تظل منظمات المجتمع المدني أو المنظمات غير الحكومية في روسيا صداعاً لم تبرأ منه البلاد منذ ظهورها مثل البثور على الجسد العليل، مع آخر سنوات الاتحاد السوفياتي السابق، وتحول كثير منها إلى أنشطة غير مشروعة مع مطلع تسعينيات القرن الماضي.
وشهدت هذه الفترة نشاطاً مكثفاً من جانب كثير من تنظيمات وشبكات الفساد تحت رعاية غير مباشرة من الدوائر الغربية، التي وجدت فيها ما كان يمكن أن يُسهم في تمرير مخططاتها الرامية إلى تفريغ المجتمع الروسي من قيمه ومعتقداته، وثوابت مصالحه الوطنية لقاء "مكاسب مالية" و"مآرب ذاتية".
بوتين وتقويم المسار
ومن هنا، ظهرت جمعيات ومنظمات تحت ستار أطلقوا عليه تأدباً تسميات على غرار "منظمات المجتمع المدني"، وشملت كثيراً من المنظمات الأهلية والجمعيات الدينية، بما فيها "منظمة الإخوان المسلمين" التي حُظرت في مطلع القرن الحالي، بإيعاز مباشر من الرئيس بوتين مع تصاعد الحرب الشيشانية الثانية، إلى جانب عديد من الجمعيات، وكذلك ما يسمّى بـ"الأكاديميات" على مختلف أطيافها الشعبية والطبيعية والثقافية وحقوق الإنسان، وغير ذلك من المنظمات غير الحكومية.
آنذاك، فرضت المتغيرات التي ماجت بها روسيا الديمقراطية واقعاً جديداً تحول الوجود الغربي معه رقماً رئيساً في المعادلة الجديدة تحت رعاية غربية، من دون أي مقاومة أو احتجاج من جانب السلطة الروسية. ويذكر كثيرون أن مؤسسات المجتمع المدني وصناديق الدعم والمعونة التي ظهرت وقتها كانت أشبه بحصان طروادة الذي سرعان ما أدرك فلاديمير بوتين أبعاده حين جاء إلى قمة السلطة، مع مطلع القرن الحالي، ليبدأ على استحياء تقويم المسار، حتى التحوّل صراحة إلى التحذير من مغبة نشاط هذه "الجمعيات والمؤسسات".
وذلك ما تلقفه مجلس الدوما لإقرار وضعها "تحت المنظار" واعتبار ممثليها "عملاء أجانب"، وألزمها بالخضوع إلى الرقابة الحكومية، والإشراف على كل مصادر تمويلها، لا سيما الخارجية منها.
وكانت الحكومة الروسية قد تقدمت إلى المجلس في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بمشروع قانون يحظر تسجيل هذه المنظمات في المباني السكنية، فضلاً عن إلزامها بتقديم تقارير عن كل نشاطاتها التي تنوي القيام بها إلى وزارة العدل. وذلك ما بدأ "الدوما" مناقشته اعتباراً من منتصف نوفمبر 2020.
كيانات وهمية
ومن اللافت في هذا الصدد أن هناك من هذه الجمعيات والمنظمات و"الأكاديميات" لا تزال تتخذ لها عناوين في مبانٍ سكنية بمختلف أرجاء العاصمة، ومنها ما لا أصل له في واقع الأمر، وهو ما تحققنا منه في حينه، وسجّلنا بالصوت والصورة إنكار أصحاب هذه الشقق السكنية وجودها في العناوين المشار إليها في "الرخصة" الصادرة عن وزارة العدل الروسية حول أوراق ثبوت تلك "الأكاديمية".
ويقضي مشروع القانون الجديد، الذي طرحه الحزب الحاكم "الوحدة الروسية"، بأحقية وزارة العدل في إصدار تعليماتها إلى المنظمات غير الحكومية وغير التجارية المسجلة لديها في إلغاء أو حظر أي من نشاطات الجمعيات والمنظمات المسجلة لديها، إلى جانب أحقيتها في إلغاء التسجيل حال رفضها الامتثال إلى هذه التعليمات.
وكان الرئيس بوتين قد أعار هذه القضية مزيداً من اهتمامه مع تفجّر ظاهرة الثورات الملونة في الفضاء السوفياتي السابق، وتمددها إلى الدرجة التي طالت معها نيرانها الثوب الروسي داخل العاصمة، في ما عرف بـ"تظاهرات بولو تنويه" في ديسمبر (كانون الأول) 2011 على مقربة مباشرة من الكرملين مع نهاية سنوات ولاية الرئيس السابق دميتري ميدفيديف.
وعلى رغم تعدد اللافتات التي اتخذها كثير من هذه الجمعيات، وهي أقرب إلى "الدكاكين" أو كما تسمى في بعض البلدان العربية بـ"أكشاك بير السلم"، للتغطية على نشاطاتها، فقد استطاعت أن تحظى في بعض الأحيان بدعم الدولة الروسية، لتعقد اجتماعاتها ومؤتمراتها تحت رعاية مباشرة من الكرملين.
وننقل عن آلا بامفيلوفا، الرئيسة السابقة لمجلس تطوير مؤسسات المجتمع المدني الرئيسة الحالية للجنة المركزية للانتخابات في روسيا، تصريحاتها حول أن المجتمع الروسي شهد أحياناً تعاوناً مثمراً مع المنظمات الاجتماعية غير الحكومية في بلدان أخرى، وساعد هذا التعاون في تسهيل الحصول على تأشيرات دخول لأعضاء المنظمات في رحلاتهم التفقدية، والحصول على معلومات حول نشاطات الجهات الرسمية في هذه الدول، إضافة إلى بحث أمور ملحة متعلقة بحماية البيئة والاحتباس الحراري ومسائل أخرى مثل مكافحة الفقر وحماية حقوق الإنسان.
حظر 9 آلاف منظمة
وتتباين المنطلقات، بقدر اختلاف جوهر المهام والدراسات التي تعكف بعض هذه المؤسسات على استقطاب رموز أجنبية للمشاركة فيها، تحت مختلف المسميات وعبر شتى "الألقاب" التي يسيل عليها لعاب تلك الشخصيات والرموز العلمية المتواضعة في بلدانها. وذلك ما تواصله بعض الجمعيات والمنظمات التي توزع لقب أكاديمي في الداخل والخارج من دون وازع من ضمير، أو مراعاة لقدسية هذه الألقاب العلمية، الأمر الذي يستوجب تدخل السلطات التشريعية والتنفيذية في روسيا.
ونذكر في هذا الصدد ما اتخذه مجلس الدوما من قوانين تلزم كل منظمات المجتمع المدني التي تتلقى تمويلاً من الخارج بضرورة التسجيل لدى وزارة العدل الروسية كممثليات "للمؤسسات الأجنبية" تحت وضعية "عملاء أجانب"، وهو ما لم يرق في حينه لممثلي هذه المنظمات، ومنها "صندوق غورباتشوف للأبحاث السياسية والاجتماعية".
وكانت وزارة العدل الروسية قد طالبت في تقرير نشرته على موقعها في الشبكة الإلكترونية الدولية بحظر نشاط ما يقرب من تسعة آلاف منظمة تورطت في تقاضي أموال من الخارج من دون تقديم كشوف أوجه الصرف والإنفاق، لتعطي بذلك المبرر القانوني للسلطات الروسية، لاتخاذ ما تراه من إجراءات ثمة من يريد من أصدقاء الخارج التشكيك في مشروعيتها.
ومن اللافت أن موقع وزارة العدل يشير إلى تسجيل 213 ألف منظمة غير تجارية وغير حكومية حتى تاريخ مارس (آذار) 2020. وكانت السلطات الروسية قد داهمت مقار عدد من هذه المراكز، وهو ما استوجب لاحقاً صدور قرارات منها ما وضع حداً لوجود مثل هذه "الجمعيات المشبوهة".
ويتضمن مشروع القانون الجديد الجاري مناقشته في مجلس الدوما، إقرار المسؤولية الجنائية لكل من تسول له نفسه تجاوز ما يقرره القانون من حدود لنشاطه أو توجهاته.
العملاء الأجانب
ونعيد إلى الأذهان الضجة التي تعالت لدى مداهمة مركز "مركز أينديم" الذي كان يترأسه منذ تأسيسه في عام 1990 جيورجي ساتاروف أحد مساعدي الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين. وكان الأول قد اعترف أن مؤسسته للبحوث الاجتماعية وقياس الرأي العام، أعدّت بحوثاً منها ما تعلق بمفهوم "العدالة" في المجتمع الروسي لصالح "صندوق ماكارتوروف" الأميركي.
كما تلقى المركز منحة مالية من صندوق "فورد" مقابل إعداد بحث اجتماعي حول مدى استقلالية القضاء في روسيا، إلى جانب دراسة خاصة حول صياغة التوصيات اللازمة لأنجع سبل مواجهة الفساد في المجتمع الروسي لحساب البنك الدولي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد اعتبر كثيرون من ممثلي الأجهزة الرسمية اعتراف ساتاروف بإعداد مؤسسته بحوثاً اجتماعية لحساب مؤسسات أجنبية مقابل عائد مالي، تأكيداً لعدالة ما اتخذته السلطات التشريعية من قوانين، أقرت تسمية مثل هذه المؤسسات "ممثليات أجنبية"، بما قد يبرر ضمناً وصف العاملين فيها بـ"العملاء"، بحسب ما جاء في قرار مجلس الدوما الصادر بهذا الشأن.
ونقلت وكالة أنباء "إنترفاكس" عن يوري تشايكا، النائب العام السابق، دعوته "الدوما" إلى تشديد القوانين الخاصة بالمنظمات غير التجارية، بما يكفل إدراج أسمائها ضمن قائمة "العملاء الأجانب"، وتموّلها شخصيات اعتبارية روسية في حال وجود شخصيات أجنبية بين مؤسسيها.
مخاوف السلطات الروسية
وتكتسب الخطوات الجديدة أهمية خاصة في مثل هذا التوقيت، من منظور ارتباطها بمخاوف السلطات الروسية من احتمالات تكرار محاولات الدوائر الغربية التي لم تتوقف منذ ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، لزعزعة استقرار روسيا وبلدان الفضاء السوفياتي السابق.
وتزيد حدة هذه المخاوف مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية المرتقبة قبيل نهاية العام الحالي، ما قد يكون فرصة مناسبة لمعاودة ما سبق وجرى من محاولات العام الماضي في بيلاروس وقيرغيزستان ومعهما أوكرانيا، التي تظل تقف على مقربة من هذه المحاولات، انتظاراً لتحيُّن الفرصة المناسبة للانتقام والثأر، واستعادة شبه جزيرة القرم. وهو ما لا تجد السلطات الأوكرانية حرجاً في الكشف عنه، وبذل الغالي والنفيس من أجل تحقيقه، بالتعاون مع الدوائر الغربية كما حدث في بيلاروس.