Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"دراسات حول الهستيريا" لفرويد ككتاب أول

جذور اللاوعي والعُصاب وانشقاقات الرفاق

مجسم لسيغموند فرويد أمام متحفه في فيينا (أ ف ب)

بشكل موارب يمكن اعتبار عام 1936 السابق بثلاث سنوات على رحيل رائد التحليل النفسي في منفاه اللندني، عاماً مفصلياً في تاريخ هذا العلم. وذلك ببساطة لأن ماري بونابارت، التي كانت من تلامذة فرويد ورعاته، اشترت في ذلك العام من دكان بائع عتائق مجموعة أوراق سرعان ما تبين لها أنها تشكّل مخطوطات الرسائل التي كان أستاذها يتبادلها مع تلميذه فلهلم فليس، بين عامي 1887 و1904، التي كان من المعتقد أنها قد ضاعت إلى الأبد. وكان مرفقاً بالرسائل مخطوط آخر لفرويد يحمل عنوان "مخطط لسيكولوجية علمية". بيد أن الرسائل كانت أكثر أهمية لأن فرويد تحدّث فيها عن بداياته واكتشافاته الأولى في مجال ما سيسمى لاحقاً بالتحليل النفسي، موضحاً الأهمية التي يوليها لواحد من أوّل النصوص التي صدرت حاملة توقيعه، وهذه المرة إلى جانب توقيع بروير الذي عمل معه طويلاً في سنوات البدايات، قبل أن يختلفا فيسير كل منهما في طريق، علماً بأن افتراقاً مماثلاً سيحدث أيضاً بين فرويد وفليس، لكن تلك حكاية أخرى.

كل بدايات فرويد هنا

ما يهمنا هنا هو نصّ "دراسات حول الهستيريا"، الذي يعتبر أول نصوص فرويد العلمية، الذي كان محور رسائل كثيرة تبادلها مع فليس. وحتى لو أن فرويد عاد وتراجع بعد تلك البدايات عن الكثير من الاستنتاجات التي كان توصّل إليها من خلال عمله مع بروير، لا شكّ أن الكثير والكثير من الأفكار الفرويدية الأساسية سنجده هنا، تماماً كما في الكتاب التالي "علم الأحلام"، بحيث يمكن القول إن كلّ الذي كتبه واشتغل عليه فرويد لاحقاً لم يكن سوى تطوير لما جاء في الكتابين.

يعود "دراسات حول الهستيريا" إلى عام 1895 ويعتبر عادة نقطة المنطلق للتحليل النفسي، وبالتالي أولى الدراسات الجادة حول الهستيريا بالنظر إلى أن المؤلفَين أكدا فيه للمرة الأولى أن جذور أعراض الهستيريا نفسية لا عضوية، "مقترحين بالتالي أن المعالجة السيكولوجية كفيلة بمعالجة الحالات الهستيرية مهما استعصت". ولا بدّ من أن نذكر هنا أن ذلك التوجه كان قد ولد قبل ذلك بـ 15 عاماً، يوم تمكّن بروير من معالجة المدعوة آنا أو. ومنذ ذلك الحين أدرك بروير، وتبعه فرويد في ذلك، أنه "حين يتمكن مصاب بالهستيريا من أن يتذكر الحادثة الأساسية التي تسبّبت له بالإصابة بها للمرة الأولى، ويعيش بالتالي بفضل ذلك التذكّر نفس المشاعر التي كان قد أحسّها في المرة الأولى، ستختفي الأعراض إلى غير رجعة. ولنذكر هنا بأن "المريضة" آنا أو، ستكون هي نفسها من سيطلق على تلك المعالجة اسم "العلاج بالكلام".

وفرويد، في هذا السياق يغنينا عن عناء البحث لتتبع مسار اجتهاداته في هذا المجال، حيث يصف في إحدى رسائله إلى فليس الخطوات المتتالية التي مكنته من التوصل إلى ما يسميه إسهامه الخاص في هذا الشأن. فهو يقول إنه في مرحلة أولى كان يسير على خطوات بروير متبعاً أسلوب التنويم المغناطيسي وسبيل الإيحاء، لكي يسهل على "المريض" العودة إلى الذكريات. غير أنه ما لبث أن تخلى بعد حين عن ذلك الأسلوب وما صاحبه من طرق الإيحاء ليشتغل على مقاربة بدت لديه جديدة تماماً وواعدة، قبل أن تثبت جدواها وبساطتها. فهو أدرك أنه حين كان يتوجّه إلى المريض طالباً منه أن يتحدّث في لحظة معينة عن أي شيء يخطر في باله - في توجّه سيطلق عليه اسم "الترابطات الحرة"- فإن ذلك سيسمح للمريض بالعودة إلى الجذر الأساسي الذي تسبب في إصابته بالحال التي يعاني منها. ولكي يؤكد فرويد على جدوى هذا الأسلوب نراه في الكتاب الأول ذاك يصف أربع حالات هستيرية تمكن من معالجتها بالطريقة التي يصفها، إلى جانب حال آنا أو.

هستيريات بالجملة

بالمقارنة مع كتب فرويد اللاحقة، التي سيمتد زمن كتابتها نحو أربعة عقود من بعد "دراسات في الهستيريا"، قد يبدو هذا الكتاب بدائياً إلى حدّ ما، بخاصة أنه ليس من الواضح ما هي حصة فرويد أو حصة بروير فيه، حيث يبدو كل شيء مختلطاً، ومن هنا كما يبدو نجد فرويد كثيراً ما يغضّ النظر عن هذا الكتاب، لا سيما أنه سيشتغل على الهستيريا بشكل أكثر تفصيلاً وعمقاً في كتب تالية له، بخاصة في كتابه الأساسي "حالة دورا" الذي سيشكل مع أربعة نصوص أخرى للمؤلف اشتغل عليها في مرحلة نضوجه، كتاباً متكاملاً عنوانه "خمسة تحليلات نفسية" (النصوص الأخرى فيه هي "الصغير هانز" و"رجل الفئران" و"الرئيس شريبر" و"رجل الذئاب")، بالمقارنة مع تلك الكتب سيبدو "دراسات في الهستيريا" مجرد تخطيطات أوليّة، غير أن ذلك لا يقلّص من أهميته، بالنظر إلى أنه يُعلمنا بشكل قاطع أن فرويد قد صاغ ومنذ عام 1895، أي قبل ولادة الفرويدية الحقيقية الناضجة بسنوات، عدداً من المفاهيم والتصورات التي سترتبط لاحقاً بكتاباته، ولكن أيضاً بأساليبه العلاجية التي سيكون تطويره للعديد منها سبباً في الانشقاقات التي ستتوالى في صفوف تلامذته وشركائه، ومنها: اللاوعي والمقاومة والكفّ والهوام والرقابة، وصولاً إلى الإسقاط والليبيدو...

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والحقيقة إن الانفصال بينه وبين بروير سيكون تالياً مباشرة لظهور هذا الكتاب، حيث سيتابع فرويد طريقه متفرداً في عملية غوصه في تطوير ما لم يكن له من وجود، لا في "دراسات في الهستيريا" ولا في أي أشغال مشتركة أخرى مع بروير، أي التحليل النفسي الذي سيبقى من خصائص العمل الفرويدي خلال المرحلة التالية. وهي خصائص قد يمكننا تلمّس إرهاصاتها في ثنايا ذلك الكتاب، ولكن علينا أن ننتظر "الرسائل إلى فليس" قبل أن تطالعنا بشكل واضح ومحدّد بالاسم من خلال إشارات لفرويد تتعلق أكثر بـ"علم الأحلام"، الذي صدر في عام 1900 وتحدّث فيه فرويد، وربما بشكل يجعله تصحيحاً أو استكمالاً وتطويراً بالطبع للكتاب السابق، عن مشاعر مبكرة أحسّها تجاه أمه طفلاً، مرتبطة بغيرة من أبيه، وهو ما سيسميه "عقدة أوديب".

عندما تدخل السينما على الخطّ

مهما يكن من أمر لا بد من أن نشير هنا إلى أن التغيّر الأساسي الذي طرأ على أعمال فرويد خلال الفترة الفاصلة بين "دراسات في الهستيريا" و"علم الأحلام" - أو "تفسير الأحلام"- إذا ما استندنا إلى ما يذكره بنفسه في بعض رسائله المتأخرة إلى فليس، هو أن فرويد بعدما اشتغل على حال آنا أو، انطلاقاً من بروير وبالشراكة معه، عاد واشتغل في الكتاب المؤسس التالي على نفسه محللاً أحلامه متوقفاً عند رهابات وأنواع عُصاب، عرف كيف يتخلص منها من طريق المعالجة عبر تفسير الأحلام ما لم يُحوجه إلى المرور بالفترة الهستيرية.

وقد يكون من المفيد هنا أن نذكر أن المخرج الكندي دافيد كروننبرغ دنا كثيراً من كل المسائل التي تناولناها أعلاه، لا سيما من المسألة الهستيرية، من خلال فيلمه "منهج خطير"، حيث عالج مرحلة لاحقة من مراحل الأشغال الفرويدية، لكنه دمج فيها تلك المرحلة السابقة، بحيث أن كارل غوستاف يونغ السويسري الذي لم يدخل على حياة فرويد وأعماله إلا لاحقاً ليصبح في مرحلة أولى وريثه المعيّن قبل أن ينشق عنه، صار في الفيلم جزءاً من الصراع حول مسألة الهستيريا بديلاً سينمائياً لبروير، في ما اختلطت في الفيلم شخصية الروسية سبيلزمان، التي كانت مريضة ليونغ ثم شفيت لتتحول إلى عالمة في التحليل النفسي متبعة المنهج الفرويدي، بشخصية آنا أو، التي كانت بدورها مريضة ولكن لبروير، قبل أن تُشفى وتتحول أيضاً إلى محللة نفسية، تتبع بدورها المنهج الفرويدي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة