Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شبه جزيرة القرم بعيون الأدباء والفنانين الروس (2-2)

ًغرين وتسيفتايفا وإيفازوفسكي نجوم في سلسلة العقد الفريد ازدادوا تألقا

مشهد من شبه جزيرة القرم (غيتي)

نمضي في سلسلة الإبداع والمبدعين ممن تحتل شبه جزيرة القرم في إنتاجهم الفني المصدر الرئيس لروائعهم التي استلهموا موضوعاتها من وحي ذلك المكان، في زمان حددت مفرداته كثيراً من ملامح تلك الروائع.

ولم لا؟ ألم تلعب هذه المنطقة الدور الأهم في حياة كثيرين من الكتاب والأدباء والفنانين في ذلك الزمان الجميل؟ ألم تكن القرم نبع الإلهام لكل ذي موهبة وخيال، أديباً كان أو شاعراً، فناناً كان أو موسيقياً؟ لقد كانت السلسلة التي جمعت "حبات" العقد الفريد التي نختار منها في هذه الحلقة الثانية والأخيرة، ألكسندر غرين ذلك المبدع الذي يظل وكما قال عنه الكاتب السوفياتي الشهير قسطنطين باوستوفسكي "الكاتب الذي لم يكن هناك غِنىً عنه في ذلك العصر وهو الذي أسهم بقسط هائل في صقل المشاعر السامية التي يصعب من دونها تحقيق المجتمع الاشتراكي".

الكسندر غرين المدهش

 وعلى الرغم من أن ألكسندر غرين يعد واحداً من أكثر الموهوبين التصاقاً وارتباطاً بهذا المكان، فإنه يكاد يظل الكاتب الوحيد الذي يكتنف الغموض كثيراً من جوانب سيرته حتى اليوم. ومع ذلك فلم يحل ذلك الغموض دون انتشار أعماله، وذيوع شهرته، بفضل ما اتسمت به أعماله الأدبية من شاعرية ورومانسية خلابة، وما سجله معاصروه من حكايات وانطباعات بددت كثيراً من ذلك الغموض. ولعلهم كانوا محقين حين قالوا إن سيرته الذاتية، وما كابد في حياته من آلام وهموم، تظل حكماً لا هوادة فيه يعكس مدى القسوة التي اتسمت بها حياة الأديب الشاب من جراء ما عايش من هموم ومتاعب ذلك الزمان. لكن الغريب قد يتمثل في أن مثل هذا الواقع شديد القسوة، أفرز إنساناً خصب الخيال، نقي المشاعر، وجل الابتسامة، في وقت كان معاصروه يتوقعون فيه أن يخرج من مثل هذه الظروف "رجلاً عادياً حقوداً عبوساً قطوباً ضيق الأفق". ولذا كان من الطبيعي ذيوع شهرته كواحد من أهم ممثلي الرومانسية الجديدة من خلال كل ما جادت به قريحته من روائع أدبية، وفي مقدمتها رائعته "الأشرعة الحمراء" التي كان لنا حظ ترجمتها إلى اللغة العربية عن دار نشر "التقدم" في موسكو عام 1979. وتقول المصادر الأدبية السوفياتية، إن كاتبنا ألكسندر غرين هو سليل عائلة "غرينيفسكي" البولندية الأرستقراطية، من أبناء ذلك الجيل الذي وجد في الشر خيراً، وفي ملاجئ المعدمين، ما يوحي بالأمل في التغيير، وفي السجن والجوع الأبدي، ما يوقظ حواسه ويحمله بعيداً إلى شواطئ الأحلام.

وهي تلك الأحلام التي جسدتها القرم بكل ما يدور في مخيلة المرء من روعة وجمال، بحثاً عن قصص وحكايات، أبطالها، وكما قال معاصروه من "الحبورين والشجعان ممن يخلقون عالماً لا وجود له على أرض الواقع، تغمره شموس ساطعة وخمائل عطرة يختال في كنفها شباب ورجال كانوا في معظمهم من الصيادين ورحالة وبحارة ممن لا تفارق الابتسامة شفاههم، كانت السبيل إلى نسيان ما كانت تبدو الحياة عليه من شظف، وما تفرضه من أتراح وهموم". ولعل ما أبدعه غرين في قصصه وحكاياته من عوالم مدهشة، هو نتاج طبيعي لما راوده من أحلام، ولما تفتق عنه خياله من صور وحكايات ارتبطت في معظمها بما عاشه وعايشه في القرم. وثمة من يقول إن رائعته "الأشرعة الحمراء" التي استلهم فكرتها واختار أبطالها من بين ثنايا أحلامه ممن بدا أنهم يمثلون له السلوى والملاذ، تظل النموذج الحي الذي يقترب في كثير من جوانبه، من حقائق ومفردات سيرته الذاتية".

