الشرطة، السرّية وغير السرّية.

 

وقائع التضامن هذه تتمظهر في العلاقة الثلاثية بين الشخوص الثلاثة الأكثر حضوراً في الرواية؛ فالراوية التي تكتب الروايات وتتخذ منها مصدراً للعيش تستشعر خطراً على عملها حين يُستدعى ناشرها إلى التحقيق، وتعلم، انطلاقاً من تجربة اختفاء أمها، مآل هذا الاستدعاء، فتتدبر، مع "الجد" الذي تربطها به علاقة وثيقة، أمر إخفائه عن أعين الشرطة والناس، في غرفة سرّية في منزلها، ويتوزع الثلاثة الأدوار للبقاء بمنأى عن مضاعفات اكتشاف هذا الإخفاء.

الجد يقوم بتجهيز الغرفة وتزويدها بما يجعلها مناسبة للاختباء، ويؤمّن التواصل بين الناشر وزوجته المقيمة في حي التل الشمالي، ويُعرّض نفسه لخطر الملاحقة، ويتكتّم على تخبئة الناشر حين تحتجزه الشرطة، وتحقق معه في قضية مهاجرين غير شرعيين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الراوية تقوم بالتسوّق الصعب، وتعدّ الطعام، وتسهر على تأمين حاجيات الناشر بما يجعل إقامته القسرية محتملة، وتبادله الشؤون والشجون، وتنقل له ما يحصل في الخارج، وتنخرط معه في علاقة حب.    

الناشر يقوم بتنفيذ ما تكلّفه به الراوية، بناءً على طلبه، من صقل أدواتها المنزلية. يبادلها الحديث ويخفّف عنها ويدعمها معنوياً على رغم حاجته إلى الدعم أكثر منها، يحثّها على متابعة الكتابة على رغم خطورة الأمر بعد اختفاء الروايات وإحراق الكتب، يخبّئ في غرفته الكتب التي أرادت الاحتفاظ بها، يستخرج ما خبأته الأم في منحوتاتها، ويفك أسرارها. وحين تختفي ساقها اليسرى وذراعها اليمنى، يقوم بتدليكها ليعيد لها الإحساس بهما، وحين يختفي جسدها، يقوم بحملها مثل أميرة.

في نهاية الرواية، بعد أن يموت الجد، ويختفي جسد الراوية، ويصبح كل شيء مهدداً بالاختفاء، بما في ذلك الجزيرة نفسها، يخرج الناشر من مخبئه، وينطلق إلى العالم الخارجي. ولعل يوكو أوغاوا أرادت أن تقول من خلال هذه النهاية، إضافةً إلى ما قالته في متنها، استمرارية الحياة، واستحالة القضاء عليها، مهما تضافرت القوى الخارقة للطبيعة وأدواتها البشرية، واستحالة القبض على الذاكرة ومحو الذكريات، مهما اجتهدت الشرطة في مهمتها. وبقاء الناشر على قيد الحياة إيذانٌ قطعيٌّ بذلك.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة