Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لم تكن تلك اللحظة "ثورية" والديمقراطية الأميركية أقوى مما يتصوره منتقدو ترمب

لقد فشل الذين حاولوا منع المرحلة الأخيرة من تأكيد انتخاب جو بايدن

هزّ اقتحام أنصار ترمب مبنى الكابيتول، صورة الديمقراطية الأميركية (غيتي)

صاحت العناوين الرئيسية للأخبار "انقلاب!"، "تمرد!"، "فوضى!"، في حين قُرِعت أجراس الإنذار حول العالم. إن المشاهد الفوضوية من مبنى الكابيتول الأميركي، حينما بدأ الكونغرس الأميركي أعمال تأكيد انتخاب جو بايدن رئيساً مقبلاً للولايات المتحدة، أطلقت العنان لموجة جديدة من الذعر في شأن الحالة الهشة المزعومة للديمقراطية في الولايات المتحدة. ويرى كثيرون أن المشاهد عزّزت المخاوف من إلحاق أربع سنوات من وجود دونالد ترمب في البيت الأبيض، ضرراً دائماً في الجسم السياسي الأميركي. ويقدم ما حدث بالنسبة إلى قلائل ممن لديهم منظور دولي وتاريخي أكبر، مجرد نذير على الانحدار النهائي للعالم الغربي. وداعاً للولايات المتحدة كما عرفناها. وداعاً للديمقراطية الليبرالية. وداعاً للنظام العالمي المألوف. ستنال الصين وروسيا وبقية العالم، الضحكة الأخيرة. لقد فاز المستبدون والديكتاتوريون والشعبويون.

لكنهم لم يفوزوا، أليس كذلك؟ لقد اخترقت مجموعة من الغوغائيين مؤلّفة من بضعة آلاف ما يبدو الآن في شكل فاضح دفاعات غير كافية للكونغرس الأميركي. وعاث بعضهم فساداً. ومشى عديد منهم على نحو غير منظم بين الحبال المخصصة للسياح. لقد دفعتهم الاحتجاجات التي قادها الرئيس المهزوم، والمؤامرات التي تنشرها وسائل التواصل الاجتماعي، لكن في الأغلب ربما شكوكهم القديمة في الدولة أيضاً، دفعتهم إلى الاعتقاد بأن الانتخابات جرى تقويضها، وأنهم كانوا يحتشدون لمنع المرحلة الأخيرة من تأكيد انتخاب منتحل للصفة. لكنهم فشلوا.

في غضون ساعات، استُعِيد النظام. واستأنف الكونغرس جلسته المشتركة وسط تصفيق حاد. ومع حلول الفجر، أُكِّد انتخاب جو بايدن. وألقى كل من نائب الرئيس، وزعماء مجلس الشيوخ المنتهية ولايتهم والمنتخبون حديثاً، وكذلك الرئيس المُنتخب من خارج خشبة المسرح، خطابات رسمية دفاعاً عن الديمقراطية والعملية الديمقراطية الأميركية.

ولم أرَ قط الرئيس ترمب أكثر انزعاجاً، بل أشد خوفاً، مما كان عليه في مقطع الفيديو الخاص به، حينما أكد لغزاة الكابيتول أنهم كانوا "متميزين للغاية" قبل أن يتوسل إليهم أن "عودوا إلى دياركم، عودوا إلى دياركم بسلام". ومع اختتام الكونغرس جلسته، أصدر البيت الأبيض بياناً باسم ترمب يتعهد بإنه "على الرغم من أنني لا أتفق تماماً مع نتائج الانتخابات [أتعهد بأن يحصل] انتقال منظم للسلطة في 20 يناير(كانون الثاني)".