 وعلى الرغم من أن ألكسندر غرين كان من مواليد منطقة الأورال بجبالها الشاهقة وتضاريسها الوعرة، فإن شغفه بالقراءة وما اطلع عليه من إبداعات أسلافه من الرومانسيين أفضى به إلى الوقوع في غرام عوالم البحار والرحلات، وما هو أقرب إلى الخيال العلمي. ومن هذا المنظور اتخذ ألكسندر أو الصغير ساشا، بحسب عادة الروس في تدليل صغارهم ممن يحملون هذا الاسم صبياً كان أو صبية، نظم الشعر سبيلاً يعكس من خلاله مواقفه تجاه ما عايش من متاعب ويكابد من آلام، بل ووجد فيه ما يقيم أوده، وينتزعه من براثن عوالم الفقر والحاجة. كما أن فقدانه أمه في وقت مبكر من طفولته، وما عاشه من شظف الحياة التي ضاعف من مرارتها ما عُرف عنه من شقاوة وسوء سلوك في المدرسة، زاد من حدة عدم قبوله الحياة في كنف زوجة أبيه.

غير أن مثل هذا الواقع لم يكن ليستمر طويلاً، حيث سرعان ما اندلعت ثورة أكتوبر التي وجد غرين في شعاراتها وما طرحته من برامج للتغيير، ما تصور معه أنها ستكون السبيل إلى عالم جديد ومستقبل مشرق وضاء تعجل وصوله، دون تقدير أو حساب. ومن واقع ما راوده من أحلام، وما نسجه من وحي خياله، ارتبطت قصصه التي نسجها من مفردات الرحلات البحرية والمغامرات العجيبة المدهشة التي طالما تلاعبت أحداثها بخيالات الصغار من عشاق أدب ألكسندر جرين. ولعل ما قاله معاصروه حول أن تركيز غرين على اعتماد الإغراق في الأحلام والخيال مصدر لإبداعاته وروائعه، كان واحداً من أهم ظواهر ذلك الزمان، وما كان يروم من تغيير. وفي هذا الصدد قال الأديب السوفياتي-الروسي قسطنطين باوستوفسكي: "إن المرء إذا ما افتقد القدرة على الحلم، فإن ذلك لا بد أن يعني فقدان واحد من أهم الحوافز القوية لعوامل خلق الثقافة والفنون والعلم والرغبة للنضال في سبيل مستقبل مشرق". لكنه سرعان ما تدارك مخاطر الإغراق فيما لا صلة له بالواقع، ليقول إن الحاجة إلى حالمين تفرض في الوقت نفسه، ضرورة ارتباط ذلك بتوفير القدرات اللازمة على تحقيق ما يراودهم من أحلام وبما يتسق مع فرضيات الواقع المأمول. وفي أناقة مفرطة تصور الأديب الروسي عالم غرين، مجتمعاً من الحبورين المخلصين الشجعان، لا يمكن إلا أن يكون واقعياً قابلاً للتطبيق. وبمفردات شاعرية قال: "إن الإنسان الذي ذاق دوار الرأس الخفيف الذي يصيبه من أول جرعة هواء يحمل ملوحة ودفء شاطئ البحر، لا بد أن يسقط عن غير إرادة أو سبق إصرار في شرك واقعية عالم جرين، وما يحفل به من مناظر طبيعية، وأقاصيص تبعث في المرء الرغبة في الحياة بكل آفاقها المسكونة بالمغامرات، والعامرة بمشاعر السمو بالنفس، وذلك ما تتسم به الغالبية الساحقة من الباحثين والملاحين والرحالة".

ونترك ألكسندر غرين، ونتحول من الأدب إلى الفن وعوالمه مع من ارتبط بالقرم منذ مولده.

 إيفان إيفازوفسكي الفنان

ذلك هو إيفان إيفازوفسكي ذلك الفنان الروسي الأوكراني، الأرميني الأصل الذي ولد لأبوين أرمينيين يحملان لقبهما الأرميني إيفازيان. ولد إيفان أو هوفهانز إيفازيان في مدينة فيدوسيا على شاطئ البحر الأسود في شبه جزيرة القرم في يوليو (تموز) 1817. وفي فيودوسيا على الشاطئ الجنوبي للقرم تفتحت مواهب إيفازوفسكي. هناك امتلك الفنان الأرميني الذي بدا متعدد القوميات، العديد من البيوت والمساكن التي جعل كلاً منها عامراً بورش العمل التي طالما كانت شاهدة على بزوغ نجم شديد الإبهار، بكل ما أبدعته ريشته من صور ولوحات تَجسد فيها البحر بكل ما كان يموج به من سفن ومراكب واختلطت فيها الأمواج مع ما حفها من جبال، وما انصهر على مقربة منها من مدن ومساكن.

ومن القرم انطلق إيفازوفسكي في رحلات طويلة زار خلالها كلاً من "روما، ونابولي، وسورينتو، وفينيسيا" ليعود إلى الوطن محملاً بزاد فني كثير الإبهار، ولم يكن بلغ السابعة والعشرين. ولم يمض من الوقت كثير حتى فاجأ إيفازوفسكي عشاق فنه ومريديه بقراره حول الابتعاد عن موسكو وسان بطرسبورغ ليتخذ القرم موطناً ينطلق منه لإقامة كثير من معارضه الفنية في لندن وباريس وغيرهما من العواصم الأوروبية التي حظي فيها بتقدير معتبر، وشهرة واسعة النطاق.

وشأن الأصدقاء والرفاق من رموز العصر، عاد إيفازوفسكي ليستقر على مقربة من فيودوسيا في قصر منيف حرص على أن يكون مزاراً لكل قرنائه ومحبيه، مثلما كان مسكنه في فيودوسيا عامراً بالضيوف والزوار، ومنهم "أمير القصة القصيرة" أنطون تشيخوف، و"فيلسوفا المسرح الروسي" قسطنطين ستانيسلافسكي، ونيميروفيتش دانتشينكو، والأول بين أقرانه من السوفيات الحائزين لاحقاً على جائزة "نوبل للآداب" إيفان بونين، وكاتب القصة الذي تحول من الصحافة إلى عالم الأدب ألكسندر كوبرين، والشاعرة المتميزة مارينا تسفيتايفا، وبطبيعة الحال الكاتب الحالم ألكسندر غرين.

مارينا تسفيتايفا الشاعرة المجددة

ولم نكن لنغفل في استعراض "نجوم القرم من حبات العقد الفريد"، مارينا تسفيتايفا، الشاعرة وكاتبة المسرحيات الغنائية الموهوبة، التي قال عنها الأديب والمترجم العربي المتميز نوفل نيوف إنها "تظل الألمع بين شعراء "العصر الفضي" الروسي ومنهم أندريه بيلي وفاليري بريوسوف وأنا أخماتوفا وبوريس باسترناك وسرغي يسينين وفلاديمير ماياكوفسكي، وغيرهم من نجوم ذلك الزمان". وكانت مارينا تسيفتايفا ولدت في أسرة فنية لأب فنان ولع بالفنون وأم تنظم الشعر وتهوى الموسيقى، فيما كانت عازفة بيانو متميزة. ولعل النشأة في كنف مثل هذه الأسرة أسهمت كثيراً في صياغة شخصية شاعرتنا المتفردة منذ نعومة أظافرها كما يقال. ولما كان الحديث يدور في معظمه عن أولئك الحالمين من محبي أوساكني أوضيوف شبه جزيرة القرم، فإننا نتوقف عند تلك الفترة التي ارتبطت فيها تسفيتايفا بهذه المنطقة في رحلة بحثها عن العلاج والمناخ المناسب لصحة الأم بعد جولات طوال زارت خلالها مختلف المصحات الأوروبية في "ألمانيا، وتشيكيا، وإيطاليا، وفرنسا" التي أقامت فيها لما يزيد على الأربع عشرة سنة لينتهي بها المطاف في القرم التي وجدت فيها زوج المستقبل سيرغي إفرون، بعد جولات أدبية عاصفة تعرفت خلالها على أبرز شعراء المرحلة ممن أشرنا إلى بعضهم عاليه.

وننقل عن نوفل نيوف ما كتبه عن تسيفتايفا: "إن ما نظمته من أشعار ومسرحيات غنائية وجد طريقه إلى النشر في الصحافة الدورية الأجنبية ومنها ما كتبته في موسكو مثل "القدر" و"نهاية كازانوفا" إلى جانب الملاحم الشعرية مثل "ملحمة الجبل" و"ملحمة النهاية" و"ملحمة الهواء" وملحمة "سيبيريا". وبحكم معارفها الثرية ومعرفتها بكثير من اللغات الأجنبية، ومنها الألمانية والفرنسية عكفت تسفيتايفا على ترجمة الأغاني الثورية الروسية والألمانية والسوفياتية، فضلاً عن قصائد الشاعر الضابط الروسي الثوري ألكسندر بلوك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى الرغم من الفترة القصيرة التي ارتبط فيها مصير تسفيتايفا بشبه جزيرة القرم مقارنة مع غيرها من كل القامات الأدبية والفكرية السامقة التي ارتبطت بالقرم، ومنها من أشرنا إليهم عاليه، فإن ما قضته هناك من سنوات لم تتعد 12 سنة، يظل مسجلاً بحروف أدبية شاعرية تحفظ لها موقع الصدارة بين هذه القامات. وكانت زارتها للمرة الأولى ولم يكن عمرها تجاوز 11 عاماً مرافقة لأمها المريضة. وتقول ماريا إنها وقعت في غرام عدد من مدنها ذات التواريخ العريقة ومنها "يالطا، وكوكتيبيل وسيفاستوبول، وفيدوسيا" التي حرصت فيها على المشاركة والتفاعل مع منتدياتها الشعرية والأدبية. ومع القرم ارتبط كثير من أهم تواريخ سيرتها الذاتية ومنها موت أمها، ولقاؤها مع زوج المستقبل، ولقاءاتها مع كثيرين من الأدباء والشعراء والفنانين الروس، وما نجم عن ذلك من إبداعات شعرية وغنائية، تظل حتى اليوم من التراث الأدبي الخالد للدولة الروسية. 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة