منذ بدايات القرن العشرين كان اسم النمساوي سيغموند فرويد طاغيا في ميدان التحليل النفسي الذي سيدخل التاريخ بوصفه مبتكره إلى درجة ينسى معها كثر أنه، هو، لم يكن سوى خطوة على الطريق... حتى وإن كان خطوة هائلة. فمن قبل فرويد وبعيدا جدا في الزمن، كانت حياة النفس تشغل المفكرين فاشتغلوا عليها كتبا ودراسات وممارسات ونقاشات ونزاعات، ربما وجدت أوجها مع فرويد وزملائه الأوروبيين والأميركيين خلال تلك السنوات التي افتتحت القرن العشرين في فيينا.
ولئن كان تاريخ علم النفس والتحليل النفسي قد عاد بعد "الحدث الفرويدي الكبير" لينصف كثرا سبقوا فرويد وكثرا تابعوه، فإن واحدا من الكبار في هذا المجال، يبقى الأميركي ويليام جيمس الذي أصدر في العام 1891 واحدا من الكتب المؤسسة في هذا المجال، كتاب "مبادئ علم النفس" الذي يمكن اعتباره نقطة الإنعطاف بين مئات السنين من دراسة هذا الموضوع، والأزمان المقبلة التي سيتحول فيها الأمر من دراسة إلى تطبيق؛ من علم إلى معالجة عيادية، بل حتى ينتقل الاهتمام بشكل واضح من "الشعور" إلى "اللاشعور".
وإذا كانت تلك الثورة قد تحققت على يد فرويد، فالواقع يقول لنا أنها ما كان يمكنها أن تتم على الشكل الذي قامت به من دون تلك الحلقة في السلسلة التي شكلها كتاب ويليام جيمس. فهل قرأ فرويد هذا الكتاب وهل تأثر به؟
في الحقيقة قد لا يهمنا هذا الأمر هنا. ما يهمنا هو التوقف عند الجهود التي قام بها جيمس في ذلك الكتاب الأول الذي ستقول الحكاية أنه وضع مواده دون أن يكون قد سبق له أن قدم أية مساهمة في المجال. بل تقول الحكاية أن "أول محاضرة استمع اليه في حياته عن علم النفس، كانت محاضرته هو الأولى التي ألقاها أمام تلامذته" وستكون أساس ذلك الكتاب الذي قُرئ على نطاق مدهش في أميركا، ولا يزال يُقرأ حتى الآن وربما بأكثر مما يُقرأ فرويد هناك!
لحظة انعطافية بين القديم والجديد
ليس من السهل هنا تلخيص الكتاب. يمكن فقط القول أنه جاء ليلخص كل ما كان علم النفس قد جاء به من قرون طويلة، ثمّ ليصيغ انطلاقا من ذلك نظرية في علم النفس الإنساني تلتصق بالنظرية الإجتماعية – الفلسفية التي جاء بها جيمس نفسه في كتابه "التجريبية" بعد ذلك بأكثر من عقد ونصف العقد، بحيث بدا أن تجريبية هذا الفيلسوف إنما انبثقت من عمق دراسته لنفسية الإنسان على مشارف الأزمنة الجديدة. فالمؤلف يؤكد لنا هنا أن دراسته تستند إلى فكرة أن هناك "عالم خارجي لم يخلقه الإنسان بنفسه، لكنه يساهم في تطوره وأداته في ذلك وعيه، أو بالأحرى حالات وعيه التي يمكن التعرف عليها، كما يمكنها هي نفسها أن تتعرف على نفسها، بالسبر الصبور والدراسة... العيادية. وأن الأفكار والمشاعر توجد حقا ولا سيما بكونها حامل الوعي والمعرفة. وأن علم النفس ما إن يقيم العلاقة التجريبية بين المشاعر والأفكار من ناحية والوظائف التي تتحدد من ناحية أخرى بفعل ما يقوم به عمل الدماغ، لن يمكنها أن تذهب إلى أبعد من ذلك إلا بوصفها ميتافيزيقية". وانطلاقا من هنا يرى جيمس أن "موضوع علم النفس هو الحياة العقلية في كل ظواهرها وحالاتها. وبالنسبة إليه ليست الحالات والظاهر سوى الكلمتين المفتاح للإشارة إلى علم النفس بوصفه يشتغل على الخبرة الإنسانية الفردية، ما يقودنا هنا مباشرة إلى وظائفية لهذا العلم تنحرف به عن كونه مجرد علم، في اتجاه ما يجعل منه ممارسة مفيدة في دراسة الإنسان عبر ظواهره وحالاته، ومن الواضح أن هذا التأكيد يضعنا مباشرة على أعتاب الإنتقال من العلم النفسي إلى التحليل النفسي.
بدءا من تأمل الحياة
وليم جيمس، الذي توفي في 1910، (العام الذي كان فرويد يلمع فيه منسيا الناس من كانوا قبله مبرزين في نفس مضماره)، كان من ذلك النوع من الفلاسفة الذين بنوا مذهبهم انطلاقا من حدسهم ومعضلات تأملهم في الحياة، بأكثر مما بنوه انطلاقا من رغبة عقلانية حاسمة في الوصول إلى صياغة المذهب. ومن هنا كان معظم الذين كتبوا عنه وفسروا مذهبه رابطينه بتقلبات حياته الروحية والمادية، كانوا ينطلقون في الكتابة عن فلسفته، من سيرة حياته، تلك الحياة التي بها يمكن تفسير كل شيء في نهاية المطاف.
ولعل الجانب الذي توقف عنده كاتبو سيرة وليم جيمس أكثر من غيره هو المتعلق بعلاقته الصدامية بجيمس آخر، هو أخوه هنري جيمس، أحد أكبر الروائيين الأميركيين عند منعطف القرنين التاسع عشر والعشرين. فلقد وُضعت حول علاقة الأخوين هنري ووليم دراسات وكتب أرجعت التناحر بينهما إلى رغبة كل منهما في تخطي الآخر. ومن هنا كان سعي هنري للتعبير عن نفسه في الكتابة الروائية، فيما سعى وليم في دروب الفلسفة تقود خطاه. ومما لا شك فيه أن ذاتية وليم جيمس الطاغية هي التي قادته لابتكار مذهب البراغماتية (التجريبية، أو الذرائعية) الذي انبنى لديه خطوة خطوة، خلال حياة بداوة بدأت منذ طفولة الشقيقين يوم اصطحبهما والدهما إلى أوروبا صغيرين، فإذا بهما يشعران لتوهما أنهما «شيء آخر» مختلف عن بقية مجايليهما الأميركيين. بعد ذلك تنقل الأخوان كثيرا، أحيانا سوية، وأحيانا كل على سجيته. ثم راح كل منهما يضع مستقبله مستقلا، وهكذا.
تأثير داروين
لقد وجد هنري في الرواية متنفسا له، ووسيلة توصله إلى التفوق، وورث وليم عن أبيه الميل إلى دروب التفكير البعيدة عن العقيدة القويمة، واهتمامه العميق بالقيم الأخلاقية والروحية. ولقد تضافر ذلك كله مع شكوك عميقة ساورته لدى قراءته داروين، ما جعله يعاني كثيرا في مجال رغبته بالتوفيق بين ميله الإيماني الداخلي والفكر العلمي الذي بدا لديه مناهضا لذلك الميل. وهذا كله تمخض لديه وهو في أواسط العشرين من عمره عن توفيقية يمكن تلخيصها على النحو التالي: «إن الإرادة البشرية تبقى دائما حرة، وفي الوقت نفسه يحتفظ الإيمان، حتى ولو تجرّد من مضمونه اللاهوتي، بحقوقه الخاصة كوسيلة داخلية لا غنى عنها للحفاظ على الحياة». والحقيقة أن توصل وليم جيمس إلى هذه القناعة، حدد له، باكرا، توجها فلسفيا صاغه في ما بعد خطوة خطوة، بطريقة شديدة التجريبية.
كان وليم في الثلاثين حين بدأ، في جامعة هارفارد، مهنة تدريسية وأصّلها طوال عمره، وهو في الوقت نفسه راح يوسع من دائرة اهتماماته الفلسفية لتشمل دراسته شتى أنواع العلوم والآداب، وصولا إلى علم النفس الذي درسه بصورة عصامية، والذي سرعان ما جعل منه القاعدة الأساسية لتفكيره الفلسفي، وخاصة في واحد من أفضل كتبه «إرادة الإيمان»، حيث جعل لظاهرة الإيمان تبريرا سيكولوجيا، على حد تعبير الباحث ستانلي غيست. وهو عاد وطور ذلك الأمر في كتابه الأشهر «الصور المختلفة للتجربة الدينية» (1902) حيث درس الإيمان الديني من وجهة نظر صلاحيته السيكولوجية في حياة الانسان، أي من وجهة نظر «ذرائعيته التجريبية» انطلاقا من سؤال هو: هل التجربة الدينية مفيدة أم لا للبقاء الانساني ولاستمرار الحياة وللخلاص الروحي والاجتماعي؟ وكان جوابه أنها مفيدة وضرورية.
وليم جيمس الذي قيل عنه أن فلسفته «هي في جوهرها مفتوحة، اذ أنه يمضي إلى الأمام بإقدام، وليس له من مرشد سوى التجربة»، عاش خلال النصف الثاني من عمره حياة هادئة ووضع العديد من الكتب التي جعلته واحدا من أكبر الفلاسفة الأميركيين على الاطلاق، ومن أبزرها: «الذرائعية» (1907) و«مثال الحقيقة» (1909) و«كون تعددي»، إضافة إلى الكتب الكثيرة التي نشرت بعد رحيله وتضم مقالاته ومحاضراته ورسائله.