لا شيء من هذا يشير بالنسبة إليّ إلى أننا ننظر إلى ديمقراطية هشة. تبدو الولايات المتحدة أشبه بالدولة التي نجحتْ في الحفاظ على احترامها لذاتها وأنها، ذلك هو الأهم، الدولة التي أثبتت عملياتها الدستورية متانتها الكاملة بالقدر الكافي كي تتحمّل ما قد يبدو قريباً عقبة ثانوية في مسار التاريخ. أجل، يتعيّن على الأميركيين أن يحرسوا ديمقراطيتهم. بل يتعين عليهم أن يظهروا قدراً عظيماً من اليقظة والحذر، ألَا يصح علينا جميعاً ذلك؟ لكن في هذه اللحظة بالذات، قد يكون من الأفضل لهم أن يراجعوا أمن مبنى الكابيتول بدلاً من أن يجلدوا أنفسهم في شأن استقرار دولتهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وقيل في بعض الأحيان على مدى السنوات الأربع الماضية إن رئاسة دونالد ترمب أخضعت الدستور الأميركي لاختبار إجهاد. وهذا صحيح. لكن اختبار الإجهاد هذا، على رغم كل العداوة والشكوك في الذات في صفوف خصوم ترمب، نجحت فيه الولايات المتحدة بتميّز في أغلب الأحوال. على نحو ما، كان المزيج من الغضب والقلق والعداء الذي أظهره في الأغلب الأميركيون ذوو الميل الليبرالي الواسع النطاق، مثاراً للإعجاب. لكن الأمر الأكثر أهمية هو الطريقة التي وُجِّه بها هذا المزيج إلى العملية الديمقراطية.

هكذا يجب أن تعمل المعارضة. [يمتد ذلك] من الرعب الذي أبداه كثيرون جداً من انتخاب شخص كترمب، إلى الأسئلة العدوانية التي واجهها من وسائل إعلام كثيرة، إلى مستوى المشاركة الانتخابية، في كل من انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) والانتخابات التكميلية في ولاية جورجيا هذا الأسبوع. وفي بعض الأوقات تجاوز الليبراليون هذا الحد في مقتهم ترمب، ما أفاد أنصاره. لقد حدث قدر كبير من التعالي في التعامل مع مواطنيهم من المصوتين لترمب، فجاء عملهم [أصحاب الميل الليبرالي الواسع] غير ديمقراطي بقدر بعض ما حاول ترمب فعله. إن الشخصنة ليست عملاً سياسياً في كل الأحوال.

في المقابل، طيلة القسم الأعظم من السنوات الأربع أُبقِي هذا الرئيس غير التقليدي والمعطِّل، ضمن الحدود الدستورية. فعندما حاول لجم السفر والهجرة، لم تكن المحكمة العليا وحدها التي تدخلت معتبرة بعض التدابير التي اقترحها غير قانونية، بل تدخل ناشطون أيضاً. وفي كثير من الأحيان، استطاع أن يُحدث تغييراً قليلاً في المنظومة، لكنه لم يتمكن من إحداث تغيير بــ180 درجة، ولا بالأحرى إلغاء المنظومة. وتوجب عليه تقبل الأمر.

وواجه مرشحوه إلى المحكمة العليا عملية التأكيد نفسها التي واجهها آخرون قبلهم. (ولم يظهروا حتى الآن أنهم مسيسون في شكل مفرط أو غير مؤهلين). وجرى التحقيق في تعاملاته المزعومة مع روسيا، وبُرّئ من "التواطؤ". وعلى الرغم من ذلك، تمتع الكونغرس بسلطة تقييد آمال ترمب في التقارب مع موسكو، وقد استخدم الكونغرس تلك السلطة. وحوكم تحت طائللة الإقالة (بسبب طلب قدّمه إلى أوكرانيا)، وبُرِّئ.

هكذا تنجح الديمقراطية، أو الديمقراطية على الطريقة الأميركية، ولقد نجحت بالفعل. إذ أجرت الولايات المتحدة ما شكل ربما إحدى أكثر الانتخابات الرئاسية سلاسة ونظافة على الإطلاق، وسط الجائحة. وخسر ترمب، ليس بفارق كبير، لكنه خسر. ولم تسفر محاولاته مقاومة المحتوم عن شيء. لقد جعلته الديمقراطية الأميركية رئيساً لولاية واحدة. وسيُنصَّب جو بايدن رئيساً في ـ20 يناير.

ولا ينم ذلك كله عن هشاشة، بل يظهر صلابة. إذ تكيف النظام أو الدستور، مع رئيس محتمل الخطورة، تماماً بقدر نجاحه في واقع الأمر، بقدر أقل من التأكيد، في إجراء انتخابات "متقاربة" عام 2000. ولهذا السبب، ليست هذه اللحظة أشبه بلحظة "ثورية". إنّ السياق مختلف تماماً، والأساسات سليمة.

وفي هذا السياق، وليس لمجرد أن ما يُسمَّى "اقتحام" الكابيتول قد فشل، لا يشبه الأمر ما حدث في فرنسا عام 1789، وروسيا 1917، على حد وصف شهود عيان، أو الثورات التي شهدتها أنحاء مختلفة من أوروبا وبلغت ذروتها بسقوط جدار برلين. ولا يشبه ذلك الانقلاب السوفياتي الفاشل في آب (أغسطس) 1991، أو اقتحام بوريس يلتسين برلمانه بعد سنتين، أو انتفاضة الميدان الأوروبي في أوكرانيا عام 2014. في تلك الحالات كلها، ترنّحت أساسيات الدولة، وفق ما حدث بالفعل. وحين حدثت الأزمة، عند لحظة، أمكن اعتبارها لاحقاً نقطة تحول، ساد شعور حقيقي بعدم معرفة ما قد يجلبه اليوم التالي أو الساعة المقبلة.

وليست الولايات المتحدة كذلك اليوم. صحيح أنها دولة منقسمة بشدة، لكن الأمر كذلك في الوقت الحالي في عدد من الأنظمة الديمقراطية. غير أنها تظل دولة ديمقراطية دستورية، وأكثر استقراراً في رأيي منها أثناء ستينيات القرن العشرين، عندما كان النظام الراسخ يواجه تحدياً من الاغتيالات، واحتجاجات مطالبة بالحقوق المدنية، وعنفاً شبه روتيني تمارسه الشرطة، وانشقاقاً بين الأجيال حول حرب فيتنام.

يُعتبَر دونالد ترمب رئيساً "متمرّداً" منحازاً سياسياً ضد واشنطن. في المقابل، لقد ظهرت حدود سلطته في تحدي واشنطن مرتين. أولاً، في مقدار أجندته التي تمكن من إنجازها كرئيس للبلاد، ثانياً، في محاولة جادة الآن لحض "الشعب" على تجاوز العملية الديمقراطية الراسخة.

إن الديمقراطية في الولايات المتحدة باقية، لكن إلى أي مدى كانت مهددة حقاً؟

في المقابل، تستغل الصين بالفعل أحداث هذا الأسبوع في واشنطن، وفق ما يحدث بلا أدنى شك مع عدد من الدول غير الديمقراطية الأخرى، بهدف صد الانتقادات الأميركية لسلوكها [الصين]، والإشارة إلى النفاق في الطريقة التي دعمت بها الإدارات الأميركية المتعاقبة الحركات المناصرة للديمقراطية في بلدان أخرى، وإدانة الطابع غير الديمقراطي الذي يتسم به تغيير النظام الذي تحرّض عليه الولايات المتحدة. ولا يمكن أن نشكك في أن اللقطات الصادرة عن الكابيتول لا تنفع الولايات المتحدة بأي شيء في الخارج.

لكن في الداخل، يبدو التوازن مختلفاً إلى حد ما. ربما يكون دونالد ترمب لطّخ الرئاسة من نواح عدّة، لكنه يغادر البلاد والدستور الأميركي سالم منتصر، والديمقراطية في الولايات المتحدة في حالة صحية عموماً أكثر منها لدى وصوله إلى الرئاسة.

وتكفي ولاية جورجيا وحدها شهادة على ذلك، إذ سترسل الآن سناتورين ديمقراطيين إلى واشنطن، أحدهما أسود اللون. لذا، لا ينبغي لرسالة التطورات الدرامية هذا الأسبوع أن تكون مقلقة، بل إنها على العكس من ذلك. [تتمثّل تلك الرسالة في أن] حافظوا على الهدوء، أيها الأميركيون الأعزاء، وواصلوا العمل!

© The Independent

المزيد من آراء