Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الهند بين "جسر آدم" و "أسرة نهرو"

ستظل هذه البلاد لغزاً محيراً في القدرة على الاستمرار كما نعرفها اليوم على الرغم من تناقضات المجتمع

تأثير الأساطير الهندية عميق إلى حد مذهل في المجتمع (غيتي)

في صيف العام 2005، أخبرني الدكتور عبدالكريم الإرياني أن الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح قرّر أن يعفيني من موقعي كوكيل لوزارة الخارجية، وأن عليّ الاختيار بين عاصمتين، نيودلهي أو الرباط، فطلبت منه منحي فرصة حتى صباح اليوم التالي، ولم تمر دقائق حتى اتصل الرئيس صالح بنفسه، وتحدث بلهجة صارمة أنني الوحيد من بين كل المرشحين الآخرين، الذي منحت فرصة الاختيار بين دولتين، وفوراً قررت أن تكون الهند مستقراً جديداً لي بعد عامين قضيتهما في صنعاء، وشعرت حينها أن الاختيار كان رغبة في إبعادي من موقع أتاح لي الاقتراب من مركز القرار، والتعرف على كيفية اتخاذه. 

بعد أشهر من انتظار الموافقة الرسمية من الحكومة الهندية، التقيت الرئيس الراحل في مقره بمنطقة معاشيق في عدن نهاية شهر ديسمبر (كانون الأول) 2005، وودعته وسافرت منتصف يناير (كانون الثاني) بعد إنهاء الإجراءات الإدارية، وكنت حينها أشعر بشيء من الضيق، على الرغم من أن دبلوماسياً خليجياً قال لي إن الهند بلد تصل إليه ممتعضاً ثم تغادره حزيناً، وهو ما حدث بالفعل في نهاية السنة الرابعة لابتعاثي.

قبل وصولي إلى العاصمة الهندية، قرأت ملخصاً عن السياسة الداخلية الهندية وطريقة الحكم، وكان السؤال الأهم الذي ظل يتردد في ذهني هو "كيف تمكنت الديمقراطية الهندية من التعايش في مجتمع تسوده الطبقية وتتعدد داخله المذاهب والأديان؟". 

بعد إقامة زادت على الأربع سنوات بأشهر قليلة، غادرت الهند محمّلاً بتجربة إنسانية ودبلوماسية نادرة، قلما يمكن لشخص اكتسابها مهما تعددت قراءاته أو مشاهداته عن بعد للمجتمع الهندي. وسأتحدث عن قضيتين أثارتا انتباهي، الأولى هي رفض الهندوس مساعي الحكومة الهندية تعميق الممر المائي بين الهند وسريلانكا لتقليص مدة إبحار السفن بين غرب الهند وشرقها، والحادثة الثانية هي الانهيار الذي أنهك حزب المؤتمر الهندي ووضع حداً لسيطرة أُسرة نهروغاندي على السياسة الهندية.

تقول الـ "رامايانا" (Ramayana) الهندية، الملحمة الأشهر في التاريخ لدى الهندوس، إن الملك الشيطان رافانا (Ravana) اختطف سيتا (Sita) زوجة أعظم آلهة الهندوس الملك راما (Rama)، وفرّ بها إلى جزيرة سيلان. ولغرض استردادها استعان بجيش من القردة ذهبوا معه في حملة لاستعادة زوجته، ولهذا الغرض بنى له القردة، بحسب الأسطورة، جسراً (جسر آدم) ليعبر عليه، ونجح في مهمته، وهكذا صار للجسر شأن وقدسية عند الهندوس، إلى درجة أنهم رفضوا كل خطط الحكومة الهندية الشروع في تعميق القناة، وأصروا على أنهم لن يسمحوا بالاقتراب من الموقع، وقد قدم مؤيدو المشروع صوراً التقطتها أقمار صناعية تثبت أن أعماق الخليج ليس بها ما يشير إلى وجود منشأة، لكن ذلك لم يكن كافياً، ولهذا تعطل المشروع.

حين بحثت أكثر عن الأساطير الهندية اكتشفت عمق تأثيرها إلى حد مذهل في المجتمع، وكيف صارت متحكمة في كل طقوسه وتعاملاته، وإلى جانبها رأيت مجتمعاً متفوقاً في فروع العلم الحديث والصناعة والزراعة، على الرغم من كل المعوقات. ولعل أكثر ما شاهدته بإعجاب هو التعايش العجيب بين الفقر المدقع والغنى الفاحش الذي لم أشاهده من قبل في كل أسفاري، ولعل مصدر الرضا الظاهري عندهم هو أن الفقراء يتقبلون فكرة أن القناعة منبعها القدر الذي يتحكم بمصائرهم، وهكذا فليس عليهم إلا الدعاء والصلاة للآلهة التي يمثلها تمثال من إنسان أو حيوان. ولقد تركت ملحمة الـ "رامايانا" أثارها بقوة على الثقافة الهندوسية في داخل الهند وجنوب شرق آسيا، وانعكس ذلك في أعداد دور العبادة التي يرتادونها، وسطوة القائمين عليها والإنفاق عليها وعليهم. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

انهيار حزب المؤتمر الهندي

كانت أسرة نهرو تتوارث نفوذها منذ بدايات القرن الـ 20 وتأسيس حزب المؤتمر الوطني الهندي (Indian National Congress)، حين كان موتيلال نهرو أحد كبار زعمائه، ثم تولى بعده نجله جواهرلال نهرو قيادة الحزب، وبعده ترأس أول حكومة بعد الاستقلال، وتلته ابنته أنديرا غاندي في قيادة الحزب ثم رئاسة الحكومة، إلى حين اغتيالها في أكتوبر (تشرين الأول) 1984، ثم خلفها نجله الأكبر راجيف الذي تم اغتياله هو الآخر عام 1989، وكان رحيله بداية لانحسار تدريجي لدور الأُسرة في السياسة الهندية.

بعد اغتيال راجيف لم يبق في الأسرة شخصية قادرة على الحفاظ على السلالة السياسية سوى زوجته إيطالية الأصل "سونيا"، التي قبلت على مضض زعامة الحزب، ومنحت منصب رئيس الحكومة إلى اقتصادي مرموق هو مانموهان سنغ (Manmohan Singh)، وهي الفترة التي شهدت فيها الهند ارتفاعاً مذهلاً في النمو الاقتصادي، وتطوراً في البنى التحتية، لكن الرجل كان بعيداً من أجواء السياسة الهندية القاسية، وكان الكل يرى فيه شخصية مطيعة لسونيا غاندي، ومجرد محطة مؤقتة لابنها راوول (Rahul)، الذي لم يكن يتمتع بأية صفات قيادية أو ثقافة سياسية قادرة على المواجهة، ولم يمثل سوى وجه بلا ملامح، حاولت قيادات الحزب استغلاله كونه نجل وحفيد اثنين من أعظم السياسيين في تاريخ الهند، لكنه فشل وأسقط الحزب معه، على الرغم من محاولات المستفيدين من سمعة وثروة الأسرة.

كانت تجربتي في الهند مثيرة، ومنحتني فرصة لمتابعة قريبة للحياة السياسية النشطة المصحوبة بإعلام حر بلا قيود، وازدهار ثقافي مدهش، وتقدم في مجالات الطب والعلوم، وأيضاً مجتمع يؤمن في أعماقه بأهمية التشبث بالروايات والأساطير التي تتناقض مع كل منطق، وكلما زاد تعمق المرء في التفاصيل الاجتماعية، وانخرط في مناخاتها المتعددة، سيجد أمامه نسيجاً اجتماعياً فيه من الطبقية المتجذرة ما لا يمكن أن يجده في بلد آخر، بل إن الطبقة الواحدة تحوي داخلها تراتبية معقدة لا يمكن تجاوزها أو تخطيها.

ستظل الهند لغزاً محيراً في القدرة على الاستمرار كما نعرفها اليوم، على الرغم من كل متناقضات المجتمع بخطوط شديدة التمايز مذهبياً ومناطقياً، ولا يجب التعويل على أن الديمقراطية الهندية قادرة بمفردها على حماية البلاد من الاهتزازات العميقة التي يتسبب فيها التعصب الشديد الذي يؤسس له الحكم الحالي، والذي يتعمد إضعاف الهويات الأخرى في مقابل تنامي روح رفض الآخر، واعتباره دخيلاً على المجتمع.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء