Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البريطاني غراهام سويفت يروي قصة حب وفقدان

"ها نحن هنا" رواية وجدانية عن السحر الأبيض والأسود في الحياة

الروائي البريطاني غراهام سويفت (الصورة تخضع لحقوق الملكية الفكرية - دار غاليمار - باريس)

بعد روايته الرائعة "أحد الأمهات" (2016)، يطل الكاتب البريطاني غراهام سويفت برواية جديدة تحمل عنوان "ها نحن هنا"، وتبدو عند الوهلة الأولى كلاسيكية بقصتها (رجلان يعشقان امرأة واحدة) قبل أن تنكشف شيئاً فشيئاً فتنتها وحيلها، تماماً مثل فتنة أوحيل شخصياتها. رواية صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "غاليمار" بعنوان "اللعبة الكبرى"، ويلجأ سويفت فيها مرةً أخرى إلى تلك الوصفة التي يعرف وحده سر مكوناتها وتوابلها، وتمنح جميع أعماله نكهتها الفريدة ومناخاتها الساحرة.

أحداث الرواية تدور بشكل رئيس في مدينة برايتون الإنجليزية الساحلية خلال أغسطس (آب) 1959، وتحديداً داخل مسرح يقدم طوال الصيف لسياح المدينة المحليين عروضاً فنية تتراوح بين غناء وتقليد وألاعيب سحرية. مقدم العروض جاك روبينسون نجم محبوب لامتلاكه ما يتطلبه عمله من مهارات أدائية ولغوية، لكن ما يجذب السياح يومياً إلى هذا المسرح ليس طلاقة لسانه وتعليقاته التي لا شك في طرافتها، بل عرض صديقه روني دين والشابة إيفي وايت، اللذين ما إن يطلا على جمهورهما حتى يصبحا الساحر بابلو المدهش ومساعدته إيف الخلابة.

جاك وروني التقيا أثناء تأديتهما الخدمة العسكرية، وروني التقى إيفي إثر الإعلان الذي وضعه في الصحف بحثاً عن مساعد/ة لعروضه، وحسم خياره لصالحها لافتتانه فوراً بساقيها الطويلتين، لا لبراعتها اللافتة في تأدية المهام المطلوبة منها. ولأن جاك يعرف كيف يفتن جمهوره ويؤجج فضوله، وإيفي جميلة تسحر فوراً من يقع نظره عليها، وروني يملك مهارات وخفة يدوية نادرتين، يحصد هؤلاء الثلاثة نجاحاً باهراً، لكن حين يسدل الستار ماذا يحدث؟ هل يبقى السحر فاعلاً بينهم فيحول دون وقوع أي منهم في الحسد أو الغيرة أو الملل؟ سؤال مشروع لأن روني وإيفي سيرتبطان بعلاقة غرامية تؤول إلى خطوبة رسمية، لكن جاك لا يلبث أن يعشق بدوره إيفي التي تبادله بسرعة مشاعره. وحين يستنتج روني أن خطيبته على وشك الإفلات منه، لا يجد حلاً آخر سوى التواري.

العلاقة الثلاثية

وقد يظن القارئ أننا أفسدنا عليه قراءة الرواية بكشفنا عن مآل قصتها، لكن الحقيقة هي أن سويفت هو الذي يكشف عن التفاصيل التي أدلينا بها في مطلع نصه لسعيه، أبعد من العلاقة الثلاثية بين روني وإيفي وجاك، إلى كشف شيء آخر، وهو أن الملموس في عالم شخصياته الخاص، ذلك الذي يبقى بعد انطفاء الأضواء على خشبته، هو فحسب طبيعة الروابط التي ننسجها مع الآخرين، سواء كانت مهنية، أو عاطفية؛ ومحاولته الإجابة عن السؤال التالي: هل يجب التشبث بهذه الروابط للبقاء على أرض الواقع أم تركها تتمزق لرؤية الوهم الذي يقف خلفها؟

للإجابة عن هذا السؤال، يشيد الكاتب روايته على شكل موجات سردية متعاقبة. فحين نظن بأننا بلغنا عنصراً جوهرياً في قصتها، تعود سرديتها المفككة بنا إلى الوراء تارةً لوصف طفولة إيفيه في كنف أمها التي علمتها منذ نعومة أظافرها كيف تقف وتتحرك أمام الجمهور وكيف تبتسم له، وتارةً لتصوير طفولة روني أثناء الحرب العالمية الثانية التي أمضاها في الريف، مثل أطفال بريطانيين كثر آنذاك، للإفلات من قنابل النازيين، وتعلم خلالها ممارسة السحر في منزل العجوزين لورانس اللذين احتضناه. وأحياناً تذهب سردية سويفت بنا إلى الأمام فنتعرف إلى حياة إيفي، وقد أصبحت سيدة عجوز تدير إرث زوجها المتوفى جاك، بعد حصده نجاحاً باهراً، وتستسلم غالباً لذكرياتها وحنينها إلى سنوات شبابها، ما يقودها ــ ويقودنا معها ــ إلى ما دار على خشبة مسرح برايتون وفي كواليسه خلال صيف 1959، بالتالي إلى ما جعلها تقع في غرام روني أولاً، ثم جاك لاحقاً.

هكذا، يصبح كل واحد من هذا الثلاثي العاشق بطلاً للرواية بالتناوب، فيتعرى أمامنا من دون أن يكشف كلياً عن أسراره، ويأخذنا سويفت مع كل منهم في رحلة مليئة بالمفاجآت، قافزاً بنا داخل الزمن تارةً إلى الوراء، وتارةً إلى الأمام، ومغيراً وجهات النظر لسرد قصته من دون سابق إنذار، تماماً مثل ساحر. وكما لو أننا أمام حيلة سحرية، نراه لا يرفع الحجاب إلا عن أجزاء من قصته، ويترك في الظل كثيراً من تفاصيلها، وحتى خطوطها العريضة، فنكتفي سعداء بشذرات منها ومناخات تتوارى مع انسدال الستار.

كواليس العروض

بالتالي، أبعد من كواليس عروض السحر والشعوذة التي يغوص الكاتب بنا فيها، معيداً من خلال ذلك إحياء حقبة توارت، تكمن قيمة الرواية، خصوصاً في المهارات الكتابية التي يُبديها فيها، وتمنح قصتها الكلاسيكية كل ألقها وجاذبيتها. مهارات تتجلى في السيولة السردية المدهشة، وتلك الألمعية السيكولوجية في رسم الشخصيات وتلوين المشاعر، وتجعل القارئ الممغنط بها يتابع تطورات القصة، ممزقاً بين الرغبة في معرفة مآلها وحدسه بأن "العرض" فيها لن ينتهي أبداً. ولا عجب في ذلك، فسويفت هو فنان قبل أي شيء يعرف جيداً كيف يحل تلك المناخات الأسرة بنثره الأخاذ، وروايته ليست رواية عادية في صرحها، إذ نلجها كقبعة ساحر يخرج منها أكثر من أرنب، أو كصندوق غامض يقطعنا الكاتب داخله إرباً إرباً، وبدلاً من الصراخ، نطلب المزيد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن "ها نحن هنا" ليست مجرد أداء سردي وفني باهر، فخلف حجب الألوان التي يلف سويفت بها شخصياته، ثمة بحث هوياتي عميق وتأمل في ثقل خيارات حياة ما ومدى تأثيرها على عدة أقدار متشابكة. ثمة أيضاً حكاية شعرية جميلة عن السحر الأبيض والأسود للوجود، وعن لعبة الحب المعقدة، وعن الحيل الجيدة والسيئة التي تخبئها الحياة لنا. ثمة أخيراً ــ وليس آخراً ــ حقيقة نستشفها بأنفسنا من حياة إيفي، ومفادها أنه في النهاية لا يبقى سوى سحر الذكريات والأوهام لاستحضار شبح أولئك الذين رحلوا وكانوا غالين على قلوبنا.

في الصفحات الأخيرة من هذا العمل الفريد، وبعد شك مؤثر ومتواتر في معنى حياته كممثل، يقول جاك "اللعنة على الحياة الحقيقية! من يحتاج إليها؟"، متسائلاً "أين ينتهي العرض وتبدأ الحياة الحقيقية؟". تساؤل استحضر إلى ذهن أحد النقاد ما قاله العملاق شكسبير في هذا الموضوع، ويصلح كخير خلاصة للرواية "العالم كله مسرح، وجميعنا، رجالاً ونساءً، لسنا سوى ممثلين نؤدي طوال حياتنا أدواراً عديدة على خشبته".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة