Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"تانغو"... توثيق مسرحي لقصص نساء سوريات شردتهن الحرب

المخرج ياسر دريباتي يواصل عمله على المختبر الدرامي إحياء لفن الأداء

لقطة من عرض "تانغو" للمخرج السوري ياسر دريباتي (اندبندنت عربية)

ذهب الفنان ياسر دريباتي في عرضه الجديد "تانغو" نحو خيار المسرح الوثائقي، منجزاً حكاية سورية عن امرأتين تعيشان على طرفي نقيض، لكنّ الظروف تضطرهما لتتقاسما معاً بيتاً واحداً في أحد الأحياء العشوائية. وذلك على خلفية الحرب التي شردت كلاً منهما عن بيتها وأسرتها. فشخصية "ريتا" راقصة التانغو الهاربة من زوجها الطبيب ذي الميول الماركسية؛ هي ذاتها الممثلة الراقصة ومدربة التانغو نيرمين علي التي لعبت هذا الدور، وشخصية "ليلى" الفتاة التي تنتظر لمّ الشمل من زوجها اللاجئ في ألمانيا، هي ذاتها الممثلة ردينة حسين، التي بالفعل سافرت بعد تقديمها العروض الأولى من المسرحية، ولتنوب عنها فيما بعد الممثلة رهام التزه في أداء العرض.

تكاد الفروق تذوب بين الممثل والشخصية في هذا النوع من العروض التي دأبت على تخليق علاقة جديدة بين ما هو سياسي وفني. وتأتي تجربة ياسر دريباتي خطوة أولى من نوعها داخل البلاد لتحقيق مسرح التوثيق هذا، بحيث أدار هذا الفنان على مدى أشهر مختبراً مسرحياً مفتوحاً لإنجاز ما يشبه مسرحاً توثيقياً، بعيداً عن تقديم شهادات أو لقطات من أرشيف الشخصيتين، بل بالعمل على تخطي المفهوم التقليدي للوثيقة المسرحية، نحو اختيار ممثلتين بصفتهما الشخصية.  

قارب المخرج السوري دريباتي هنا أسلوب عمل المخرج السويسري ميلو راو الذي نقل عام 2013 أحداث ما عُرف بـ"محاكمات موسكو" بين عامي 2003 و2006، حيث تعرض فنانون وفنانات روس لمنع معارضهم التشكيلية ومصادرة أعمالهم الفنية من جهات رسمية، مما حدا بالمخرج السويسري وقتها إلى مقاربة ذلك عبر تجربة صنفها النقاد ضمن عروض المسرح الوثائقي، لا سيما تلك الطبيعة الفنية التي ركز عليها ميلو راو في اختيار شخصيات حقيقية لتقوم بأداء الأدوار على المسرح، سواء من فنانين ورسامين، أو هيئة محلفين وقضاة وأنصار من اليمين واليسار.

تفكير جماعي

في التجربة السورية نرى هذا النوع من الخيارات الفنية التي ساندها بحرفية لافتة الكاتب والناقد أنور محمد كدراماتورج للعمل، متيحاً مساحة من التفكير الجماعي بالقصص المقترحة. وتولى الكتابة المسرحية الممثل والكاتب بسام جنيد. وعلى مدار شهور من العمل على المقاربة بين الدور والشخصية، وجعل التطابق ممكناً بين ما هو تسجيلي وما هو درامي، خرج "تانغو" إلى الجمهور أقرب إلى شاهد عيان على واقع النساء في الحرب.

لعبة ليست بالسهلة ولا باليسيرة بأن تجعل شخصية تحول حياتها الواقعية إلى موضوع لمسرحية، ومن ثم تقوم بأدائها على الخشبة. وهذا ما يمكن حسابه للمخرج الذي استغنى تقريباً عن أدوات الممثل المحترف لصالح واقعية الأداء ومصداقيته لدى الشخصيات الأصلية. فالعرض يولد (الآن وهنا) على خشبة المسرح، فشخصيات "التانغو" لا يمكنها العيش بمفردها، بل هذا النوع من الرقص الذي يحتاج إلى شراكة بين الرجل والمرأة؛ يحيلنا إلى مقولة العمل الذي يقترح الشراكة بين أطياف السوريين كافة، مهما تعددت ميولهم السياسية والدينية والعرقية.       

حوارية لاذعة وشيقة قدمها العرض، مقتفياً آثار العنف على النساء في أوقات النزاعات الأهلية، وجدلية التنوير والتكفير، وذلك عبر نقاش تخوضه كل من راقصة التانغو والفتاة الملتزمة بتعاليمها الدينية، حيث تنبلج مكاشفات حارة بين السيدتين، مرةً عن رجليهما الغائبين، ومرةً عن العسف الذي تعرضت له كل منهما. المكان الأقرب إلى خرابة ضمن ديكور متقشف وذكي للفنان نعمان عيسى، وعلو أبواق سيارتين في الخارج لسائقين يتجهان بطريقة متعاكسة يؤجج الصراع، ويدفعه قُدماً بين المرأتين في مقاربة خفية لواقع الحال السوري. فزوج ريتا الذي انقلب من أفكاره الحضارية إلى التطرف، وتحول من طبيب إلى متعهد قبور وأكفان؛ هو ذاته زوج ليلى الذي تحول هو الآخر من بائع جوّال لأسطوانات الغاز إلى رجل دين، وليسافر بعدها ويتزوج غيرها، تاركاً إياها في انتظار أوراق لمّ الشمل، بينما هو يمارس في الغرب تقيات مزوّرة، ويجمع تبرعات وهمية لبناء جامع في ألمانيا.

هذا الصراع يقود كلاً من المرأتين إلى التلاقي، ومعرفة أن مصيرهما مشترك مهما تنافرت القناعات، وتعددت الفروق وأساليب التفكير، في إشارة من القائمين على العرض لتعزيز قيم الحوار الإيجابي بين مشارب أو أطياف النزاع السوري، بحيث تؤول المجابهة النسائية بين الرقص والصلاة إلى ما يشبه مصالحة جسدية ونفسية، وذلك بعد اكتشاف المرأتين حقيقتهما كضحيتي حرب، مما يدفعهما إلى اعترافات عميقة تجبر كلاً منهما على الإذعان والرضوخ والتفكر في الخسائر التي دفعتهما إلى ما هما عليه من تشرد وفقر وعوز عاطفي ومعيشي.

طقوس وموسيقى

أجواء البخور والإضاءة المنقبضة (صممها بسام حميدي) تتضافر مع موسيقى الفنان مروان دريباتي، التي مهدت هي الأخرى لمناخ متصاعد بين قطبي الصراع، من دون إقحام مقطوعات زائدة عن الحاجة، بل بالتركيز على مفاصل الذرى الدرامية، والانتقالات السلسلة بينها، ليكون الجمهور لأول مرة في مواجهة ما يشبه وثيقة مسرحية عن الحرب، دون التخلي عن مفردات جمالية ودرامية حرص المخرج على مواءمتها قدر المستطاع، متخفياً في قصص ممثلتيه الشابتين، اللتين تباين أداؤهما بشكل واضح على الخشبة، مفسحاً المجال لشراكة جديدة مع الجمهور، ودعوته لتأمل حاضره الدموي من دون اللجوء لنصوص من التراث العالمي، أو محاولة تجميل الوقائع. بل هو أصر على تقديمها كما حدثت في الواقع، بالطبع مع مراعاة الشرط الفني المسرحي، وعدم الانغماس كلياً في مطابقة الواقع ونسخه بشكل حرفي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هكذا نجد أن "تانغو" أسس تجربة مغايرة في المسرح السوري، مصدراً مراجعة صادمة وجريئة اجتماعياً وسياسياً عن واقع عشرات الآلاف من النساء السوريات في الحرب، متخلياً عن طابع العروض ذات الميزانيات الضخمة، وهارباً من عزوف الممثلين المحترفين عن المشاركة في عروض المسرح، وذلك نظراً لتدني الأجور فيها، وصعوبة مواصلة البروفات في ظل انشغالهم الدائم بالعمل لصالح التلفزيون وأستوديوهات الدوبلاج. وهذا ما يفتح الباب لشراكات فنية مع خامات إنسانية يمكن تأهيلها، وتمرينها على حكاية قصتها على الخشبة وأمام جمهور واسع.         

المسرحية التي أنتجها "البيت العربي للموسيقى والفنون في اللاذقية"، كانت أطلقت أول عروضها على خشبات حمص وطرطوس، وقدمت على مسرحي القباني ونقابة الفنون في دمشق وحلب، وبالتعاون مع مديرية المسارح والموسيقى. ويقدم بعدها "تانغو" في المركز الثقافي باللاذقية بالتعاون مع منظمات دولية تعنى بواقع النساء في ظل الحروب. وقد عمل "البيت العربي للموسيقى" على إنجاز تجارب مع المجتمع الأهلي في اللاذقية كان أبرزها احتفالية "الباص الثقافي" ومهرجان المونودراما الذي توقف مع بداية الحرب السورية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة