Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غورباتشوف... أضواء الخارج تلهي عن شرك "رفاق الداخل"

هكذا أجهز إلغاء المادة السادسة للدستور السوفياتي على ما تبقى من وقار الوطن 

غورباتشوف رجل "غير وجه التاريخ"، وأعاد رسم خريطة السياسة العالمية خلال سنوات معدودات. (غيتي)

سيرة ومسيرة تراجيدية الطابع والسمات، ومصير يرقى في شكله ومضمونه إلى مصائر أبطال الميثولوجيا أو الأساطير الإغريقية القديمة، حين ظهر ليستقطب اهتمام الخارج قبل الداخل، ولم يستمتع طويلاً بنشوة وإعجاب مواطنيه.

سنوات معدودات كانت كافية لتقذف به بعيداً من موقع الصدارة، فقد تقاذفته الأهواء ليسقط في شرك أضواء الخارج من دون اعتبار لقسوة وحلكة عتمة الداخل، فتطايرت السهام من كل حدب وصوب، وصار هدفاً لمؤامرات الرفاق، ومنهم من اجتمع بليل في مجاهل غابات بيلاروس لتدبير ما أطاح به وبالوطن، وما إن امتثل لملاقاة مصيره المحتوم حتى تعالت الاتهامات وتباينت، من العمالة إلى الخيانة، بل وإلى ما هو أبعد وأشد وطأة، بينما انفض عنه رفاق الأمس ممن خرج جميعهم من معطف الحزب الشيوعي السوفياتي.

 تمضي الأيام والسنون بكل تقلباتها وتعرجاتها التي قذفت به إلى خارج دائرة الضوء، فلم يجد السلوى والملاذ إلا بين أحضان خصوم وأعداء الأمس ممن تلقفوه شاكرين مهللين، ليوفروا له مقراً آمناً خارج حدود الوطن، اعترافاً بفضل ما أتته يداه، وخير ما أسهم به في لمّ شمل الألمانيتين.

سر الجامعة والزوجة

ذلك هو ميخائيل غورباتشوف الذي "غير وجه التاريخ"، وأعاد رسم خريطة السياسة العالمية خلال سنوات معدودات. سيرته الذاتية تستمد بداية خيوطها من إحدى قرى مقاطعة ستافروبول جنوب روسيا لتنسج قصة الشاب البسيط شديد الطموح، الذي سرعان ما حمله إلى رحاب أكبر جامعات الاتحاد السوفياتي في العام 1950 ليدرس في كلية الحقوق.

في جامعة موسكو التقى شريكة حياته التي سرعان ما حددت ملامح مستقبله على الصعيدين الشخصي والعملي. رئيسا تيتارينكو (غورباتشوفا بعد الزواج) طالبة كلية الفلسفة، بدأت معها أحلامه على الصعد كافة، ومنها الخاص والعام، ومعها كانت البداية واقترب من النهاية، على وقع ما تطاير من اتهامات بحقها، وانتقادات لتدخلها في الشؤون العليا للوطن، وهي التي كانت خير وجه لهذا الوطن. 
 

يتذكرون البدايات، من منظمة الشبيبة الشيوعية (الكومسومول) إلى صفوف الحزب الشيوعي الذي تولى أمانة لجنته في "ستافروبول" نهاية خمسينيات القرن الماضي، وحتى اللقاء التاريخي مع يوري أندروبوف إبان عمله كرئيس للجنة أمن الدولة (كي جي بي)، وعضواً في المكتب السياسي للحزب.

تتوإلى اللقاءات التي سرعان ما حملته إلى العاصمة لانتخابه سكرتيراً للحزب بنهاية السبعينيات حين لم يكن تعدى الـ 49، مما أثار في حينه كثيراً من الدهشة والتحفظات، وما إن تولى أندروبوف سدة الحكم بعد وفاة سلفه ليونيد بريجنيف في العام 1981، حتى بدا واضحاً أنه يتوسم فيه الاتفاق في الرؤى والتوجهات، والقدرة على تنفيذ ما كان يراه من حلول للخروج من مرحلة الركود، وهي التسمية التي طالما ترددت في ما بعد عنواناً لسبعينيات القرن الماضي، وخلال فترة حكم سلفه ليونيد بريجنيف. 

 لم يكن غريباً أن يستقر عليه خيار كثير من زملائه من أعضاء المكتب السياسي ليكون خلفاً لقسطنطين تشيرنينكو الذي خلف أندروبوف لفترة لم تتجاوز العام، وكانت هي النتيجة التي خلص إليها رفيقه أندريه جروميكو عميد الدبلوماسية الروسية وعضو المكتب السياسي لدى تقديمه مرشحاً لقيادة الحزب، خصماً من رصيد وتاريخ كثيرين ثمة من كان يرى أنهم الأجدر والأحق بذلك الموقع، وهم من عاد غورباتشوف ليستثنيهم من قائمة رفاق المسيرة.

كان القرار نهائياً في آخر المؤتمرات الحزبية التي أقرت إلغاء المادة السادسة من الدستور السوفياتي، وإعفاء كل من الأمين السابق للحزب في كازاخستان دين محمد كونايف، ونظيره في أذربيجان حيدر علييف، ومنافسه السابق الذي كان يتولى أمانة العاصمة موسكو، فيكتور غريشين. 

مرحلة التحولات

تبدأ مسيرة التغيير ومحاولات الإصلاح تحت شعارات "البيريسترويكا والجلاسنوست" التي استهل بها غورباتشوف مسيرته، وتحت وقع هتافات الملايين ممن كانوا يحلمون بمثل هذا التغيير، انطلق "غوربي" كما كان يحلو له سماع اسمه بين الدوائر والأوساط الغربية، محطماً كثيراً من أركان الماضي من دون حساب أو اعتبار لجسامة التبعات، أو التفات إلى ملاحظات وانتقادات واعتراضات المحافظين من رفاق الماضي. تداعت أركان الدولة تحت ضربات وتيرة التغيير التي شملت كثيراً من المجالات، وأهمها ما يتعلق بنظام الحكم والإدارة، فقد جمع كل صنوف وألوان الطيف السياسي في مؤتمر نواب الشعب في مايو (أيار) 1989، ليسهم من دون أن يدري في جمع معارضيه من مختلف أرجاء البلاد للانضواء تحت راية "مجموعة النواب الإقليمية"، وبداية من تشكيل هذه المجموعة التي سجلت قيام أول جبهة معارضة في التاريخ المعاصر للاتحاد السوفياتي، انطلق معارضوه صوب تنفيذ حملتهم للإطاحة به وبالوطن.

لم يكتف غورباتشوف بمؤتمر نواب الشعب وما تلاه من تنظيمات وتحركات، فسرعان ما تبدت ميوله صوب تبني شعارات الخارج وتوجهاته نحو مزيد من الحريات والديموقراطية. انطلق غورباتشوف لا يلوي على شيء إلى مالطة بحثا عن أضواء جديدة وعده به نظيره الأميركي جورج بوش الأب بإعلان مشترك عن نهاية الحرب الباردة. ورغم الأنواء العاصفة التي حالت دون اجتماع الرئيسين على متن بارجة أميركية، قنع غورباتشوف وبوش بلقائهما في ديسمبر (كانون الأول) 1989 على متن السفينة ماكسيم غوركي التي كان الوفد السوفياتي اتخذها مقرا لإقامته هناك. ورغم كل ما قيل حول أن إعلان نهاية الحرب الباردة وثيقة دامغة تقول بهزيمة الاتحاد السوفياتي، تقول المصادر والوثائق بعدم صحة التقديرات. بداية لأن الحرب الباردة لم تنته عمليا، وما نراه من استمرار المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة وحلفائها دليل جلي واضح على ذلك، وثانيا لأن ما كانت الإدارة الأميركية تدبره ولا تزال من مخططات للإطاحة بالنظام القائم في روسيا لم يتوقف ومنذ انهيار الاتحاد السوفياتي حتى اليوم، وهو ما قاله سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسية في حديثه الأخير لقناة "روسيا اليوم".

رايات الانشقاق والعصيان

ونعود إلى مناورات الداخل لنشير إلى أن النهاية باتت قريبة أكثر من أي وقت مضي. وكان السبيل إلى ذلك فيما اتخذه خصوم غورباتشوف عن عمد وسبق إصرار من قرار النيل من ثوابت ودعائم الحكم، استنادا إلى وقوف غورباتشوف وراء إلغاء المادة السادسة من الدستور السوفياتي بكل ضوابطها للاحتفاظ للحزب الشيوعي باحتكاره للسلطة، بعيدا عن أية تعددية أو ما شابهها. آنذاك ظهر بوريس يلتسين الذي كان جاء به مع مطلع سنوات البيريسترويكا من موقعه في الأورال. وبدلا من يكون دعما وعونا، شخص يلتسين بكل قامته وبما اكتسبه من شعبية وجماهيرية، ليعلن ثورته المضادة التي انضم إليها وقادها الليبراليون الجدد ممن نجحوا في إقناعه بما دبروه من توجهات ومخططات. ابتدأ بإعلان سيادة واستقلال روسيا في يونيو (حزيران) 1990، ثم عاد ليرفع ومعه نواب وممثلو جمهوريات البلطيق وأوكرانيا رايات الانشقاق والعصيان. استغل هؤلاء إلغاء المادة السادسة من الدستور، لتشكيل تنظيماتهم وإعلان منظماتهم وجبهاتهم ومنها "روخ "في أوكرانيا، و"سايوديس"، في ليتوانيا وغيرهما في استونيا ولاتفيا وجورجيا تحت ستار دعم التغيير تحت شعارات البيريسترويكا والجلاسنوست.

أدرك غورباتشوف أبعاد الموقف وغاياته ليعود إلى مواطنيه يناشدهم الرأي في استفتاء شعبي حول بقاء الاتحاد السوفياتي دولة اتحادية في مارس (آذار) 1991. لم يخذله شعبه مؤكدا وبأغلبية ساحقة موافقته على بقاء الدولة الاتحادية بنسبة تزيد عن 75%. تفويض دامغ عاد معارضوه إلى رفضه، بحثا عن مبررات أخرى لما كانوا يرومون من انفصال. رفض هؤلاء ما طرحه غورباتشوف من صيغ للمعاهدة الاتحادية الجديدة، في توقيت مواكب لتحول مماثل من جانب رفاقه المحافظين، ممن سارعوا إلى تدبير انقلاب أغسطس (آب) 1991 لوقف ذلك الاندفاع الجارف صوب التغيير، ورفض مخطط تفكيك منظومة الأمس التي طالما أحكموا وثاقها، بمشاركة نائبه ووزراء الدفاع والداخلية والأمن والمخابرات. 
 

خرج غورباتشوف من حصاره في منتجع "فوروس" بشبه جزيرة القرم مهيض الجناح مسلوب الإرادة، واستغل خصمه وغريمه بوريس يلتسين ذلك الموقف للانفراد بالسلطة في موسكو، وجاء به إلى السوفيات الأعلى لروسيا الاتحادية في محاولة لتركيعه وإرغامه على الإعلان عن الاعتراف بفضله، وانتزاع موافقته على كل ما اتخذه من قرارات، والتي كانت تعني عملياً تنحية غورباتشوف عن مهمات منصبه كرئيس للدولة، وهو ما أعطى بقية جمهوريات الاتحاد السوفياتي الحق في اتخاذ ما تراه من قرارات، توالت تباعاً لتبدأ بأوكرانيا وبعدها بقية الجمهوريات، ولتبدأ مهرجانات إعلان السيادة والاستقلال التي انتهت عملياً بمؤامرة "بيلوفجسكويه بوشا".
 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هناك في بيلاروس، وفي مجاهل الغابات التي تحمل اسم "بيلوفجسكويه بوشا"، اجتمع بليل رؤساء روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا قبل أن تتحول إلى بيلاروس بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، للاتفاق حول توقيع الاتفاقات التي كانت عملياً الأساس القانوني لانفراط عقد الاتحاد السوفياتي.      

 تضاربت التفسيرات وحار أمامها المعلّقون والمؤرخون لاستيضاح أسباب الكارثة التي حلت بالوطن، وأسهمت في تقويض أركانه حتى لفظ أنفاسه الأخيرة في مثل هذا الوقت من العام 1991، وتباينت التقديرات على وقع تصاعد التساؤلات حول ماهية المسؤول عن مثل تلك المقدمات، وما أسفرت عنه من نتائج. 

وما كان أسهل من إلقاء تبعات سقوط الإمبراطورية على كاهل "الأسد الجريح"، وعليه وحده دون غيره من رفاق الأمس، ممن كانوا يلتفون حوله طمعاً في الفوز ببعض أضواء ذلك الحاضر، وحتى ما رفعه من شعارات "البيريسترويكا والجلاسنوست"، ظهر من يدعي أنها من وحي أفكاره، ومن هؤلاء ألكسندر ياكوفليف ساعده الأيمن، بعد نجاحه وغورباتشوف في الإطاحة بمن تحمّل في حقيقة الأمر مشاق البحث عن سبل التغيير والإصلاح، ذلك الحزبي العتيد الذي جاء من مجاهل سيبيريا ليعد العدة للانطلاقة التي أذهلت العالم في حينه، ألا وهو يغور ليغاتشيف، الذي احتفل منذ أسابيع قلائل بالذكرى المئوية لميلاده، معلناً ندمه على أنه لم يستطع الإطاحة في حينه بغورباتشوف. 

من كان بلا خطيئة؟

وما إن سقط الوطن في لجّة الخلافات وتبادل الاتهامات حتى تطايرت الإشاعات، ومنها ما ظهر مدعوماً بالوثائق التي يقول بعضها إن المخابرات الأميركية كانت على مقربة، وثمة من قالوا ومنهم فلاديمير كريوتشكوف آخر رئيس لجهاز أمن الدولة (كي جي بي)، إن المخابرات الأميركية نجحت في تجنيد ياكوفليف ودعم مسيرته منذ جاءها للدراسة والتدريب بجامعة كولومبيا في خمسينيات القرن الماضي، وهي معلومات أكدها أيضاً رئيس قسم العلاقات الخارجية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي فالنتين فالين، وقال كريوتشكوف إنه فاتح غورباتشوف بهذه المعلومات، وكانت الصدمة الحقيقية فيما قاله غورباتشوف تعليقاً على معلومة كانت في حينها كافية لانفجار لا يبقي ولا يذر، "هوّن عليك. من كان منكم بلا خطيئة؟".   

وتتضارب التعليقات حول هذا الشأن وغيره من أسرار وخفايا الماضي القريب منه والبعيد، حيث يقف غورباتشوف وحده وقد انفض عنه الرفاق، وحار وحيداً في رحلة البحث عما يستطيع من خلاله لملمة أوراق الخريف وجمع ما بقي من الشتات، ومعه ما تساقط من حبات العقد الذي طالما كان صمام الأمن والأمان، فقد انقلب السحر على الساحر، وتحولت "البيريسترويكا" من طوق نجاة علقت عليه الملايين كثيراً من آمالها لإنقاذ الوطن الذي كادت تبتلعه أمواج ما حاكه الخصوم من دسائس ومؤامرات، إلى أنشوطة التفت حول عنقه إعلاناً عن النهاية، وجاءت هذه النهاية في 25 ديسمبر (كانون الأول)، يوم اضطر إلى الإعلان في خطاب ألقاه مساء ذلك اليوم عن تنحيه عن السلطة وإنهاء الاتحاد السوفياتي لوجوده على خريطة السياسة العالمية، كعضو كامل الحقوق في الأُسرة الدولية. وغادر الزعيم مكتبه في الكرملين تحت جنح الظلام تلاحقه مختلف الاتهامات واللعنات التي لم تتوقف حتى اليوم، وهو الذي طالما كان الامل والضوء في نهاية النفق.   

المزيد من تحقيقات ومطولات