لم يكن عالم النفس والباحث الألماني الأصل برونو بتلهايم من الذين يرضون بالحلول السهلة ولا بمظاهر الأشياء، بل يسعى دائماً إلى ما هو قريب من الكمال العلمي. ومن هنا نراه يشتغل عشرات السنين على ما كان يعتبر الترجمة الإنجليزية لأعمال فرويد الكاملة التي صدرت في حياة مبتدع التحليل النفسي بإشراف ابنته آنا فرويد، متحيناً الفرص لإعادة ترجمتها إذ "أحسست وأحس معي كثر أنها لا تفي تلك الكتابات حقها". كذلك رأيناه في مجال أكثر إثارة للأسئلة يشتغل على الحكايات الموضوعة للصغار ليستخلص منها أبعاداً ما كانت لتخطر في بال كثر من قبله. وفي هذا السياق نعرف أن كتابه "التحليل النفسي للحكايات الخرافية" كان ويبقى رائداً ومن أعمق ما صدر في القرن العشرين في هذا المجال.
ما وراء الحكايات
في هذا الكتاب اشتغل بتلهايم على حكايات معظمها من كتابة أندرسن وشارل بيرو والأخوين غريم ليطلع من تحليلها باستنتاجات مدهشة وغاية في الأهمية. ونعرف أن بتلهايم اختار من بين تلك الحكايات واحدة خصها بعدد لافت من الدراسات جاعلاً منها ليس منطلقاً أساسياً لدراسة أدب الأطفال فقط، بل ميداناً واسعاً لدراسة سيكولوجيات الصغار والحياة العائلية وبناء الشخصية الطفلة في علاقاتها بالآخرين، لا سيما بالإخوة داخل البيت الواحد. والحقيقة أن تلك الدراسة المعمقة والمتعددة المراحل للاشتغال على تلك الحكاية، ونعني بها "سندريلا" عرفت كيف تعطي تفسيراً للسبب الذي جعل كثراً من الفنانين والأدباء من كتاب قصة وموسيقيين ورسامين يجدون ضالتهم في الحكاية فيقتبسونها في أوبرات وباليهات ولوحات موجهة في غالبيتها للكبار بصرف النظر عن كونها في الأصل عملاً للصغار.
للصغار وأكثر
بين يدي بتلهايم، قد تكون "سندريلا" دائماً حكاية للصغار لكن تفسيراتها والتنويعات عليها والاستنتاجات التي يمكن، بل يجب، أن تسفر عنها تنتمي إلى أعقد مجالات دراسة الشخصية الإنسانية وتكون العواطف والنزعات لدى الأطفال. ومع هذا ينطلق بتلهايم في دراسته، بل دراساته المتعددة، حول سندريلا من فكرة في غاية البساطة، وهي أن من حول هذه الشخصية يمكننا أن ندرس تلك الصراعات وضروب المنافسة بين الإخوة في البيت الواحد ما يؤدي إلى سلوك كل أخ أو أخت درب حياة مستقلة ويفسر السؤال المطروح دائماً: لماذا صار لكل واحد منهم شخصية مختلفة مع أنهم تربوا معاً، وفي ظل أوضاع عائلية متشابهة. "أبداً ـ يجيب بتلهايم هناـ إذ حتى ولو أن الوضع العائلي لسندريلا، على سبيل المثال، يبدو في الحكاية استثنائياً (كونها تعيش في بيت تسيطر عليه زوجة أب تريد أن تنتزع كل شيء لبناتها، وبالتالي تعامل سندريلا معاملة الخادمة المضطهدة)، فإن الواقع التربوي لا يبدل من حقيقة الأمور شيئاً".
المضهطد بين إخوته
فذلك الواقع "الاستثنائي" لا يشكل سوى نقطة أولى بين عدة نقاط يحللها بتلهايم. فالباحث بعد ما يحدد الإطار العام للمناخ العائلي الذي يخلق التمايز بين الإخوة، يشتغل على فكرة ينطلق فيها هنا من حكايات ألمانية تتحدث عن تنافس بين الإخوة يوصل واحداً منهم إلى أن يصبح ملكاً بعد ما كان مضطهداً بين إخوته. ثم من هذه الحكاية التي لا يكون فيها وضع الطفل استثنائياً، ولا تفرقة فيها بين أنثى وذكر، يشتغل الباحث على الكيفية التي تولد بها الغيرة بين الإخوة في البيت الواحد، ومن ثم يسهب في تفسير كيف أن الإخوة سرعان ما ينقسمون في استيعابهم لوضعهم قسمين: قسم، يعي وضعه ويشتغل عليه، وآخر، يشتغل ضمن حراك وعيه الباطن. وهنا يعود الباحث في النقطة التالية إلى سندريلا ليرينا ضمن نطاق تحليله الدور الواعي للعائلة في تلك الوضعية، كيف أن في خلفية وضعية سندريلا إحساس هذه الأخيرة الضمني بتفوقها على بقية نساء العائلة (الخالة والأخوات) ورغباتها النابعة من هذا التفوق؛ ليصل في النقطة الأخيرة إلى تعميق دراسته، ومن ثم إيصال التحليل إلى البعد الجنسي الذي لا بد أن نلاحظ كيف اشتغل عليه كثر من المحللين رابطين إياه بحكاية منتصف الليل والحذاء المفقود ما أعطى الحكاية منذ زمن طويل أبعاداً مختلفة عما كان متصوراً. ومن الواضح أن هذا الاشتغال الذي استغرق من برونو بتلهايم عقوداً طويلة من حياته لم يحدث فقط تبدلاً في النظرة إلى تلك الحكاية وغيرها، بل أحدث انقلاباً أساسياً في مجال التعامل مع مفاهيم التربية نفسها ما جعل للباحث مكانة أساسية في علوم التربية والسلوك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من فيينا إلى أميركا
ولد برونو بتلهايم عام 1903 في فيينا، التي درس في جامعتها وحصل على شهادة الدكتوراه منها في 1938. ولكن فرحته بالدكتوراه، في ذلك العام لم تكتمل، إذ سرعان ما رمى به النازيون في معسكرات الاعتقال متنقلين به بين داشو وبوخنفالد، وكاد يكون مصيره القتل، كما روى بنفسه أكثر من مرة، لولا معجزة ما أدت إلى إطلاق سراحه في العام التالي، 1939، أي عام اندلاع الحرب العالمية الثانية، فسارع بالهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية. وهو منذ ذلك الحين بات يعتبر أميركياً، وراح يكتب معظم كتبه ودراساته بالإنجليزية. وكان حال وصوله إلى الولايات المتحدة قد التحق بمركز تابع لجمعية البحث التربوي في جامعة شيكاغو. ثم بعد ذلك بسنوات قليلة أصبح مدرساً للتحليل النفسي في كلية روكفورد (1942- 1944)، وكان من شأنه أن يبقى على ذلك الحال باحثاً جامعياً مرموقاً، إنما محدود الشهرة، لولا أنه نشر في 1943 دراسة بعنوان "السلوك الفردي والجماعي في المواقف القصوى" قرئت على نطاق واسع وجرى نقاشها لما فيها من آراء جديدة ومفاجئة، خصوصاً وأن بتلهايم أسس دراسته على ملاحظاته وتجاربه الشخصية التي عاشها في معسكرات الاعتقال النازية، فكان بهذا أول عالم يخضع مثل تلك التجارب للدراسة العلمية ويحلل آلية القمع، وردود الفعل الجماعية في معسكرات الاعتقال، بعيداً عن الخطاب السياسي.
بدءاً من المتخلفين
منذ ذلك الحين لم يعد بإمكان أي شيء أن يقاوم صمود برونو بتلهايم العلمي. وهكذا نجده يعين في 1942 أستاذاً مساعداً لعلم النفس في جامعة شيكاغو، كما عين في الوقت نفسه رئيساً لمدرسة لفحص قلق الطفولة تابعة للجامعة نفسها. وهناك في تلك المدرسة عاش بتلهايم احتكاكه الواسع والأساسي مع المشكلات العاطفية والذهنية للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 سنوات و14. وكان صلب عمله يدور من حول الأطفال "المتخلفين" عقلياً. وعند بداية سنوات الخمسين راح برونو بتلهايم يوسع من دائرة اهتماماته العلمية في مجال تطبيق نظرياته حول الطفولة ومشكلاتها على المعضلات الاجتماعية المتعلقة بتربية الأطفال أنفسهم. وفي تلك الآونة اشتهرت له دراسات عديدة راحت تترجم إلى العديد من اللغات، وأشهرها في ذلك الحين "الحب وحده لا يكفي" (1950) التي أثارت ضجة كبرى في عالم التربية. على الدوام كان عمل برونو بتلهايم يتحلق من حول الكشف عما يمكن فعله من أجل إزالة أسباب المعاناة العاطفية والقلق لدى الأطفال الذين يعانون ذلك، ومساعدتهم على العمل ضمن طاقاتهم الخلاقة وضمن إطار مجتمع لا يعود قادراً على رفضهم. لكن ذلك لم يمنع بتلهايم من التركيز في العديد من دراساته الأخرى على مسائل تتعلق، أيضاً، بتربية الأطفال الأصحاء، موفراً دراسات كان يأمل أن اتباع الأهل لما جاء فيها، لو قرأوها، سيؤدي إلى جعل الأطفال أكثر فائدة من الناحية الاجتماعية، وقادرين بدورهم على تربية أهلهم كما يربيهم هؤلاء. فالمشكلة بالنسبة إلى بتلهايم لم تكن، فقط، مشكلة نظرة الكبار إلى الصغار والتعامل معهم، ولكن ذلك وخصوصاً مشكلة نظرة الصغار إلى الكبار. ومن هنا ركز بتلهايم دائماً، وبخاصة في كتب له مثل "القلعة الفارغة" (1967) على الأهمية القصوى للطريقة التي بها، يروي الكبار، الحكايات للصغار. ولقد كانت رواية تلك الحكايات من الأهمية، بالنسبة إليه، بحيث أفرد لها واحداً من أشهر وأفضل كتبه "التحليل النفسي لحكايات الجن الخرافية". وفي هذا الإطار كان يحلو لبتلهايم أن يقول "أبداً لن يتمكن التلفزيون من الحلول محل الأم أو الجد في رواية حكايات لأطفال يضعانهم فوق ركبتيهما طوال ساعات وساعات. وكان بتلهايم يرى أن مثل هذه الوضعية هي الوضعية الأسلم لتكوين الطفل.