Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الثأر... "الإرث المر" في المجتمعات العربية

القوة الأمنية وحدها لا يمكن أن تعالج هذه الآفة التي تستنزف الطاقات ولا تجلب إلا الموت والعوز

الدم يستسقي الدم. هذا هو منطق الثأر، العادة الجاهلية التي ما زالت تتحكم ببعض المجتمعات العربية، خصوصا الريفية، أو تلك التي نزحت صوب المدن وحملت معها "إرثها المرّ".

مشكلة الثأر في المجتمعات العربية، أنها تتغلف بمفاهيم تعطيها رفعة وسموا، حينما ترتبط بالكرامة والعزة، أو تضفي عليها تفسيرات مغلوطة حينما تبحث عن مبررات عقائدية لها، أو تعمق نزعتها "التدميرية" أو "الانتحارية" حينما تربطها بالولاءات المتصاغرة، كالعائلة، أو العشيرة، أو المذهب، أو المنطقة...

والمشكلة تتضاعف عندما تقصر معالجات الظاهرة على الجانب الأمني فقط، أو الجانب الوعظي الأخلاقي فحسب...

الثأر بمنطلقه، وبمنتهاه، يعبر عن خلل بنيوي، على الصعيدين الفردي والجمعي، ومعالجته لا بد أن تكون من هذا المنطلق.

في هذا التحقيق محاولة لرصد ظاهرة الثأر في بعض المجتمعات العربية، لناحية الأسباب والنتائج.

الثأر في صعيد مصر "ميراث الجاهلية القاتل"

تنتشر لعنة الثأر في إقليم صعيد مصر خصوصاً، جنوب البلاد، بسبب قناعة المجتمع الراسخة بضرورة الأخذ به، حتى ولو كان القتل حدث عن طريق الخطأ في بعض الأحيان. ولذلك يصنّف حكماء الصعيد الثأر كونه "ميراث الجاهلية الأولى".

وصرح المتخصص في لجان الثأر العرفية، أحمد سعد جريو، عضو المجلس الأعلى للثقافة، أن "الثأر هو أن يقوم أولياء الدم من أهالي القتيل بقتل القاتل نفسه أو أحد أقاربه انتقاماً لأنفسهم من دون اللجوء إلى القضاء لاسترداد الحقوق وتنفيذ القصاص الأمر، الذي يجعل المعركة سجالاً مستمراً بين العائلتين ما يسفر عن عشرات الضحايا". وأوضح سعد أن "الثأر بات حقيقةً واضحة في المجتمع الصعيدي كالزواج والإنجاب. وجسّد الثأر وقوداً حقيقياً للموت، حتى أن مَن يترك الأخذ بالثأر يُنبَذ من أهالي القبيلة كون الانتقام شرف لأولياء الدم، ومَن يتركه يوصَم بالجبن ويعاقَب بالطرد.

أسباب انتشاره

مساعد وزير الداخلية لجنوب وشمال الصعيد، اللواء عادل عبد العظيم يشرح أن "المعايرة تُعدّ من أسباب انتشار تلك العادة الخبيثة التي تهدد استقرار المجتمع في جنوب البلاد، فالعائلة التي ترفض الأخذ بالثأر وتلجأ إلى القضاء هي عائلة ضعيفة أصابها العار طبقاً لأعراف صعيد مصر. كما تشهد قبائل الصعيد تنافساً ومفاخرة في ما بينها بالقوة والوجاهة والغلبة، الأمر الذي يجعل تلك العادة ساحةً لاستعراض القوة وامتلاك السلاح والانتقام الغاشم في كثير من الأحيان".
من جهة أخرى، اتهم الخبير التنموي عبد العزيز حسين، نظام الرئيس السابق حسني مبارك "بالتخاذل تجاه عادة الثأر على مدار 30 سنة، حتى ظن كثيرون أن الثأر هو إحدى وسائل تنظيم الأسرة".

تعكير مناخ الاستثمار

في السياق، ذكر المهندس محمد حسن العجل، صاحب مبادرة "صعيد بلا ثأر" أن "الخصومات الثأرية في محافظات صعيد مصر عكّرت مناخ الاستثمار، وباتت المدن الصناعية فيها غير جاذبة لاستثمارات أجنبية جادة على الرغم من توافر كل الإمكانات اللازمة هناك".
وأشار إلى أن "مافيا تجارة السلاح والمخدرات تنشط بجوار بؤر الصراعات الثأرية بين العائلات والقبائل، بسبب ما تشهده تلك المناطق من فوضى".

"قرى الدم والنار"

وأمكن من خلال جولة في قرى الثأر التي يطلق عليها الأهالي تسمية "قرى الدم والنار"، تبيان الأسباب البسيطة التي تنشب على إثرها الخصومات الثأرية المسلحة، التي تسفر عن سقوط عشرات الضحايا والمصابين.
وقال رئيس لجنة المصالحات الثأرية في محافظة قنا جنوب مصر، الدكتور عبد اللطيف الكلحي إن إحدى أشرس الخصومات الثأرية التي مرت عليه في صعيد مصر، هو "صراع قرية كوم هتيم بين عائلتَي الطوايل والغنايم، في مركز أبوتشت بشمال قنا، الذي راح ضحيته 17 قتيلاً بسبب خلاف على كارت شحن لهاتف محمول، وكذلك في مركز منفلوط حيث لقي 4 أشخاص مصرعهم بسبب حمار أكل من كلأ أرض ليست ملكاً لصاحبه، ما دفع صاحب الأرض إلى إطلاق النار على ملّاك الحمار".
وأشار الكلحي إلى أن "عدداً كبيراً من الخصومات الثأرية ينشب جراء لهو الأطفال والخلاف حول تقسيم الميراث، وكذلك القتل الخطأ".

من جهته، رأى الباحث في المجال الأمني، اللواء نظامي الشريف أن "الحلول الأمنية وحدها لا تكفي، لأن عادة الثأر باتت موروثاً ثقافياً متجذراً في عقول ووجدان أبناء الصعيد". كذلك أكدت مقرِرة المجلس القومي للمرأة لفرع قنا، الدكتورة هدى سعدي أن "المجتمعات لا تتغير إلا بتغيّر القناعات"، مطالبةً بـ "تجديد الخطاب الثقافي الموجَّه إلى أبناء الصعيد بشكل فعّال لمحو هذه العادة الجاهلية".
وأشارت سعدي إلى أن "المرأة الصعيدية تلعب دور المحرض في كثير من الأحيان لأبنائها للأخذ بالثأر، لذا يحرص المجلس القومي للمرأة على تكثيف الندوات وحملات طرق الأبواب لتوعية السيدات حول خطورة تلك العادة التي من شأنها تدمير الأسرة والمجتمع".

من ناحية ثانية، أكد محافظ قنا السابق، اللواء عبد الحميد الهجان، صاحب مبادرة "قنا بلا ثأر"، أن "الدولة المصرية تفعّل سيادة القانون في ضبط المتهمين في أي مشاجرات ثأرية من دون مجاملة أي طرف، عبر إجراء تفتيش قضائي نزيه".
وقال إنه نجح في القضاء على 120 خصومة ثأرية ملتهبة عبر مصالحات عرفية.

من جانب آخر، وجّهت "وزارة التنمية المحلية" المحافظين في مختلف الأقاليم المصرية بضرورة حصر الخصومات الثأرية وتشكيل لجان مصالحات شعبية وتنفيذية لإنهاء الخصومات، انطلاقاً من الحرص على حقن الدماء.

الحلول العرفية

وبحسب المصالحات العرفية، وطبقاً للأعراف السائدة في صعيد مصر، يقدّم القاتل أو مَن ينوب عنه من عائلته الكفن لأولياء الدم من أهل القتيل، ليطلب منه العفو والسماح، كما يُحرَر محضر عرفي بشروط جزائية تقضي بطرد مَن ينقض الصلح إلى خارج المحافظة، مع دفع مبالغ مالية تتجاوز ما يُعادل 300 ألف دولار في بعض الحالات.
إلا أن الدكتور محمد أبو الفضل بدران، الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة، اتهم الحلول العرفية بأنها أحد أسباب تجدد الخصومات الثأرية في الصعيد، لما يُمارَس من ضغوط في تلك المصالحات على أهل القتيل بوجوب قبول الصلح، بنفس غير راضية، من أهل القاتل، الأمر الذي يجعل من بعض المصالحات الثأرية مجرد مصالحات إعلامية صورية".
وطالب بدران بتفعيل سيادة القانون "عبر تعجيل إجراءات التقاضي ونزع الأسلحة غير المرخصة من أطراف الخصومات الثأرية، وحظر الترخيص لهم وتفعيل الحلول العرفية عبر دفع ديات مرضية ومجزية لأولياء الدم لقبول الصلح عن تراضٍ، كما نصت الشريعة الإسلامية. مع ضرورة توجيه خطاب تنويري إلى قرى الثأر في قنا لنزع تلك العادة من عقول الشباب والشيوخ عبر الإقناع والتثقيف".

"الثأر العشائري" قوته من ضعف الدولة في العراق

"عندما تحين ساعة الانتقام ستنتقمون ليس من أجل عبد فقط، بل من أجل كل الفلاحين الآخرين الذين قتلهم"، هذا مقتطف من رواية "القمر والأسوار" للقاص عبد الرحمن مجيد الربيعي، الذي تناول قضية الثأر باعتبارها الجوهر الذي يمثل قيم سكان الريف في العراق، وتطرق إلى مشكلة عدد من العائلات الفلاحية النازحة من قرية "أبو هاون" إلى مدينة الناصرية، رغبةً بالعيش في ظل ظروف أفضل، لكنها تواجه ظلم الإقطاع والإقطاعيين.

وأسهمت ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدينة بنقل قيم ومفاهيم الريف، ومنها الثأر. أستاذ علم الاجتماع في جامعة الموصل، وعد الأمير أوضح أن "فكرة الثأر أضعفت سلطة القانون، وقد تجمع المدن سلطة القانون وسلطة العشيرة". وأضاف أن "تأصيل فكرة الثأر في مجتمعنا أسهم بشكل أو بآخر في إضعاف سلطة القانون وتراجع تأثيره على أبناء المجتمع، لا سيما في الريف الذي ظل محتفظاً بهويته وقيمه العشائرية مع تحول هذه الهوية إلى الازدواجية في المدن بالنسبة لأبناء الريف النازحين إليها".

 

للثأر أشكال عدة

ويتخذ الثأر أشكالاً عدة، منها القتل، والخطف، والاعتداء على المنازل، وهي قضايا تدخل تحت مظلة قانون العقوبات، ويقول المحامي محمد جمعة إن "كل قضايا الثأر تدخل ضمن قانون العقوبات العراقي رقم 111 لعام 1969، ولا فرق بينها، إذ يحكمها قانون العقوبات".

ويشرح جمعة أن "هناك أحد أشكال الثأر العشائري خرجت من تحت مظلة قانون العقوبات لتدخل ضمن قانون مكافحة الإرهاب بعد أن اتسعت وأصبحت تهدد السلم المجتمعي وهي ظاهرة الدكة العشائرية، المتمثلة بهجوم أفراد العشيرة على بيت عشيرة أخرى بالأسلحة النارية لغرض توجيه الإنذار وأخذ الثأر. "فالدكة" العشائرية تتمثل بهجمات مسلحة على منازل الخصوم لإرغامهم على الرضوخ للحكم العشائري. ومع تزايد هذه الظاهرة وجه مجلس القضاء الأعلى في 8 نوفمبر (تشرين الثاني) 2018، بالتعامل مع قضايا "الدكات" العشائرية وفق قانون مكافحة الإرهاب".

الفصل العشائري

يتابع جمعة أن "إحدى صور الثأر العشائري تنتهي إلى دفع العشيرة المعتدية مبلغاً من المال للعشيرة المعتدى عليها". وأضاف أن "بعض نتائج الفصل العشائري تنتهي بسلام بعد الاتفاق على دفع مبلغ من المال".
كما ذكر جمعة أن "بعض صور الفصل العشائري تتعقد بعد الاتفاق على "زواج الفصلية" الذي ينص على تزويج إحدى بنات العشيرة المعتدية إلى الشخص المعتدى عليه، أو أحد أقاربه، تحت عنوان الثأر في أغلب الأحيان. وتعيش هذه المرأة خلال هذا الزواج في الغالب تحت ضغط نفسي صعب جداً، فـ"المرأة الفصلية" ضحية لعادات العشائر، ويكون الغرض من تزويجها هو حقن دماء العشائر المتخاصمة".

بدلاً من القانون

من ناحية ثانية، يقول أستاذ علم الاجتماع، وعد الأمير، إن "الخطر في قضايا الفصل العشائري لا يكمن في شيوعها كبديل عن سلطة القانون فحسب، بل في تجاوزها القانون أحياناً، فضلاً عن استغلال بعض وجهاء العشائر موضوع الفصل العشائري في خلق مشاكل واضطرابات، لا سيما مع الجماعات والعائلات المتحضرة التي لا تؤمن بفكر الفصل العشائري، وتعده تجاوزاً على القانون".

ويرى الأمير أن "الفصل العشائري حل إلى حد كبير بديلاً عن الثأر مع استمراره كنمط سلوكي شائع في الريف العراقي"، مرجعاً ذلك إلى عوامل عدة "أبرزها العوامل الاقتصادية التي تعوض أهل القتيل عن خسارة أحد أبنائها ـ والعوامل الاجتماعية التي تبقي هيبة العشيرة وتأثيرها على أفرادها وعلى العشائر الأخرى. والعامل القيمي الذي يتمسك برد الاعتبار لأهل الضحية".

حرب الـ30 سنة بين قبيلتين سعوديتين

قبل أكثر من ثلاثة عقود، وفي خلاف بين قبيلتين أدى إلى اشتباك جماعي نتج منه وفاة شخص، وجّه الاتهام إلى فرد في القبيلة الأخرى، وسجن على إثره 30 عاماً، ثم نفذ فيه حكم القصاص.

الحزم في تطبيق الأحكام

وتعود تفاصيل القضية التي جرت عام 1984 وتفاعل معها كثيرون، عندما وقعت مشاجرة بين قبيلتين تبادلا فيها الضرب وتوفي شخص منها، وسجن فرد من القبيلة الأخرى 30 عاماً، وفقد والديه وهو سجين، وجرى تأجيل تنفيذ القصاص أكثر من 16 مرة، وعند تنفيذ الحكم كثفت شرطة المنطقة الحماية الأمنية حتى لا تتجدد الواقعة، وبذلك خرجت السعودية من مشكلة الثأر، التي كانت منتشرة قبل تطبيق القوانين الحازمة.

وتنشئ القبائل مجالس للصلح لحل كثير من المشكلات والأزمات والقضايا المستعصية، إذ أنهى أحدها قطيعة بين قبيلتين دامت أكثر من 30 عاماً في محافظة رجال ألمع، بسبب حادث قتل وفرار الجاني إلى دولة مجاورة.

وأجبر المجلس قبيلة القاتل على حلف الأيمان التي تؤكد أنهم لم يعلموا بما أقدم عليه الجاني، ولم يُسهموا في فراره، ولم يخططوا أو يشاركوا في فعلته. وما إن انتهوا من الأيمان حتى تعانق أفراد القبيلتين، وعادت العلاقات المقطوعة، وأصبحت لغة التسامح شعار الطرفين بعد القطيعة والتربص.

انتقام بالقتل بعد 37 عاماً

غير أن المجالس القبيلة قد تشجّع الثأر في موضع آخر، فبعدما أقدم مواطن تمكن من أخذ ثأر أخيه الذي قتل منذ 37 عاماً على يد يمني هرب إلى قطر، وحصل على جنسيتها واستقر في الدوحة، ليتمكّن من رصد مكان قاتل أخيه، وينفذ ثأره.

وبعد معرفة أفراد قبيلة المواطن السعودي بأخذه الثأر، حاول عدد منهم إقامة وليمة عشاء بهذه المناسبة، وذلك قبل أن يصل خطاب من أمير الرياض، يقضي بمنعها في أي من الاستراحات أو المزارع وحتى المنازل بأي صفة وفي أي مكان.

انتقم من زوجته بتسفير أولاده إلى "داعش"

ولا ينحصر الثأر في السعودية على قضايا القتل، بل الانتقام أحياناً من مشكلات عائلية كحادثة الإعلامي السعودي الذي انتقم من زوجته بعدما خلعته، فقتلها في بيت أختها، وطعن الأخيرة أمام أبنائها، ليطبق فيه حكم القصاص أخيراً.

كما انتقم آخر من زوجته في أولاده، إذ أخذ الصغار إلى "داعش"، لينفذ بنفسه عملية إرهابية، وتركهم مع أفراد التنظيم في سوريا، إلى أن تمكّن السفير السعودي في تركيا من استردادهم بعد عام كامل.

وعن رأي الدين في الثأر، يقول أستاذ العلوم الشرعية وعضو الإصلاح الشيخ سعود الحنان، "لا يوجد قانون في العالم أو أي شرع سماوي أو وضعي يبرر جريمة القتل ثأراً. بل إن كثيراً من القوانين تعده سبباً مشدداً للعقاب، أو أحد معطيات التشديد، خلافاً للاعتقاد السائد خطأ بأنه سبب التخفيف أو عذر يعفي من العقوبة". موضحاً أن ذلك "يرجع إلى الخلط بين (قتل الثأر) ونوعين آخرين من القتل وهما (جرائم الشرف) و(الاستفزاز والغضب)".

وأشار الشيخ الحنان إلى أن الحكمة من تشريع القصاص، أنها تقتصر على الجاني فلا يؤخذ غيره بجريرته، أما في الثأر فلا يبالي ولي الدم في الانتقام من الجاني أو أسرته أو قبيلته، كما أن القصاص يردع القاتل عن فعلته، لأنه إذا علم أنه يقتص منه كفّ عن القتل، بينما الثأر يؤدي إلى الفتن والعدوات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جرائم الثأر في الأردن قليلة لكنها صادمة ومروعة

تراجع الحديث عن الثأر في الأردن بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، قبل أن تتكفّل جريمة "الفتى صالح" بإعادته إلى الواجهة مجدداً وبأبشع صوره، إذ أقدم مرتكبوها على بتر يدَي وفقء عيني مراهق لم يتجاوز 15 سنة انتقاماً من والده، الأمر الذي أثار غضب الشارع الأردني.

وعلى الرغم من ذلك، يعتبر القتل بدافع الثأر من أقل نسب جرائم القتل العمد والقصد في المجتمع الأردني، وتبلغ نسبته أقل من 1 في المئة.

ووفقاً لإدارة المعلومات الجنائية، شهد عام 2019 ارتفاعاً ملحوظاً في عدد الجرائم، بخاصة تلك التي تقع على الإنسان وبلغ عددها 1177 جريمة من أصل 26521، وبزيادة 9 في المئة سنوياً.

مجتمع عشائري

عززت عشائرية المجتمع الأردني ظاهرة الثأر، بخاصة مع انتشار السلاح بشكل لافت بيد القبائل، إذ تقول تقديرات غير رسمية إن ثمة مليون قطعة منه مع المواطنين من دون ترخيص.

وتمنح عشيرة الضحية مهلة لا تزيد على ثلاثة أيام لقبيلة الجاني لتسليمه إلى الجهات المختصة، وإلا فإن الثأر سيجد مكاناً له. لكن على الرغم من ذلك، بدأت عشائر عدة اللجوء إلى التعويضات المادية كبديل عن طلب الثأر والقتل.

عقاب جماعي

ويرى اختصاصيون اجتماعيون أن ظاهرة الثأر عقاب جماعي ونتيجة وليست سبباً، بمعنى أنها تأتي بعد جريمة قتل تقع من شخص على آخر.

وتعدّ الخلافات الشخصية السبب الرئيس في جرائم القتل، بينما يحتل الثأر المرتبة التاسعة، لكن غالباً ما تكون جرائمه منفرة وصادمة وانتقامية وتطال أبرياء لا ذنب لهم.

ويعتقد أستاذ علم الاجتماع الدكتور حسين الخزاعي أن من بين أسباب استمرار هذه الظاهرة، التنشئة الاجتماعية وتوريث هذا المفهوم للأجيال المتعاقبة باعتباره عملاً بطولياً.

وقف الإعدام

ويرى آخرون أن وقف عقوبة الإعدام أحد أسباب عودة الثأر، إذ يشكو أهالي الضحايا من غياب الجزاء العادل للجناة.

وتقول الإحصاءات إن ثمة 100 محكوم بالإعدام منذ سنوات لم تنفّذ بهم الأحكام بعد، بسبب وقف هذه العقوبة منذ عام 2016 نتيجة ضغوط من منظمة العفو الدولية.

يقول الدكتور هاني جهشان، الخبير في حقوق الإنسان ومواجهة العنف، إن جرائم الثأر تأخذ أشكالاً عدة، إلا أن القتل والإيذاء البليغ أكثرها شيوعاً، فيما يتمثّل بعض منها في ارتكاب الاغتصاب أو إحراق الممتلكات من منازل ومركبات. ويعزو جهشان الثأر إلى دوافع الثقافة السلبية السائدة في المجتمع المحلي، الذي عادة ما يكون قروياً أو عشائرياً، إذ يعتقد مرتكب الجريمة أن تحقيق العدالة مسؤوليته، بسبب ضغط متوارث من الأسرة والقبيلة.

الثأر على الطريقة اللبنانية: استعراضات عسكرية ومعارك ينقلها الإعلام

ما زالت عادات الثأر متجذرة في بعض المناطق اللبنانية، وبخاصة تلك التي تخضع لنظام العشائر والأمن المتفلت. والحديث عن القتل ليس له مهابة في منطقة بعلبك البقاعية، إذ يقول أحد الأهالي، إن "طريقة فض النزاعات تختلف بين المتخاصمين، بحسب الإشكال"، موضحاً "بالنسبة إلى العرض والشرف فلا يروي الثأر إلا الدم. أما الخلافات العادية، مثل حق المرور، والحدود بين الأراضي، أو النقاشات الحادة، قد تكون حول أي موضوع، فتؤدي إلى قتل أحدهم الآخر"، وهذا "حله بسيط"، وفق بعض السكان المحليين.

حرب العشيرتين

وأصبح من المعتاد بين اللبنانيين نقل وسائل الإعلام للمشاهد العسكرية الاستعراضية الصادمة لميليشيات مدججة بأسلحة ثقيلة ومتوسطة تجوب شوارع مدينة بعلبك. هذه الميليشيات تعد نفسها تستطيع التحكم بأبناء المدينة بحيث تنصب الحواجز، وتتنقل بآلياتها العسكرية المحملة أحياناً بالصواريخ المتوسطة المدى. أحياناً كثيرة تدور حرب أهلية دموية بين آل جعفر وآل شمص، كبرى العشائر المسيطرة على المنطقة. وأحياناً تنكفئ القوى الأمنية ولا تتدخل بسبب العلاقة التاريخية المتوترة أصلاً مع العشائر وسياسة التهميش الرسمية تجاه المنطقة وأهلها. ولا يتوانى الأهالي عن استخدام جميع أنواع الأسلحة، بداية من الرشاشات، وصولاً إلى قذائف الهاون و"الدوشكا"، وانتهاءً بالـ"آر بي جي"، إذ أصبحت المنطقة مرتعاً للعصابات التي تخطف الأهالي الآمنين، واضعة إياهم ضمن دائرة القتل من دون رادع أو الاحتكام إلى قانون، مغلبة العادات العشائرية على قوانين الدولة والقضاء، إذ ما زالت العائلات تتعامل بلغة الثأر ونيل الحق باليد ولغة القتل واستعراض القوة، وبشريعة حمورابي "العين بالعين والسن بالسن".

حوادث وأمثلة

تقول إحدى السيدات، إن صوتاً معروفاً لا يزال يرن في أذنيها عندما صرخ "يا أبو طقية وأبو عجينة، حق دم ابني محمد عندكم، والثأر حيكون لو بعد سنين". وبعد أن تلقى حمية خبر مقتل ابنه العسكري محمد حمية في سبتمبر (أيلول) 2014، تعهد لابنه محمد أمام زواره بالثأر، وقام فعلاً بالثأر عندما أعلن مسؤوليته عن قتل حسين الحجيري، ابن المختار السابق علي الحجيري المعروف بـ"أبو علي العصفور"، شقيق الشيخ مصطفى الحجيري، المعروف بـ"أبو طاقية"، خطف الشاب يومها على يد شبان من آل حمية، وبعد أقل من ساعتين، نشرت صورة لجثة المخطوف عند قبر محمد حمية في مدافن بلدة طاريا، ليعلن معروف عن مسؤوليته، ثأراً لدم ابنه.

وتناقل أهالي عرسال الخبر، فبدأ مسلحون من البلدة حاملين السلاح يخرجون من منازلهم ويجوبون حاراتها وشوارعها، وسرعان ما ظهرت الحواجز للقبض على أي شخص من آل حمية أو من ينتمي إلى بيئته، ووصل الاستنفار يومها إلى بلدة سعدنايل (البقاعية السنية)، التي تبعد نحو 40 كيلو متراً عن عرسال. وهنا أخذ الثأر وجهة أخرى، مذهبية، تضامناً مع عرسال وآل الحجيري (السنة).

يتناقل أولاد العشائر أمثلة وعادات تعود جذورها إلى عصر الجاهلية "الثأر نقطة دم لا تتعفن ولا تسوس"، و"المذمة والعار لمن تخلف عن الثأر"، ومن العادات أن يقوم "الشخص المولج بأخذ الثأر، بوضع شال أسود اللون عاقداً طرفه، ويودع عائلته عازماً على أخذ الثأر، ولا يحل عقدة شاله إلا حينما يأخذ بثأره". هذه السلوكيات تعبر عن نفسها بحيث تتجاوز حدود المنطق والعقل بالجنوح والاندفاع لتحقيق هذا الهدف "الثأر"، من دون مراعاة حجم الخسائر في أرواح الأبرياء، وسفك الدماء.

الدولة الغائبة

في عصر السلاح المتفلت في لبنان، المتنقل بين المناطق، بحيث لا توجد هيبة للأجهزة الأمنية والقضائية، والتي عادة ما تقف متفرجة أمام الجماعات المسلحة ومواكبها السيارة، حينما تكون المعارك بين عشيرتين. وأحياناً كثيرة يتدخل الجيش في عملية الصلح، وتقول إحدى وسائل الإعلام، إن قيادة الجيش تتعامل وكأنها عشيرة من العشائر، فإذا وقع قتيل في اشتباك بين الجيش ومطلوبين، يدفع الجيش "الدية"، ويصالح العشيرة التي سقط منها ضحايا، وهذا الأمر هو أشبه بعرف متوارث في المؤسسة العسكرية. وسط عجز عن اتخاذ أي رد فعل، وذلك لحسابات عدة، منها أن منطقة بعلبك تعد بيئة حاضنة لـ"حزب الله"، ومعقلاً وخزاناً أساسياً له.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات